الخميس 13 مارس 2025
في الصميم

أريري: رعب في سويسرا.. هل سيحذف الرئيس ترامب "قارة جنيف" من الخريطة؟!

أريري: رعب في سويسرا.. هل سيحذف الرئيس ترامب "قارة جنيف" من الخريطة؟! عبد الرحيم أريري
"هناك خمس قارات، وهناك أيضا جنيف".
هذه القولة المنسوبة للديبلوماسي الفرنسي Charles Maurice de Talleyrand، يحفظها عن ظهر قلب كل مسؤول سويسري. فهي بمثابة "النشيد الوطني الثاني" السويسري، بفضل ما تربحه جنيف من موارد مالية هائلة نتيجة احتضانها لمعظم مقرات منظمات ووكالات الأمم المتحدة، وما يستتبع ذلك من توطين للمنظمات الغير الحكومية ومكاتب الاستشارة والخبراء الذين تعج بهم المدينة.
 
اختيار جنيف لتكون عاصمة للديبلوماسية الأممية، لم يجلب الوجاهة والإشعاع الدولي لسويسرا فحسب، بل جلب لها الغنى والثراء وأموال قارون. بالنظر إلى أن الآلة الأممية بجنيف تضخ في خزينة المدينة 6 ملايير دولار كل عام، نصفها يذهب كأجور وتحملات لحوالي 30 ألف موظف دولي يعملون بالمنظمات والوكالات التابعة للأمم المتحدة ويقطنون بجنيف، والباقي يصرف على تسيير الماكينة الأممية (مواد مكتبية، كراء السيارات، إيواء، محروقات، تغذية، مطبوعات، استشارات، إلخ...). هذا المبلغ الضخم يمثل 6% من الناتج الداخلي الخام لمقاطعة جنيف canton de geneve.
 
وإذا استحضرنا العاملين ب 183 بعثة ديبلوماسية معتمدة بالمدينة، وأضفنا لهم كذلك العاملين بالمنظمات الدولية غير الحكومية (ONG) التي اختارت الاستقرار بهاته المدينة، نجد بأن عدد الموظفين الدولين بالمدينة يصل إلى 40.000 موظف، وهو ما يعادل حوالي 40% من مجموع سكان مدينة جنيف (طبعا مع استحضار أفراد أسر الموظفين الدوليين)، ويعادل 15% من سكان مقاطعة جنيف (Canton).
 
إن كانت الأقليات الأجنبية بالمدن العالمية تمثل هاجسا للسلطات بكل بلد بالنظر إلى هشاشة الأقليات وافتقادها للحماية الاجتماعية وللكفاءة وللمستوى التعليمي، فإن "الأقلية الحضرية" (la minorité urbaine) المشكلة من الموظفين الدوليين، تعد بمثابة "الطفل المدلل" في جنيف، لسبب بسيط يتمثل في كون متوسط الدخل السنوي للموظف الدولي يقارب 1.600.000 درهم، أي حوالي 133 ألف درهم شهريا( 13 ألف دولار في الشهر)، وهذا ما يشكل مضخة هائلة لضخ "الزيت الرفيع" في محرك الاقتصاد الحضري لجنيف، إن على مستوى المطاعم و السكن الراقي والمحلات التجارية الفاخرة أو بباقي الخدمات. هذه الخدمات  تتعزز في كل شهر، بحكم أن جنيف تحتضن حوالي 8000 اجتماع كل عام (ندوة، لقاء، موائد ومؤتمرات)، يحج إليها 200 ألف مشارك كل سنة.
 
لكن هذه البحبوحة وهذه الرفاهية التي ظلت جنيف ترفل في نعيمها، أصبحت مهددة منذ تنصيب دونالد ترامب رئيسا لأمريكا في يناير 2025. فترامب من الرؤساء الأوفياء لالتزاماته الانتخابية، بحيث ما أن تسلم مقاليد الحكم في البيت الأبيض حتى شرع في ترجمة وعده بوقف تمويل الوكالات والمنظمات الأمريكية من جهة، والانسحاب من العديد من الهيآت الأممية مع وقف مساهمة واشنطن في ميزانية الأمم المتحدة من جهة ثانية.
 
قرار الرئيس ترامب سرعان ما أحدث زلزالا في سويسرا عامة وفي جنيف خاصة. فأمريكا هي المساهم الرئيسي في ميزانية الأمم المتحدة، وترتب عن تجميد  43 مليار دولار حدوث شلل في برامج العديد من المنظمات والوكالات الأممية بجنيف. هاته الأخيرة وجدت نفسها عاجزة عن الوفاء بتحملاتها نحو شركائها في المنظمات غير الحكومية (ONG). وهو ما قاد إلى سلسلة من تسريحات متتالية للعاملين والمستخدمين في هذه المنظمات غير الحكومية، والتي وصلت إلى طرد 3500 فردا إلى حدود بداية مارس 2025.
 
وهنا مربط الفرس ومصدر قلق السلطات الفيدرالية السويسرية وسلطات مقاطعة جنيف من استمرار النزيف وبالتالي الخوف من القذف بالمزيد من المطرودين للشارع. فجنيف تضم 476 منظمة غير حكومية توظف 34.000 فرد، منهم 29 ألف موظف بدوام كامل (Plein-temps)، أي ما يمثل 8،5% من مجموع مناصب التشغيل بالمقاطعة، علما أن هاته المناصب يشغلها في الأغلب الأعم سويسريون. هذا الزلزال الذي تسبب فيه ترامب، قاد مقاطعة جنيف إلى تخصيص غلاف مالي استعجالي قدره11 مليون دولار لمساعدة المنظمات غير الحكومية لمواجهة هاته الصعوبات الناجمة عن تجميد أمريكا لمساهماتها المالية وعن خفضها لحجم التمويل الممنوح للمنظمات والشركاء الأجانب.
 
السؤال الحارق الذي تطرحه النخب السويسرية والديبلوماسية بجنيف هو: إلى أي مدى ستصمد هاته المنظمات غير الحكومية وتحافظ على نشاطها وعلى مناصب الشغل في مقراتها؟ وإلى أي حد سيستمر دعمها من ميزانية جنيف أو من ميزانية الدولة، خاصة وأن سويسرا( مثلها مثل باقي دول أوربا) تواجه رعبا آخر بعد فرملة أمريكا لميزانية حلف الناتو وبالتالي حماية أوربا من الدب الروسي، مما جعل سويسرا تلجأ هي الأخرى إلى قضم 110 مليون دولار من مساهمتها السنوية بالوكالات الأممية، وحولتها لميزانية الجيش والدفاع تحسبا لما يمور في الجبهة الأوكرانية؟.
 
وهنا المفارقة: فبعد أن كانت جنيف "معبد المفاوضات لإشاعة حقوق الإنسان" في العالم، أصبحت جنيف بمثابة "قلعة مغلقة" لمناقشة "شرط وجودها" كعاصمة للديبلوماسية العالمية، ومناقشة حقها في البقاء ك "قارة سادسة" في الكرة الأرضية!.