كان الطابق الثالث ب 33 زنقة الأمير عبد القادر بالدار البيضاء هو فضاء هيئة التحرير المركزية لجريدة "الاتحاد الاشتراكي".. فسيح وأنيق وعصري (في ذلك الوقت). يُغري بالعمل والكتابة وممارسة مهنة الصحافة في ظروف جد مريحة تليق بسمو المهنة.
كان، رغم ذلك، ينعت دوما بالفوضى، للصخب والحركة والدينامية التي كان يعرفها. كان يشبه الحزب، بل كان حزبا مصغرا، ويمكن تسميته ب "المكتب الثالث" تشبيها بالمكتب السياسي. كان لا يشبه الطابق الرابع (مثلا)، حيث فضاء هيئة التحرير المركزية لجريدة "ليبراسيون" الصادرة باللغة الفرنسية، أشبه بمعبد، لا تسمع فيه صوتا ولا ضوضاء ولا حركة.
كان "المكتب الثالث" قلب حزب "الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية"، لذلك كان الصراع فيه والصراع حول امتلاكه أو لنقل استمالته، لا يهدأ. كل معركة في الحزب تجد صداها في الطابق الثالث، حيث تتغير فيه التحالفات وتشتد "المعارك" وتميل فيه الاصطفافات كلما تحرك الحزب واشتد في داخله الصراع.
كان مزاج الحزب ينعكس على مزاج الطابق الثالث، فقد يكون هادئا ورتيبا وساكنا أحياناً، ثم فجأة يتحول إلى سوق يغلي وتعم فيه الحركة ويدب فيه النشاط ويكثر الزوار.
الطابق الثالث هو تيرمومتر الحزب. تعرف ذلك من خلال مزاج الصحافيين، من الثانية الأولى التي يلجون فيها قاعة التحرير، من النظرات، من طريقة المصافحة، من الضحكة، من الذين يستدعون على عجل للاجتماع بمكتب رئيس التحرير، من الذين جاءوا مجتمعين من محطة القطار أو من مقهى مجاورة ما بشارع يوسف بن تاشفين، من الهمسات الخفية في قاعة اعتادت على الصخب.
في المحطات والأزمات والانتقالات الكبرى التي عرفها الحزب، لا يستطيع الطابق الثالث إخفاء ذلك. يفضح نفسه.. تفضحه التكتلات التي تنسج ومزاج الصحافيين الذي يصبح معكرا.
تفهم ذلك من الملتحقين باكرا بقاعة التحرير على غير العادة، من الصرامة التي تكتسبها الوجوه، من كثرة الصعود للطابق الرابع والخامس، من الخرجات الثنائية والثلاثية لمقاهي "الباطوار" (المذبح البلدي الكبير للمدينة).
تفهمها من نظرات العيون، من كثرة الاتصالات الهاتفية الوافدة والخارجة التي كلها هامسة، من المحادثات الثنائية "السرية" بين الأروقة وسلالم الإغاثة وأحيانا من الصمت الذي يعم فجأة قاعة التحرير، حيث تصبح نظرات العيون وراء "متاريس" المكاتب بمثابة إعلان أن شيئا ما يطبخ أو يهيئ.
يقع هذا فيما الطابق الرابع يحافظ على هدوئه الكنائسي، كقلعة محررة. في الحقيقة كان طابقا يتمتع ب "الحكم الذاتي" لا صوت فيه يعلو على صوت "الحزب الوحيد".
تكثر التشنجات في المكتب الثالث، فتفهم أن الضغط مرتفع في المكتب السياسي. يعاد تشكيل التكتلات بالمكتب الثالث، فتدرك أن تسويات جديدة يعرفها المكتب السياسي. يعم الهدوء بالطابق الثالث فتعرف أن التوافق قد ساد بالمكتب السياسي.
يقع أحيانا أن يخرج الطابق الثالث عن قواعد الاشتباك التقليدية: الخرجات المتكررة لمقاهي "الباطوار"، اشتعال الخطوط الهاتفية، الاجتماعات الهامسة بالممرات، الصعود المتكرر للطابقين الرابع والخامس، أحيانا الانزواء بقاعة الأرشيف الداخلية للمكتبة، ثم كثرة الزوار والوافدين.. يحدث أن يصبح "الاشتباك" علنيا ومباشرا، على شكل تعليقات وملاحظات وسخرية، وأحيانا تعبير مباشر عن الرأي ونقاش ساخن ومجادل صاخبة (وغنية).
كان للطابق الثالث مؤرخون، أبدعوا في تسجيل مزاجه واشتباكاته بطريقة فنية. كان الكاريكاتيريس حمودة بارعا في رسم ما يقع بقاعة التحرير بسخرية، كما كان المرحوم عبد الله قانية داهية في تسجيل حياة وشخصيات الطابق الثالث، يكتب عنه بشكل يومي وبطريقة ساخرة، وكانت"جريدته" تطوف على المكاتب ويتخاطف الجميع للاستمتاع بقراءتها (قبل أن تنتهي جل تلك الرسوم والكتابات الداخلية غير الصالحة للنشر في يد لحسن العسبي، الذي لا يزال يتوفر على الكثير منها). فيما كان هناك المرحوم المهدي الودغيري، محافظ الطابق الثالث الذي يؤرشف كل ما يقع بين يديه ولا يمر أي حدث أو واقعة دون تسجيلها والتعليق عليها بسخرية.
حتى الانقلابات التي وقعت بالطابق الثالث، كانت تساير الانقلابات التي تقع بالحزب. إعادة هيكلة الأقسام والصفحات، شكل وتفاوت الزيادات في الأجور، المكلفون بالمهام، كل هذه الأشياء كانت تعكس مزاج سفينة الحزب.
في هذا الطابق، بزنقة الأمير عبدالقادر بالدارالبيضاء، كانت "حروب" الحزب تعاش يوميا وينقل صداها وتتوسع دائرتها أو تتقلص حسب حجم المعركة التي يعرفها مقر المكتب السياسي بزنقة واد سوس بأكدال بالرباط.. تبتدأ المعركة في الرباط وتسقط شظاياها علينا بالدار البيضاء.
بالرغم من كل ذلك، كان هذا الطابق يُخرج أول جريدة بالمغرب طيلة عقود وأكثرها مبيعا بمسافات. في هذا الطابق مرَّ صحافيون من خيرة ما أنجبت المهنة. كان المكتب الثالث يعيش حياة حزبه بكل قوته وعنفوانه ومشاكله، يتأثر به ويؤثر فيه. لكن عينه لم تنم على مجتمعه، تنتصر لقضاياه وتبدع في نقل أحداثه.
في هذا الطابق، كانت الحياة تنبض، وكان تاريخ يُصنع، وكان شباب ورجال ونساء مروا من هناك وتركوا بصماتهم في تاريخ الصحافة المغربية..
كنت واحدا من الذين مروا بالمكتب الثالث، الذي عاش وشارك في شغبه (في ذلك الزمن الحي الذي انتهى) ويشرفني ذلك..