الجمعة 17 مايو 2024
مجتمع

تاريخ الحجر الصحي: من الكُردون "التطويق" إلى تنظيم قوانين "الكرنتينة" (2)

 
 
تاريخ الحجر الصحي: من الكُردون "التطويق" إلى تنظيم قوانين "الكرنتينة" (2) الأستاذ هشام بنعمر بالله وعمل فني يؤرخ للحجر الصحي

تقدم جريدة "أنفاس بريس" لقرائها الأوفياء هذه السلسة من المقالات التي توصلنا بها من الأستاذ هشام بنعمر بالله، متخصص في البحث التاريخي.

ويوضح الأستاذ بنعمر بالله بأن هذه المقالات "محاولة بسيطة للتأريخ لأنماط الاستجابة للأوبئة في المجال المتوسطي، ومنطقة المشرق الإسلامي خلال الفترة ما بين 1347 و1851م.. ورغبة شخصية في تقاسم المعرفة التاريخية في الزمن الكوروني"...

سلسلة من خمسة مقالات محاولة من هشام بنعمر بالله أيضا لفهم "سياسة احتواء الوباء مع تمديد فترة الحجر الصحي بالمغرب إلى غاية 20 ماي 2020."

في هذا السياق يقول الأستاذ بنعمر بالله المتخصص في البحث التارخي بأن "هذه الورقة لا تستهدف سرد تاريخ تفشي وباء الطاعون وموجاته في حوض المتوسط، والمجهود الطبي الذي بدلته الهيئات الطبية المختلفة في أوروبا لدراسة المرض و تحديد العلاجات الأساسية للوقاية منه".

 

تعزيز تدابير "مفهوم النظام" وتقنين إجراءات الحجر الصحي (الكرنتينةQuarantine ) في المدن الإيطالية

 

كانت إيطاليا مهددة باستمرار بانتشار "الموت الاسود" بسبب أسطول سفنها التجارية الذي راح يمخر عباب البحر الابيض المتوسط طولاً وعرضاً، وتشعب علاقاتها التجارية الممتدة من خلال شبكة معقدة من الموانئ و الطرق البرية و النهرية في العالم القديم : (اوروبا/ آسيا/ افريقيا).

 

ـ كانت جمهورية "ميلانو" أول مدينة مارست العزل القسري عندما ظهرت الحالات الأولى للإصابة بالمرض سنة 1373م حيث قام الطاغيَّة "برنابو فيسكونتي" (Bernabo Visconti) بحصار بلدة "ريجيو نيل اميليا" (تبعد عن ميلانو بحوالي 150 كلم) التي سجلت فيها حالات الإصابة بالوباء وأقام حولها حزاماً (كردون/ طوق صحي) لتطويق "الوباء" بواسطة الجنود، وقطع عنها طرق المواصلات والاتصال بباقي مناطق الجمهورية، كما منع دخول و خروج الافراد منها.

عندما أثبت الإجراء عدم فعاليته انتقل الحاكم إلى تعزيز التطويق بإجراء "العزل المنزلي"، حيث غلَّق أبواب ونوافد البيوتُ التي تظهر فيها حالات الإصابة بالوباء إلى حين فناء قاطنيها أو نجاتهم من الموت.

نفس إجراءات العزل ستلجأ إليها، سنة 1578م، انجلترا لاحتواء تفشي الوباء حيث فرضت أيضا تدابير العزل المنزلي على أسر ضحايا الطاعون. فقد أمرت الحكومة بغلق أبواب المنازل الموبوءة بألواح خشبية ومنعت خروج قاطنيها إلى الشارع العام، وفرضت أن تتدلى السِّلل من النوافذ للتزود بالمواد الغذائية الضرورية، كما تقرر إقرار حكم الإعدام في حق كل مصاب بالوباء وجد بالشارع العام.

