الأربعاء 27 نوفمبر 2024
كتاب الرأي

بنجلون: لقد آن الأوان كي تسترجع المحاماة هيبتها

بنجلون: لقد آن الأوان كي تسترجع المحاماة هيبتها عمر محمود بنجلون
كانت طبيعة العلاقات بين المحامين تعبيرا على صحة الجسم المهني، تكرس فضاء مستقلا عن المؤسسات والمجالات السياسية والاقتصادية المتعددة، من أجل التأثير عليها في الوقت ذاته.
لذلك يعتبر اجتماع المحامين على اختيار طليعتهم المهنية زمنا مؤسسا لدولة الحق والقانون شريطة الارتقاء بالمهنة إلى سلطة مضادة بآلياتها ونظمها ومواردها ولم لا بدسترتها مستقبلا، لرد الاعتبار لها كسلطة مكتملة الأركان تتعايش وتتفاعل مع المؤسسات الحكومية والتشريعية والقضائية من خلال نشر العدل والحق والدفاع عن الحريات وبناء اقتصاد سيادي. ينبني هذا التحدي على الارتباط الأخلاقي بين الزميلات والزملاء المحاميات والمحامين على أُسس قيمية ووعي جماعي موحد لتقوية المحاماة داخليا من جهة، ومواجهة العولمة التي تهدد السيادة الوطنية وما يترتب عن ذلك من آثار من جهة أخرى. 
ترتكز هذه الجدلية على شرط تمكين المهنة داخليا في جبهتين متكاملتين وهي المنافسة والحصانة. ويتوجب اليوم تفعيل المبدأ التاريخي للمحاماة الذي يؤكد على أن ”القانون احتكار للمحامي”، لأن المحاماة رسالة كونية ذات طابع اجتماعي وأخلاقي لا تخضع لهيمنة السوق. ومن هنا يمكن للمحامين التركيز على محورين أساسيين على الأقل، وهما الحدود المهنية والمنافسة غير المشروعة. 
نعم، على المحامي من خلال مؤسساته المهنية أن يحمي المجتمع والدولة من تطاول المهن المجاورة على الصياغة القانونية للعقود والأنظمة، بالترافع على سَن قوانين أو بلورة اجتهادات قضائية في هذا الاتجاه، على غرار الحدود المرسومة من قِبل محكمة النقض الفرنسية بين المحامين و الخبراء المحاسبين، فيما يخص العقود التجارية، أو القوانين المصرية والفلسطينية التي تفرض إلزامية مصادقة المحامي على القوانين الأساسية للمؤسسات في مراحل التأسيس أو التعديل لأنظمتها الداخلية. ومن أجل بلوغ هذه الأهداف يتعين حماية المهنة واختصاصاتها ورسالتها مما يضعفها، كالمكاتب الدولية التي تحتكر الاستشارة وتدفع في اتجاه خوصصة التشريع البرلماني والتقنين الحكومي، أو السلوك الطفولي المتربص على اختصاصات الدفاع من قِبل شركات التحصيل التي تتدخل في حقوق وواجبات الشخصيات المعنوية والفردية أمام القضاء، أو المهن المجاورة التي تتعدى صلاحياتها بتطاولها على ما هو من ضمن اختصاصات المحامي منذ حضارة بابل. إنها أمثلة كثيرة تخفي نية مبيتة في تحجيم المحاماة بمحاولة خلط رسالتها مع الصيغة الخدماتية التي تُروج لها منظمة التجارة العالمية وبعض التقارير مثل تقرير الذي أعده ”جاك أطالي”، مستشار الرئيس الفرنسي السابق فرانسوا ميتران، بتكليف من الرئيس السابق نيكولا ساركوزي المتابع حاليا قضائيا، الذي حاول من خلاله إقناع رئيس فرنسا “تحرير” مزاولة المحاماة من أي ضوابط.
هذا التوجه المصلحي العالمي في هدم مكتسبات الدفاع بصفته قادرا على تحقيق التوازن من خلال مهنة مستقلة و قوية، يتمثل في تقويض قوى الممانعة داخل المجتمع، ومن أهم هذه القوى مهنة المحاماة التي تُعد درع المقاومة ضد جبروت السوق وشطط السلطة. 
فاذا كان العمل الديبلوماسي محصنا بالمعاهدات الدولية كمعاهدة فيينا، والعمل القضائي محميا بقوانين الحصانة القضائية، فالمحامي ما زال عرضة لأنواع متعددة من التعسف والإهانة انتقاما من تجسيده للممانعة المنشودة. في هذا الباب استطاعت تونس الشقيقة أن تعطي درسا للعالم بدسترة مهنة المحاماة وحصولها على جائزة نوبل للسلام، ولمسنا كمحامين مغاربة في مشاركتنا في اتحاد المحامين العرب في مارس 2019 كيف أحاط قصر قرطاج الرئاسي مؤتمرنا برعاية خاصة وكيف استقبل الرئيس الفقيد الباجي قايد السبسي السادة النقباء كزميل لهم من جيل المؤسسين لمهنة المحاماة بتونس بعد الاستقلال مع الفقيد الحبيب بورقيبة.
