احْتَرْتُ في العلامة المُعَبِّرة التي أضعها أمام عنوان المقال: نقطة (.) بمعنى انتهى بلغ مقصده، أو تَعَجُّب (!) المثيرة للاستغراب، أو استفهام (؟) التي تُعيد الوضع إلى بداياته في غيابٍ الجواب.
تساؤلات مشروعة وحرجة:
تنطلق من الاستفهام حول ما إذا كانت الرحلة الانفصالية للبوليساريو لازالت متواصلة وإلى أين؟ أم أنها استنفدت طاقاتها وخَفُتَ بريقها بعدما انتفت مبررات وجودها على أرض الواقع؟ وهل من قادتها من هو قادر على تغيير مسار الرحلة وانتشال الجبهة من أزمتها؟ خاصة في ضوء المتغيرات الجدرية لملف الصحراء إثر قرار مجلس الامن الدولي الحاسم رقم: 2797/2025 ـــــ31 أكتوبر 2025، الذي اعتبر مبادرة الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية الحل الوحيد لتصفية هذا النزاع؛ وبالتالي أغلق الباب أمام أية طروحات أخرى خارج هذا المسار.
فهل هذه المعطيات الواقعية كفيلة بأن تدعو قيادة الجبهة لإحكام العقل والتطلع نحو المستقبل ولَمِّ الشمل إذ لا أفق أمامهم سوى الاستعداد لبحث آليات الوصول إلى محطة الوحدة، والانخراط في حوار بناء حول مضامين مشروع الحكم الذاتي...؟
هل آن الأوان لجبهة البوليساريو أن تأخذ بزمام القرار وتتخطى عقبة الجزائر، وتأخذ العبرة من كون المنتظم الدولي اليوم يخاطب الجزائر لا غير؛ كما أن على الجبهة أن تلتفت إلى الموقفين الجنوب الإفريقي والإيراني اللذين اتهما القيادة الجزائرية بخذلان الجبهة والتخلي عن القضية أمام المنتظم الدولي بعدم التعبير عن موقف حاسم برفض القرار، مما سيكون له تأثير بالغ على مواقف من تبقى من أصدقاء الجزائر. في ظل هذه الأسئلة المتداخلة يبرز سؤال متجدد كيف ومع من يجري الحوار ومن يملك القرار...؟
دعوات مدنية مغربية للحوار الثنائي المباشر:
في ظل هذه الأجواء ارتفعت أصوات مغربية من طرف بعض السياسيين والإعلاميين تدعو الحكومة المغربية إلى فتح حوار سياسي مباشر مع قادة البوليساريو، بغاية الانصات لطروحات ومطالب الجبهة، وتبادل وجهات النظر وصولا إلى تفاهمات ثنائية وأرضية مشتركة تراعي مصالح الجانبين، بمعزل عن الخلافات القائمة بين الرباط والجزائر، بشكل يساعد على التقارب بين الجانبين ويُغَيِّر لغة التصعيد إلى لغة السلم والتواصل وخلق أجواء التقارب.
خطاب الرفض والممانعة عند البوليساريو:
مثل هذه الدعوات تدفعنا الى التفكير ومساءلة الطرف الآخر على المستويين النظري والواقعي، وعلى حجم مطالبه واللغة التي يدار بها النقاش وعلى أية أرضية سياسية، وفيما إذا كان يتقاسم مع المغاربة نفس القناعات والرغبة في الحوار والتوصل إلى حل، انطلاقا من مشروع متقدم للتسيير والتدبير الذاتي، في إطار مناخ ديمقراطي ومجتمع موحد يجسد الخصوصية التاريخية والوطنية، أما خلافا لذلك فما دواعي الحوار وغاياته.
وهنا أود التذكير بتصريح لزعيم البوليساريو، ابراهيم غالي، يُنكر فيه مَغْربِيَّتَه في رَد صريح ليس فقط على مبادرة الحكم الذاتي بل يذهب إلى أبعد من ذلك حين يقول:" أولا نحن لسنا مغاربة حتى يُعْطَى لنا الحكم الذاتي، الحكم الذاتي عادة حلول تُعْطى لمناطق متمردة داخل دولة معينة، نحن قُلنا لم نَكُن مغاربة، ولسنا مغاربة ولنْ نَكُنْ مغارِبة، ومَغْرَبَتُنا بقوة القمع والسلاح جُرِّبَتْ ل 45 سنة فَلَم تُجْنَ منها أية ثمرة نحن لسنا مغاربة بصريح العبارة حتى يعطى لنا الحكم الذاتي". المشكلة تكمن أيضا في أن بعض قيادات الجبهة المُتَبَنِّية لأطروحة الانفصال لا تزيدها الأيام إلا صلابة ورسوخا وقوة، تجعل من الحوار معها يسير في اتجاه الباب المسدود.
