Sunday 2 November 2025
Advertisement
كتاب الرأي

محمد خوخشاني: أسر الشهداء والجرحى والأسرى في حرب الصحراء.. ذاكرة صامتة وألم مستمر

محمد خوخشاني: أسر الشهداء والجرحى والأسرى في حرب الصحراء.. ذاكرة صامتة وألم مستمر محمد خوخشاني
تسكن في عمق الوجدان المغربي آلام خفية، لا تمحوها الانتصارات الدبلوماسية ولا التحولات السياسية.
 
آلامٌ تحمل أسماء رجال سقطوا في ساحة المعركة، وجنود اختفوا في رمال الصحراء، ومدنيين قُتلوا أو اختُطفوا، وأسرٍ تمزقت، وأمهاتٍ بلا قبور يحتضن فيها البكاء، وزوجاتٍ وُلدن للانتظار، وأبناءٍ كبروا بلا آباء، وأسرى عادوا إلى الوطن لكن أرواحهم بقيت هناك، خلف الأسلاك والذكريات.
 
إنها معاناة أسر الشهداء والمصابين وأسرى الحرب المغاربة، الذين دفعوا ثمنًا باهظًا قبل بناء الجدار الدفاعي في الصحراء، خلال سنوات المواجهات المفتوحة التي سبقت التحصين العسكري. حرب استنزاف امتدت من اليوم الموالي للمسيرة الخضراء سنة 1975 إلى غاية وقف إطلاق النار سنة 1991، دون أن يقاس حجمها الإنساني والوطني بما يكفي من الاعتراف أو الجبر.
 
قبل بناء الجدار: المرحلة الأكثر دموية.
قبل الشروع في تشييد الجدار الدفاعي - ذلك العمود الفقري العسكري الذي بدأ تشييده مطلع الثمانينيات - كانت القوات المسلحة الملكية والقوات المساعدة مكشوفة أمام الهجمات المباغتة والمعارك المتنقلة. مئات الجنود سقطوا، وآخرون أصيبوا أو أُسروا في ظروف قاسية.
 
كثيرون اقتيدوا إلى تندوف ثم احتُجزوا في مخيمات الرابوني، حيث تعرضوا للتعذيب، وسوء التغذية، والانتهاكات النفسية، وأُجبروا على أعمال شاقة غير إنسانية. بعضهم عاش هناك أكثر من عشرين عامًا، بينما لم يعد آخر فوج من الأسرى المغاربة إلا سنة 2005، بعد ثلاثة عقود من الأسر، وقد تغير كل شيء إلا جراح الذاكرة.
 
ضحايا في ساحة القتال… وضحايا طوال الحياة.
لم يكن الألم مقتصرًا على ساحة الحرب، بل امتدّ إلى البيوت. أسرٌ فقدت المعيل، نساء تُركن بلا سند، أطفال نشأوا في ظل الغياب، وشيوخ أنهكتهم سنوات الانتظار والصمت الرسمي. فأن يُقدَّم أحد أفراد الأسرة روحَه فداءً للوطن، كان يعني أيضًا أنْ تُترَك الأسرة تواجه وحدها قسوة الحياة، بأقل معنى للإنصاف.
 
وعندما عاد الأسرى، استقبلوا كأبطال، لكنهم اصطدموا بواقع آخر: نقص الاعتراف المؤسسي، غياب الرعاية النفسية، هشاشة الوضع الاجتماعي، وتملّص الدولة من سياسة جبر ضرر عادلة وشاملة. فالتكريم الرمزي لم يكن كافيًا، ولا يزال كثيرون يدفعون الثمن اليوم.
 
كلفة باهظة… وعدالة غير مكتملة.
لم يكن ثمن الدفاع عن الصحراء مجرّد أموال طائلة صرفت على السلاح والتحصين العسكري، بل كان أيضًا، وربما أساسًا، ثمنًا بشريًا رهيبًا: ضحايا، أرامل، أسر منهكة، ذاكرة مجروحة، ومستقبل تشوّه بفعل الحرب.
 
فهل عاش جميع المتضررين المعاناة نفسها وبالقدر نفسه؟
طبعًا لا. فالشهيد ليس الجريح، والأسير ليس اليَتيم، والاعتراف المعنوي لا يعوّض الفقد المادي والاجتماعي والنفسي.
 
سؤال مُلحّ: من يعوِّض من؟
اليوم، ومع تقدم الزمن وغياب سياسة واضحة لحفظ الذاكرة ورد الاعتبار، يبرز سؤال العدالة بقوة:
 
من يحق له التعويض؟
من يتحمل المسؤولية؟
المغرب لأنه أرسل أبناءه للدفاع عن الوطن؟
أم الجزائر بصفتها الراعي السياسي والداعم المباشر للجهة التي أسرتهم وعذّبتهم؟
أم المنظمات الدولية التي لم تحمِ الأسرى رغم وضوح بنود القانون الدولي الإنساني؟
 
أم أنّ الإنصاف مسؤولية وطنية خالصة، تبدأ بالاعتراف الشجاع وتنتهي بجبر الضرر الشامل؟
 
نحو واجب وطني لجبر الضرر؟
 
لم يعد التكريم الأخلاقي كافيًا.
فالذاكرة الوطنية لا تُبنى بتجاهل الجراح، بل بضمادها. والوفاء لدماء الشهداء لا يكتمل دون رد الاعتبار للأحياء من ذويهم.
 
اليوم، أمام المغرب فرصة تاريخية لطيّ صفحة الألم، لا بالنسيان، بل بالإنصاف: برنامج وطني شامل للتعويض، الرعاية، والمتابعة الصحية والاجتماعية والنفسية، والاعتراف الرمزي والقانوني.
 
لأن السيادة الترابية لا تكتمل إلا بالسيادة الأخلاقية.
ولأنّ الأوطان لا تكون عادلة إلا حين لا تترك أبناءها خلف المعركة.