هل يجب التنويه بخطاب وزير الداخلية عبد الوافي لفتيت في البرلمان حول محاربة الفساد؟ سؤال يفرض نفسه بقوة في ظل التحولات السياسية والاجتماعية التي تعرفها البلاد، حيث تعيش الساحة الوطنية على وقع مطالب متزايدة بالإصلاح والمحاسبة والشفافية.
فالخطاب الذي ألقاه الوزير أمام نواب الأمة لم يكن حدثا عابرا في مسار الحياة السياسة المغربية، بل شكل لحظة رمزية كشفت عن إرادة سياسية رسمية جديدة في مواجهة أحد أخطر التحديات التي تنخر مؤسسات الدولة وتعطل مسار التنمية والديقراطية، وهو الفساد بمختلف أشكاله. وتزداد أهمية هذا الخطاب بالنظر إلى توقيته، إذ جاء في خضم موجة احتجاجات شبابية قادها "جيل زد"، عبرت عن وعي متصاعد بضرورة بناء دولة عادلة، تكرس سيادة القانون وتقطع مع الإفلات من العقاب.
لقد شكل تصريح عبد الوافي لفتيت لحظة سياسية استثنائية في المشهد المغربي، لما يحمله من رسائل رمزية قوية ودلالات تتجاوز المضمون المباشر للخطاب. فخروج الوزير ليعلن بوضوح أن الدولة لن تتسامح مع ناهبي المال العام وناهبي الأراضي، وأن القانون سيأخذ مجراه سواء "بالخاطر" أو "بزّز"، يمثل لحظة مصارحة غير معهودة في لغة المسؤولين، ويعكس إدراكا متزايدا بأن الفساد أصبح عبئا يهدد استقرار الدولة وثقة المواطنين في مؤسساتها.
جاء هذا التصريح، كما أشرنا، في ظرفية اجتماعية دقيقة تميزت بتصاعد احتجاجات يقودها شباب "جيل زد"، الذين خرجوا إلى الشوارع للمطالبة بإصلاح قطاعات أساسية مثل التعليم والصحة ومحاربة الفساد. هذا التزامن بين تصاعد الوعي الشبابي وخطاب رسمي يتبنى لهجة حازمة ضد المفسدين، يعطي للحدث بعدا سياسيا واجتماعيا عميقا، إذ يكشف عن بداية تلاق موضوعي بين صوت الشارع وصوت الدولة في مواجهة عدو مشترك إسمه: الفساد.
أن يأتي التهديد من داخل البرلمان، رمز الديمقراطية، فهو يحمل دلالة واضحة على أن محاربة الفساد أصبحت سياسة دولة لا مجرد شعار. ولعل اللافت في خطاب عبد الوافي لفتيت هو استخدامه للغة الدارجة في مخاطبة الرأي العام، مما جعل رسائله تصل مباشرة إلى المواطنين بلغة يفهمونها ويشعرون بصدقها. هذه البساطة في التعبير لم تضعف الخطاب، بل منحته طابعا شعبيا قويا جعل الناس يشعرون بأن الوزير يتحدث بلغتهم، لا بلغة البيروقراطية الجافة.
الربط بين صعود وعي "جيل زد" وخطاب الحزم الرسمي يكشف عن تحولات عميقة في المشهد العام. فالشباب الذين قادوا موجة احتجاجات مطلبية واسعة، لم يعودوا يكتفون بالشعارات أو الانتظار، بل أصبحوا يطالبون بالفعل والنتائج. ولذلك، فإن تصريحات عبد الوافي لفتيت لم تمر مرور الكرام، بل فسرت كتعهد سياسي واضح أمام الشعب، خصوصا أن المتظاهرين أنفسهم وضعوا "محاربة الفساد" ضمن أولوياتهم في كل تحركاتهم.