ومعلوم أن البوليساريو سارعت الى إصدار بيان شديد اللهجة ضد قرار مجلس الأمن 2797 مؤكدة أنها: "لن تكون طرفاً في أي عملية سياسية أو مفاوضات تقوم على أي مقترحات تهدف إلى إضفاء الشرعية على الاحتلال العسكري المغربي غير الشرعي للصحراء الغربية وحرمان الشعب الصحراوي من حقه غير القابل للتصرف وغير القابل للمساومة أو التقادم في تقرير المصير والسيادة على وطنه". المتتبع لهذه الأحاديث العدمية لدرجة الغلو يصاب بالخيبة، بعدما ذهبت البوليساريو بعيدا في رؤيتها الانفصالية المتطرفة، متشبثة بنهجها الرافض لكل أشكال الحوار خارج سياق تقرير المصير.
أصوات صحراوية مناوئة للانفصال:
لكن ومن باب الإنصاف فليس كل قادة البوليساريو على مِلَّة هذا "الإبراهيم الغالي" فهناك العديد منهم، لا يتقاسمون معه نفس الرؤية فيتنكرون لمغربيتهم، فمنهم من يؤمن بالحوار وبالعودة إلى الوطن الأسرة والقبيلة، تَوَّاق لوضع حد للنزاع، داعيا للاستفادة من المبادرة المغربية للحكم الذاتي والقبول المبدئي بها في إطار الحل الوطني الديمقراطي الــمُؤَسس للجهوية الموسعة المتقدمة على قاعدة المواطنة الكاملة، بدلا التخندق في حضن مشروع انفصالي تبدد دوليا، ونظام جزائري أبان عن عجز دبلوماسي فاضح إبان فترة ولايته الباهتة داخل مجلس الأمن الدولي في عِزِّ المواجهة مع المغرب ( 2024/2025).
ولنا في كبار قادة البوليساريو الذين اختاروا العودة إلى الوطن خير مثال على تلك الشهادات الحية: إبراهيم حكيم، عمر الحضرمي، الشيخ بيد الله، البشير الدخيل، أيوب لحبيب، ولد سويلم، يحضيه بوشعاب، مربيه ربه، نور الدين بلالي، كجمولة بنت أبي، مصطفى بوه (الملقب البرزاني)، المحجوب السالك، مصطفى سلمى ولد سيدي مولود، وغيرهم من الذين كانوا بالأمس من دعاة الانفصال، فتراجعوا وقرروا بقناعاتهم الالتحاق بالوطن الأم والاشتغال من الداخل كوحدويين، بل هناك أصوات أخرى حتى من داخل البوليساريو والمنشقين عنه، تؤمن بأن الحل الوطني الديمقراطي يتجسد في مبادرة الحكم الذاتي التي تحمل مقاربات متعددة متنوعة تدعم الحل الوحدوي، الذي لا يقتصر الحوار حول مضامينه على البوليساريو، فهذا الأخير لا يمثل سوى إحدى الفعاليات السياسية، التي يمكن تصنيفه كجناح معارض.
البوليساريو يبدو كالشجرة التي تخفي الغابة، فالبوليساريو ليست اللاعب الوحيد في الساحة السياسية الصحراوية، فالحلبة تضم أيضا لاعبين آخرين أقوياء من أبناء القبائل الصحراوية الذين قاموا بنشاط سياسي كبير في حركة المقاومة ضد الاستعمار محافظين على ارتباطهم الوطني والتاريخي بالمغرب، وعلى سبيل المثال لا الحصر: (أسرة الشيخ ماء العينين، الجماني وولد الرشيد وأبناء قبائل الركيبات، العروسيين، تكنة أولاد دليم أدرار ...) لذلك عليهم استحضار هذا القامات الحاضرة المجسدة لحضورها القوي والفاعل في الأقاليم الصحراوية.