 

ـ في سنة (1374م) ستتعزز إجراءات الوقاية حين أصدر حاكم "ميلانو" مرسوماً يلزم شيوخ القرى ومسؤولي الأحياء والأطباء والحلاَّقين وجميع المكلفين بالخدمات الصحية في الاديرة والكنائس بإعداد قوائم يومية بأسماء المرضى والمصابين بالطَّاعون، كما قام بتنظيم أول عملية في تاريخ أوروبا الغربيَّة لتطهير البضائع في الاسواق.

 

ـ في سنة 1377م أُنشئت مدينة "البندقية" أول منشأة للحجر الصحي البحري للسُّفن التجارية في ميناء "راغوسا"Raguse  (أو ديبروفنيك Dubrovenik في منطقة دالمسيا/ كرواتيا) الخاضع لسيطرتها، وكان الغرض الأصلي من الحجر حصر الوباء ومنع وصوله إلى مدن الشمال الإيطالي، وليس عزل المرضى المصابين.

كانت مدة الحجر الصحي في البداية شهراً واحداً ( 30 يوماً) وانتقلت بعد ذلك الى 40 يوماً (مدة الحجر الصحي الرسمية) ومنه اشتق الاسم الذي عرف به الحجر الصحي " الكرنتينة" (Quarantine).

 

ـ أما في البندقيَّة فقد تمَّ في حدود سنة 1423م تجميع وعزل المسافرين والبحارة القادمين من المناطق الموبوءة داخل منشآت الحجر الصحي، وكانت عبارة عن مشافي (Lazaret) حيث قرَّر المجلس الأعلى تخصيص دير"سان ماري دي نازاريت" (Saint Marie de Nazareth) لعمليات الحجر الصحي، وكلف طاقم تمريض من مشفى البرص في الجزيرة ذاتها بالمهمة. وبذلك يعتبر الدير المذكور أول مؤسسة رسمية للحجر الصحي في عموم بلدان أوروبا الغربية و حوض البحر الابيض المتوسط لعزل المصابين بالطاعون.

 

ـ في حدود سنة 1486 م سيتم إنشاء "مشفى الطَّاعون" الثاني في جزيرة "سان ايراسمو" (Saint Erasme)  أنيطت مهمة العناية فيه بالمرضي بطاقم من المدنيين الذين كانت مهمتهم تقوم على مراقبة طواقم السفن التجارية والبضائع، وخوَّلت لهم المجلس الصحي للمدينة (البندقية) سلطات واسعة لمصادرة شحنات الصوف والحرير والكتان وتعريضها لأشعة الشمس، واستخدام الخل وغيره لغمر القطع النقدية والمجوهرات والأحجار الكريمة، كما أنَّ المشفى الجديد أنيطت به مهمة استقبال المتعافين من الوباء في "مشفى نازاريت" الذين يخضعون فيه لحجر صحي مدتُه 40 يوماَ قبل السماح لهم بالعودة إلى البندقيَّة.

في نفس السنة أنشئت أول محكمة للصحة في البندقية وخولت قوانين المدينة للمسؤولين عنها عدة مسؤوليات منها: مراقبة عمليات الحجر الصحي داخل منشآت العزل (Lazaret)، والفنادق ومحلات بيع الأطعمة واللحوم، ومساكن الفقراء، وتسليم أو سحب الشهادات الصحية المسلمة للسفن التجارية، ومطاردة المتسولين، والإشراف على المراقبة الصحية لدور الدعارة ومحلات بيع الملابس والأثاث المستعملة، وعمليات الدفن ومراقبة المقابر ...

 

لقد كانت تجربة المدن الايطالية فريدة ومبتكرة في مجابهة "الطاعون" ونقلت تجرتها الفريدة في تطويق الوباء إلى معظم الدول في أوروبا الغربية التي راحت تستنسخ هذه التجربة للحد من خسائر "الوباء المميت" القائمة على:

 

- تعزيز الصحة العامة داخل المدن.

- تشديد عمليات الحجر الصحي في الموانئ.

- عزل المناطق الموبوءة (أحياء/ شوارع/ بلدة/ قرية...).

- إنشاء معازل/ مشافي لاستقبال المرضى (مشافي الطاعون)...