الغاية هي تحصين المحاماة من أجل التوازن بين الدولة والسوق، لتكون الحَكَم في إطار العولمة الاقتصادية، و محفزا لعولمة بديلة تتمحور حول حقوق الإنسان ودولة الحق والقانون.
حان الوقت أن تنخرط مهنة الدفاع في أعلى مستويات التراتبية داخليا وعلى الصعيد الدولي، مما يتطلب التقاء فرسان العدالة على تصور مشترك من أجل رسالة نبيلة تُوازن بين الواقعية الاقتصادية والقيم الكونية، بعيدا عن الترويج لعزل المهنة عن تفاعلها السياسي والفكري والايديولوجي، لفرض الذات في المؤسسات الدستورية التي تقرر في الشأن المهني من منطلق سياسي واقتصادي محض، وفرض ذلك الاحترام المفقود على الفرقاء مِمَن لهم الصفات الضبطية والقضائية والإدارية في سير العدالة والمؤسسات، وكذلك الرأي العام الذي يرتاب من المحاماة نتيجة بروباغاندا مٌمنهجة من الأوساط المعادية لها.
في مقولة شهيرة اقتبسها المحامي الفرنسي ”جاك فيرجيس” من قيدومه الروماني” سيسيرون”، يدحض سوء فهم الرأي العام، في قدرة الدفاع على مؤازرة ظواهر الخلل المجتمعي، ورد فيها: ”عالج أبوقراط، أب الطب المرضى وليس المرض. وكذلك المحامون لا يدافعون عن الجريمة بل على من يرتكبها”.
فالمحامي يعطي للمحاكمة العادلة الكلمة الأخيرة، بشرط أن لا تكون عرضةً للتشهير والاستغلال الموازي. المحاماة مهنة حرة -بالمعنى الفلسفي للحرية- في طليعة المعارك من أجل دولة الحق والقانون. وها هنا تزول المفارقة بين الجوانب المهنية والشخصية والسياسية للمحامي لأن المحاماة هوية في حد ذاتها، واعتبارا لما يقدمه المحامون للعدل في جهد مستمر يجعلنا نرفع الصخرة إلى القمة على التوالي رغم تدحرجها، كما جاء في الأسطورة الإغريقية التي تمثل صورة المثابرة والإخلاص من خلال استماتة ”سيزيف”، ابن ”إيول”، الذي يحاول رفع الصخرة إلى الجبل فتهوي ليعيد الكرة مرة أخرى بشكل لا منتهي.
واجه المحامون دوما المتناقضات في محاكمات لا منتهية من أجل الحقيقة، بهدف المحاكمة العادلة و الحفاظ على الكرامة الإنسانية وصون حق التعبير أمام الاتهام وتهديد العقوبة بالانتقام من المتهم، بحيث إن الأهم من وقائع القضية وضحاياها ترسيخ القناعة بوجود العدالة الإنسانية، ليكون المحامي سلطة مؤثرة توازي السلطة الآمرة للقضاء، من أجل بلوغ الحقيقة في صيغة حكم نهائي. إن انتصار المحاكمة العادلة هو الذي يعزز مشروعية المحامي من دون أن يُصنف موكله في خانة الخير أو الشر. فمرجعيته الأخلاقية المفترضة هي العدالة المستقلة وليس الحكم المسبق أو العاطفة التي تغدي ”المحاكمات الشعبوية”.
دور المحامي هو إرساء الحقيقة أو رد الاعتبار لها، هو توجيهها لمسار إيجابي يضع المتقاضي في الجانب الصحيح للتاريخ، رغم وجود مجتمعات او مؤسسات تحرمه من حق حضاري ودستوري ألا وهو حق الدفاع.
دور المحامي يتمثل كذلك في قدرته على المصالحة وفق القاعدة اللاتينية التي تقول إنه ”من الأرجح أن يكون هناك صلح ناقص على أن تقام محاكمة كاملة”، دعما للاستقرار القضائي وحمايةً لنسيج العلاقات الاجتماعية المتداخلة والمتجددة، ليكون المحامي ذلك الخيط الناظم بين المجتمع ومختلف شرائحه والمؤسسات، لتَشَبُعِه بالقيم الكونية.
إن الرهانات جسيمة، و”على الأجيال القادمة أن تلج الهيئات المهنية والمدنية والتمثيلية من أجل الدفاع على المستقبل”، كما قال الشهيد شكري بلعيد المحامي التونسي الشهير أسابيع قبل اغتياله.
نعم، لقد آن الأوان كي تسترجع المحاماة هيبتها.
 
عمر محمود بنجلون، عضو مكتب جمعية هيئات المحامين بالمغرب