التاريخ العدو الأول للبوليساريو:
يظل التاريخ كرمز للحقيقة والشهادة خصما عنيدا، حاضرا أمام البوليساريو ومشروعها المتهافت من "جَبْهة إلى دولة" بدون مقدمات بناء على سرديات "بؤرة ثورية"، لذلك نجد قياداتهم تتجنب الخوض في مسألة المرجعية التاريخية لجبهتهم وللأصول الصحراوية لقاطنة تندوف، وذلك تفاديا للأسئلة الحرجة عن أدوارهم وبصماتهم في الاحداث التاريخية التي شهدتها المنطقة، والتي كانت المملكة الشريفة وسلاطينها عبر قرون حاضرين بقوة في علاقاتهم مع القبائل الصحراوية على أساس قاعدة الولاء والبيعة الموثقة، فضلا عن الأواصر المتينة المبنية على أسس دينية، ومظاهر متعددة للروابط التاريخية التي أسست لجسور التواصل المستمر والمتين. فالصحراء كانت القلب النابض لكل الدول التي تعاقبت على حكم المغرب والمرتبطة أصولها بالصحراء.
لذلك تظل الحقيقة الساطعة أمامنا أن البوليساريو بدون تاريخ، اللهم الاحداث الطارئة التي أملتها المصالح الاستعمارية الاسبانية قبيل عام 1975، وبعدها المواقف والأدوار العدائية من الأشقاء ليبيا والجزائر، ومساعيهم لإقحام أطروحة "شعب صحراوي" مضطهد تقوده جبهة طارئة على المشهد، ليس نصرة لعدالة قضية بل إمعانا في عداء مستحكم ضد المغرب لتفرقته اعتقادا منهم أنه سهل الاختراق.
مقاربات الحوار حول المواطنة:
كانت إحدى نقاط ضعف البوليساريو والجزائر عجزهم على مدى 50 عاما من الصراع عن طرح أي تصور لمشروعهم الانفصالي خارج سياق "الاستفتاء وتقرير المصير"، فجرت محاولات أممية لتطبيق مسطرة الاستفتاء لكن دون جدوى، فتحولت أنظار المنتظم الدولي بحثا عن حل ثالث، فجاء مبادرة الحكم الذاتي 2007، كأهم قرار اتخذه المغرب، حظي بترحيب الدول الكبرى، وتم اعتماده مؤخرا من قبل مجلس الأمن بشكل حاسم، داعيا كافة الأطراف إلى الحوار والتفاوض على قاعدة هذه المبادرة.
هذا المستجد يطرح أمام المغرب إشكالية جوهرية حول المفاهيم التي يحملها البوليساريو، كقاعدة للحوار وكمحدد هيكلي لمفهوم المواطنة التي نرغب في مخاطبتهم بها، باعتبارها المقياس والقاعدة الأساس، لأن هذا المفهوم يقوم بالضرورة على الرافد الصحراوي الحساني كأحد مكونات الهوية المغربية، وعلى اعتبار أن مفهوم المواطنة مقياس أساسي ومحدد هيكلي للهوية، كمدخل يقودنا إلى الوحدة ونبذ الانفصال، إما عبر مقاربة "إن الوطن غفور رحيم" أو الانتقال إلى مقاربة " المصالحة الوطنية"؟ أم على فرضيات أخرى.
وعلينا ألا نغفل أن هناك من يتابع عن كتب من داخل الجبهة وبالمخيمات تطور الأوضاع التنموية بالأقاليم الجنوبية من أمن واستقرار ونماء اجتماعي وعمراني وازدهار اقتصادي، وبات يدرك بحس نقدي ورؤية استشرافية مآلات إقامة "دولة ثورية" من العدم قد تبَدَّدت، وأن المخيمات باتت مهددة بالتمرد والعصيان والانتفاضات والهروب الجماعي بعد طول انتظار ومستقبل محفوف المخاطر.
