Sunday 23 November 2025
جالية

مغامرة معلم مغربي في أمستردام.. بداية جديدة في عالم التعليم الهولندي

مغامرة معلم مغربي في أمستردام.. بداية جديدة في عالم التعليم الهولندي مصطفى الخداري، نائب مدير في التعليم الهولندي

كان قد مضى يومان فقط على وصول الطائرة التي أنزلتني هنا.بأمستردام. لم تكن رحلة عطلة، ولا زيارة عائلية، بل بداية فصل جديد في بلد سأتعرف إليه بطريقة لا يعرفها إلا من يمتهن التدريس: عبر الفصول، الفوضى، والكتبوعبر قهوة أشد من جرأتي.

بعد أن حصلت على الايداع الايداري لمدة سنة, اجتاحني ثقل القرار الذي اتخذته. كان الأمر شبيها بخطوة تنتزع من عمق القلب. خطوة لا رجعة فيها. هاجرت مدرستي التي شكلتني, وودعت مدينتي التي حفرت طرقاتها في ذاكرتي, وغادرت أهلي وأصدقائي الذين كانوا ظلي في كل مسار. وحتى مقهى "كونتيننتال", ذلك الركن الهادئ الذي كان يجمعني بالأصدقاء كل مساء بعد العمل, اضطررت أن أتخلى عنه, وكانني أودع آخر خيط يربطني بأيامي القديمة.

خرجت من دفء المألوف لأشرع في حياة جديدة, مختلفة تماما عن كل ما عهدته. كأنني أعيد نسج ذاتي من خيوط مجهولة, وأعيد ترتيب الروح في فضاء لم تعرفه من قبل. ومع كل هذا الثقل, كان بداخلي نور خافت يلمع... نور يقين بأن البدايات الشاقة هي التي تنحت أقوى الحكايات.

في ذلك الصباح، سلكت الطريق نفسه الذي سلكته بالأمس: قطار من "ووردن" إلى أمستردام, "مايدربورت"، نزول على الدرج، انعطافةعلى اليسار، مرور فوق ممر الدراجات، فالطريق العام، فقضبان الترام ومسار الحافلات، ثم الرصيفكأنني أخوض لعبة نجاة في نسخة حضرية. وبعد الشارع الثالث على اليمين ظهر المبنى: جديد، لامع، خالٍ من كل شيءومستعد لابتلاع تجاربي التعليمية المقبلة.

كانت ساحة المدرسة صامتة، والتلاميذ ما يزالون في عطلتهم. غدًا سأبدأ رسميًا كمدرّس، أما اليوم فأناالوافد المغربي الجديدالذي سيُضاف إلى الفريق التعليمي.

دخلت الفصل.  كان واسعًا وفارغًا إلا من بعض الصناديق في زاوية. رائحة الجِدّة تملأ المكان: الجدران، الكراسي، الطاولات، وحتى النوافذ التي بدت وكأنها ترحب بي:

 "مرحبًا مصطفى، هنا تبدأ مغامرتك الهولندية".

بداخل القسم, كان هناك حوض وصنبور بماء ساخن وبارد، مناديل، ستائر، وخزانة للكتب. مررت بأصابعي على كتب عربية قادمة من مصر والمغرب، وإلى جانبها كتب هولندية تحاول أداء الدور نفسه بأسلوب مختل.. كان المشهد كأنه لغتان تلتقيان للمرة الأولى في خزانة واحدة.

وفي لحظة، وجدت نفسي كعالم آثار، يُفتّش بين الكتب بحثًا عن لغة جديدة وروح جديدة. وكل كتاب كان يشعرني بأنه كنزأو لغز ناقص القطع.

مدرستي الهولندية الأولى كانت عالمًا آخر مقارنة بمدرسة قريتي في المغرب: مطبخ حقيقي، غرفة للمعلمين، غلاية ماء كهريائية، ميكروويف، وكذلك غسّالة!

ظللت أراقب كل شيء بصمت، مندهشًا كطفل صغير.

وفي منتصف اليوم، دخلت طانيا، نائبة المدير، بسرعة قائلة:

"إنه وقت الغداء"!

اتّبعتها نحو غرفة المعلمين. كان المكان خليطًا بشريًا طريفًا: شباب يلتهمون شطائرهم دفعة واحدة، وسيدات يحتسين الشاي بوقار وكأنه طقس يومي مقدس.

قدّمت نفسي قائلًا بالفرنسية: " إسمي مصطفىى".  لم أجرؤ بعد على الهولندية. تبادلت المصافحات والابتسامات مع الجميع بينما أحاول يائسًا حفظ الأسماء.

بدأ كل واحد منهم في تناول شطيرته من علبة صغيرة أو كيس بلاستيكي شفاف. أما أنا، فلم يكن لدي شيء. كنت أتساءل بصمت: "هل هناك غداء آخر؟ هل سيأتي أحد بطبق إضافي؟"

 لكني كنت جديدًا جدًا على السؤال، وفي فرعيتي  بالمغرب لم أسأل قط عن الغذاء,.... لأن الغداء كان يأتي دائمًا.

بعد نصف ساعة أدركت أنها ستكونوجبة صيام إجبارية وغير مخططة”.

قدّموا لي الشاي. لكنه لم يكن الشاي الذي أعرفه: لا نعناع، لا سكر، لا حبوب الشاي الأخضر.  مجرد ماء ساخن وكيس صغير. فعلت مثلهم، وضعت الكيس في الكوب وارتشفتوفكرت:  "هكذا إذن يبدأ التغيير".

بعد ثلاثة أيام، اكتشفت السكر في زاوية مخفية في مطبخ المعلمين. كان اكتشافًا صغيرًا لكنه بدا لي كاحتفال سري. أما ملاعقي الثلاث الأولى من السكرفكانت لحظة انتصار شخصية.

امتلأت غرفة المعلمين بلقطات خفيفة: زميل يتعثر بكيس، آخر تسقط منه شطيرته، وضحكات لطيفة تنتشر بين الحاضرين. كوب الشاي وشطيرة بسيطة كانا بمثابة بوابة إلى عالم جديد. عالم أكون فيه معلّمًاومتعلّمًاوأحيانًا عنصرًا فعالا.

أنها بداية مغامرة جديدة فعلا:

المدرسة جديدة، وأنا جديد، حتى الشاي بلا سكر كان جديدًا عليّ. لكن الأهم من كل ذلك: أن هذه هي بداية رحلة طويلة ومثيرة في التعليم الهولندي. رحلة فيها الدعابة، والفوضى، والتعاون، وطقوس صغيرة تمنح اليوم معنى.

ومن يدري،  ربما كانت واحدة من أجمل مغامراتي.