الاثنين 10 فبراير 2025
كتاب الرأي

عبد السلام بنعبد العالي: فلسفة "الحقيقة والمصالحة" وصناعة ماض مشترك

عبد السلام بنعبد العالي: فلسفة "الحقيقة والمصالحة" وصناعة ماض مشترك عبد السلام بنعبد العالي

دروس مستفادة من تجربة جنوب أفريقيا

الرئيس الجنوب أفريقي نيلسون مانديلا يضحك بينما يبارك الأسقف ديزموند توتو "القطار الأزرق" في محطة بريتوريا

بعدما أسفرت الانتخابات العامة سنة 1994 عن تشكيل حكومة وحدة وطنية في جنوب أفريقيا برئاسة نيلسون مانديلا، اختير الأسقف ديزمون توتو لرئاسة لجنة "الحقيقة والمصالحة"، للتحقيق في انتهاكات حقوق الإنسان السابقة التي ارتكبتها الجماعات المؤيدة والمناهضة للتمييز العنصري خلال سيادة نظام الأبارتايد.

كانت هذه اللجنة استدعت الفيلسوفة باربارا كاسان لتكون من جملة متابعي أعمال اللجنة. وقد سعت الفيلسوفة الفرنسية، في ما بعد، إلى أن تبرز "الفلسفة" التي كانت وراء انعقاد هذه اللجنة. أقول "الفلسفة"، لأن انعقاد تلك اللجنة وتدبير شؤونها، لم يكونا ممكنين إلا بتدخل حصيف من طرف الأسقف د. توتو الذي كان يهدف أساسا إلى "طيّ صفحة الماضي" من دون إراقة دماء.

لنسجل أولا أن هذه اللجنة لم تتحدث عن "الصفح والمصالحة"، شأن مثيلتها التي انعقدت في المملكة المغربية في ما بعد، وإنما عن "الحقيقة" والمصالحة. سيكون علينا، في ما بعد، أن نتساءل عن معنى "الحقيقة" في هذا السياق. لكن، قبل ذلك، لنتوقف عند الهدف الأساس التي كانت تتوخاه اللجنة. نجد جواب ذلك في تصريح لتوتو قال فيه إنها ترمي إلى "صناعة تاريخ مشترك". لم يقل الساهرون على اللجنة إنهم كانوا يرومون "إحياء" الماضي المشترك، ولا نسيانه، وإنما ابتداع ماض مشترك و"صناعته".

كيف يتم ذلك؟ بأن يأخذ الكلام كل من يظن أن ليس له ما يقوله، لأن من مصلحة الجميع أن يتكلم. حينئذ سيصبح كل ما من شأنه أن يرتقي إلى القول قابلا لأن يكون محط عفو، وأن يكون قابلا للمصالحة. وما يظل مخفيا يكون عرضة للعقاب. ابتداع ماض مشترك سيتم إذن بأن نجعل ما ظل مسكوتا عنه يرقى إلى الكلام. والكلام، كما قال أوستين، إنجاز. كل ما يمكن للأطراف أن تفعله، هو أن تتقاسم ما تم وحصل كلاما، تتقاسمه بكل ألوانه، لكي يُعرف ويصل إلى الآذان جميعها بصوت مرتفع.

الحقيقة الكافية

ليس ما سيقال، كما أكد توتو، هو "الحقيقة كل الحقيقة"، وإنما "ما يكفي من الحقائق" لبناء ماض مشترك وإقامة مجتمع متعدد الألوان. ذلك أن اللجنة تستبعد المفهوم الميتافيزيقي لـ"الحقيقة"، مثلما استبعدت المفهومات الدينية للصفح والتسامح والندم والتوبة والرحمة. كان الفيلسوف جاك دريدا توقف في شأن هاته الأصول الدينية، والإبراهيمية على وجه الخصوص لهذه القضية، عند مفارقة تطبع هذه الأصول، فرأى أن التراث الديني تؤطره هنا مسلّمتان يبدو أنهما لا تخلوان من توتر:

أولاهما أننا لا نستطيع الصفح أو طلبه من الإله إلا إذا اعترف الجاني، وطلب الصفح، وتاب وتغيّر، والتزم سلوك طريق مغاير، ووعد بأن يصبح شخصا آخر. لكن، من جهة أخرى، يمنح الصفح كعفو مطلق، أي كعفو لا مشروط، عفو بلا توبة ولا تبدل ولا تبادل، عفو بلا مقابل. منطقان متعارضان إذن يحكمان الموروث الإبراهيمي: صفح مشروط، وعفو لا مشروط.

ربما تفاديا لهذه المفارقة، وضعت لجنة "الحقيقة والمصالحة" في جنوب أفريقيا نفسها في سياق سياسي، وليس في سياق ديني أو أخلاقي. ومن يقول "السياسة" يقول النسبية. "السياسة" لا ترمي إلى القضاء على "الشر"، وإظهار "الحقيقة"، وهي لا تضع نفسها ضمن ثنائيات الميتافيزيقا، وإنما تبحث عما يليق ويناسب، ما "يصلح لـ"، وهي هنا تبحث عما يصلح لـ"بناء ماض مشترك" يتم بفضل تقاسم الكلام، والإفصاح العلني عما اقترفه كل طرف من الأطراف.

تحت أنظار الآخرين

ربما لن نقتنع أول وهلة عندما نتساءل: وما العقوبة المباشرة التي يتلقاها كل من مارس شكلا من أشكال التمييز؟ فنتبين أنها لا تتجاوز العقوبة النفسية من شعور بالخجل، أي الوعي بأنك تقع تحت أنظار الآخرين. غير أننا لن ندرك أهمية ذلك وخطورته إلا عندما نعلم ما ترتب على ذلك من تفكّك لعدد كبير من الأسر، وتزايد كبير في عدد حالات الطلاق التي أعقبت انعقاد اللجنة، كما تؤكد كاسان.

تنشد الفلسفة التي اعتمدها الزعيمان الأفريقيان إتاحة الفرصة للجميع، للجانين والضحايا، لأن يساهموا في "صناعة" ماضيهم الجديد. لذلك كان على كل طرف أن يفحص ما يليق بصناعة ذلك الماضي المنشود ويبحث عنه، ويكون معنيا به.

في هذا السياق تُبرز كاسان الموقف الذي اتخذه مانديلا من متحف كان أقيم أيام الأبارتايد لعرض دمى من الشمع تمثل مجتمع السود في أبشع صوره. لم يعمد مانديلا إلى إتلاف ذلك المتحف، وإنما احتفظ به واكتفى بأن وضع في مدخله كلمة تسأل الزائر: "ما رأيك في هذا الذي تراه؟".

ما كان يهمّ الزعيم الأفريقي، ليس أن يطمس ما تفتقت عنه فترة غير قصيرة من الميز العنصري، وإنما أن يحافظ عليها ليجعلها تُشرك زوار المتحف، وتطلب رأيهم في هذا الذي يرونه. تطلب منهم أن يحكموا وينتقدوا ويفحصوا ويتكلموا. لأن ما يهمّ، هو إشراك الأطراف في إصدار الأحكام، وليس في أن نملي عليها ما ينبغي اعتقاده، لأن لا أحد يملك حق ذلك الإملاء. لا أحد يملك "الحقيقة"، لكن الجميع يشترك في بنائها، وبالتالي في "صناعة ماض مشترك".

لقد فرضت الهدنة أن يضحي الجميع بـ"الحقيقة" في سبيل الحرية، وبناء "ماض مشترك" للتمكن من الاندفاع نحو المستقبل.

 

عن مجلة "المجلة"