تصريحات من هنا وهناك باتت ترى أن عناصر القوة في ملف الصحراء يمتلكها المغرب دون منازع وعلى جميع الأصعدة: الأرض حيث السيادة قائمة ومنتهية منذ 1975 تعززت اليوم بالقرار الدولي، ثم الساكنة البالغ تعدادها أضعاف الأضعاف ما هو بالمخيمات، فحسب إحصاء سنة 2024 هناك: 663.375 نسمة، موزعة: جهة العيون الساقية الحمراء: 449.256 نسمة، وجهة الداخلة واد الدهب: 214.119 نسمة، فضلا عن أوراش التنمية والمشاريع الاستثمارية الكبرى والتمثيل الدبلوماسي/ القنصلي المتزايد لدول العالم بالعيون والداخلة، والمؤسسات الدستورية الضامنة للمشاركة السياسية والتمثيلية للساكنة بالمجالس البلدية والجهوية، والبرلمان بمجلسيه النواب والمستشارين، كلها خطوات جد متقدمة، تضعف بشكل كبير البوليساريو، ويُبْرز بأن الجزائر لم تتمكن من التأثير على الواقع بالصحراء اللَّهُم التشويش على الوحدة الترابية بكلفة عالية.
آفاق وتطلعات:
منذ المؤتمر 16 للجبهة المنعقد يناير 2023، وهي تعلن وتردد تشبُّثها بخطها الانفصالي وتكثيف عملياتها العسكرية، بما يفسَّر صعود الخط الراديكالي بالجبهة ضد تيار الحوار والحل التوافقي، لكنها تبدو عاجزة عن تحقيق أية مكاسب عسكرية حقيقية على الأرض حيث انكمشت في منطقة تندوف، لا سيما بعد واقعة الكركرات الحاسمة. فباتت تهديدات البوليساريو لا تعدو كونها محاولة لطحن المياه.
لكن حقيقة؛ ماذا تبقى في رصيد البوليساريو ليوظفه ضد المغرب؟ لا شيء، اللهم هذا الدعم الجزائري المتهاوي بعد الهزائم الدبلوماسية المتوالية على مدار السنوات الأخيرة. فالسؤال المطروح اليوم هو كيف سيدبر البوليساريو هذه المرحلة؟
تدرك الجبهة قبل غيرها، أن سؤال الاستفتاء وتقرير المصير قد تم تجاوزه دوليا، وعليهم تدارك الموقف قبل أن يأتيهم الحل القهري الانهياري، فكل شيء له حساباته المعقدة، والخروج من هذه الأزمة من بابها الواسع أفضل للبوليساريو قبل أن يتحول الى وليمة مصالح جزائرية نهاية المطاف.
البوليساريو عليه أن يطرح اليوم الأسئلة السوية التي تملك من القوة والثقل والعمق والاستقلالية في الاختيار والرأي والقرار، بدل أن تتمسك بأجوبة جاهزة متجاوزة، فكيف يمكن إنقاذ بوليساريو اليوم من حالة البوليساريو القديم، ومن قَيْد جزائري مُحْكَم.
المغرب وكالعادة متسامح مع عودة أبنائه إلى الوطن فلهم مساحة من حرية التعبير ما لم تمتد الى أعمال العنف والسلاح والإرهاب. فقد عاد الكثير من السياسيين من منفاهم الاختياري حقبة السبعينيات من القرن الماضي وتولى أحدهم الراحل عبد الرحمن اليوسفي منصب رئيس الحكومة وغيرهم مناصب سامية في الدولة، كما عادت قيادات من البوليساريو إلى الوطن وتحملوا مسؤوليات كبرى داخل هياكل الدولة. والمغرب متمسك بهذا المسار، وما على قيادة البوليساريو سوى التحلي بالشجاعة والتطلع الى المستقبل للاقتراب من الهدف المنشود، بدل الارتهان لأجندة منتهية الصلاحية.
لقد دخلنا فصلا جديدا من التحديات نحو أجواء السلم والاستقرار، والانفتاح على آفاق الوحدة، لإعادة المكانة لقيم ومفاهيم: الوطن، الوحدة، المواطنة، الهوية، تَمَغْربيت. ولقيادة البوليساريو في نموذج حزب العمال الكردستاني التركي الذي قرر بمحض إرادته حل نفسه وتسليم سلاحه وتغيير نهجه من حركة انفصالية تسعى لاستقلال إقليم كردستان إلى الانخراط ضمن هياكل الدولة دون تفاوض أو رعاية طرف أجنبي في سياق حل وطني تركي/ تركي.
فهل يحل البوليساريو نفسه اختياريا؟ أم ينتظر أن يتخلى عنه حكام الجزائر؟ أم عليهما معا انتظار ما يحمله القدر من مفاجأة صادمة شبيهة بقرار مجلس الأمن 2797.
محمد بنمبارك، دبلوماسي سابق