صحيح، إن وزارة الداخلية اليوم أمام اختبار حقيقي، لأنها بكل بساطة تملك الإمكانيات القانونية والتقنية والبشرية الكفيلة بكشف كل من استغل منصبه في الجماعات الترابية أو المؤسسات العمومية لتحقيق مكاسب شخصية أو غير مشروعة. ولهذا فإن أي تأخر أو تقاعس في متابعة هؤلاء المفسدين سيعتبر، في نظر الرأي العام، تواطؤا غير معلن أو ضعفا في الإرادة السياسية او تكتيكا الغرض منه در الرماد في العيون... فالناس لم يعودوا يقبلون بالتصريحات دون الأفعال، ولا بالوعود دون المحاسبة.
الفيديو الذي يوثق خطاب الوزير انتشر بسرعة كبيرة على وسائل التواصل الاجتماعي، ولاقى تفاعلا واسعا بين المواطنين الذين وجدوا فيه نفسا جديدا يعبر عن إرادة سياسية قوية لاستعادة هيبة القانون ومحاسبة لوبيات الفساد التي طالما ظلت في مأمن من العقاب.
لكن في الوقت نفسه، فإن هذا التفاعل الشعبي الكبير خلق أيضا انتظارات أكبر؛ فالمغاربة اليوم ينتظرون أن تتحول هذه اللغة الصارمة إلى إجراءات عملية تعيد الأموال المنهوبة وتسترجع الأراضي التي سلبت بطرق غير قانونية وتقطع مع سرطان الفساد.
الفساد في المغرب، كما تشير تقارير وطنية ودولية، ليس مجرد سلوك فردي أو حالات معزولة، بل منظومة متجذرة تمتد إلى قطاعات الاقتصاد والإدارة والسياسة... لذلك، فإن محاربته لا يمكن أن تكون مسؤولية وزارة واحدة، بل تتطلب تعبئة شاملة تهم القضاء، والبرلمان، والمؤسسات الوطنية الدستورية، والمجتمع المدني، والإعلام، لضمان الشفافية والمساءلة وحماية المال العام.
إن خطاب عبد الوافي لفتيت لا يمثل مجرد لحظة عابرة في النقاش البرلماني، بل هو مؤشر على تحول في المزاج السياسي للدولة نحو "زمن المحاسبة". غير أن هذا التحول سيظل ناقصا ما لم تترجم الوعود إلى أفعال ملموسة. فالمعركة ضد الفساد لا تحسم في قاعات البرلمان، بل في الميدان، من خلال تطبيق القانون واسترجاع الأموال المنهوبة.
في النهاية، يبدو أن الدولة بدأت تتحدث بلغة جديدة قوامها الحزم والوضوح، فيما بدأ الشارع يطالب بالفعل لا بالكلام. وبين الاثنين، تتشكل ملامح مرحلة جديدة في تاريخ المغرب، عنوانها الأبرز أن لا أحد فوق القانون، وأن محاربة الفساد لم تعد شعارا انتخابيا أو مطلبا شعبويا، بل مشروعا وطنيا لاستعادة الثقة في الدولة وبناء مغرب العدالة والمساءلة.
ولهذا، أعتقد أنه يجب التنويه بخطاب وزير الداخلية عبد الوافي لفتيت في البرلمان حول محاربة الفساد، لأنه لم يكن مجرد تصريح عابر، بل موقف سياسي واضح يُعبّر عن إرادة دولة في استعادة هيبة القانون ومواجهة واحدة من أخطر الظواهر التي أضعفت الثقة في المؤسسات وأثقلت كاهل التنمية واعاقت مسار الدمقرطة. فالخطاب تميز بالجرأة والصراحة، وجاء في لحظة تحتاج فيها البلاد إلى رسائل تطمئن المواطن بأن زمن التساهل مع المفسدين قد ولى، وأن الدولة باتت عازمة على ربط المسؤولية بالمحاسبة، قولا وفعلا.
د. مصطفى عنترة، باحث جامعي