“ما معنى أن يكون محكوما على المرء بالسرور وفي قلبه مأثم دائم” بلزاك
تكشف رواية “الرقيم الأخير” عن مقروء شاسع للكاتب عبد الإلاه الرابحي، الذي يذهب بنا بعيدا في عمق التاريخ الضارب في القدم، إلى بلاد الرافدين أول منشأ للحضارة الإنسانية مع البابليين والآشوريين، من خلال الطين برمزياته العالية، كذاكرة لحفظ الطيني في البشري، إبداعا تاريخيا، تصورات وتمثلات للكون… الطين الذي قاوم الزمن وتبدلاته وعوائده، ليحفظ لنا أول إبداع بشري بالغ النضج والثراء، ليقدم لنا سردية جديدة للتاريخ البشري بلغة باذخة تشير وتلمح أكثر مما تقول وتبشر..
تنفتح الرواية على استدعاء عميد الكلية للأستاذ الغرباوي للالتحاق بالمختبر، حيث وجده هناك رفقة رئيس الشعبة و ماكس مالوان، الأستاذ الباحث في علم الآثار، الذي عثر على الرقيم الطيني الذي يحتوي على رقيع و13 لوحا طينيا، مما اعتُبر كنزا ثمينا.. ها هو التاريخ المحلي، الوطني أو القومي، يستعاد من خلال الأجنبي، أتذكر ما قاله إدوار سعيد، “يكاد يكون الشرق من اختراع الغرب”، بل إن بورخيس كان أكثر حسماً حين أكد أن الشرق اختراع غربي، كما يقول الشاعر محمد بنيس، ما حدث مع ألف ليلة ومع جواهر من الإبداع والتاريخ العربي الإسلامي وحتى الروافد السابقة عليهما التي تعود عبر الغرب إلى الشرق.
سيحمل الغرباوي- أي مكر في أن يحمل اسمه من هذا الغرب ouest المالك لمفاتيح كنز الشرق- لإتقان الأستاذ الجامعي اللغة الأكادية، سيحمل الألواح إلى بيته، هذا الغرباوي “أحمر دم للحياة وأصفر امتقاع للموت، وبينهما بياض لكفن في ساحة الوغى بين الحياة والموت، بين الأحمر والأصفر، صراع إيروس وثاناتوس في التجوال المضيء، أحُلّة بهية هي أم قناع جنائزي في عرس احترام الرغبات؟ (ص 19)، هذه الألوان نفسها ستؤثث أسطورة الخلق عبر ثنايا الرواية.
تستعيد رواية “الرقيم الأخير” للمبدع عبد الإلاه الرابحي النص الأصلي لأسطورة الخلق البابلي، الإينوماتليش، لكنها لا تتوقف عند إعادة بناء خلق الكون، كما في “عندما أو حينما في الأعالي” ولكن هنا في أسفل السافلين. ليضع اليد على تاريخ حضاري آخر، غير التاريخ المسطح، الأملس، السلس الذي وصلنا، ليقول لنا إن هناك تاريخاً حضارياً آخر، مليء بالعنف والدم والصراع والموت، وكذلك بالكفاح والمقاومة، تاريخ مختلف، عن تاريخ العته، مجهوله أكثر من معلومه، دون أن نستسلم لما يسميه بلزاك ب”عفو مرور الزمن”.
هنا المقصد الرئيسي الذي نجح الكاتب عبد الإلاه الرابحي في بلوغه باقتدار، من خلال إعادة بناء أسطورة الخلق كما ظهرت في بلاد الرافدين، للتعبير عن تاريخ حضاري مغاير يستحق الانتباه، وهذا فحوى ما عبرت عنه سيدة الغضب في حديثها عن هذه الألواح التي تحملت “آلاف السنين في جوف الباطن دون أن يصدر عنها أنين الاختناق تحت الركام، كيف لم تستغث وهي التي تعاقبت عليها قرون وقرون، وتحاشتها آذان وآذان، كيف استطاعت هذه الكائنات العيش تحت الأنقاض… ألذلك قالت سيدة الغضب إنها تستطيع في غيابها ما لم تستطعه في حضورها، تلك عادة كل الأشباه الأوائل يشتغلون بصمت وبمهارة يقودون سعير التتابع”؟
رواية عبد الإلاه الرابحي مكتوبة بحذق كبير وبناؤها السردي معمار شديد التماسك، وفتنتها تشدك إليها من أول سطر حتى آخره ببراعة البنائين المهرة، إنها أيضا رواية مراوغة ومخادعة لا يمكن أن يستسلم لغوايتها القارئ الكسول، لأنها تدعو للصحو التاريخي.. يتتبع السارد مسار استنطاق أسطورة الخلق في ذلك السديم والعماء الأولي والصمت الرهيب حيث لا مكان ولا زمان سوى الماء وصوته. تبدأ الأجساد في التشكل وسط سديم العتمة، فكان عسي الذي خلق السهول والجبال والهضاب لاحتمال ثقل السلالة القادمة، فجاءت الأنثى مارينا، ومن تمازجهما جاء نبيه وعقيل، وفطينة ونزيهة وفطين وعقيل… ولا تخفى دلالات الأسماء، في الإشارة إلى الانتقال الحضاري من الطبيعة إلى الثقافة، من الغريزة إلى العقل، وتولدت الرغبة في التملك والتفرد والسلطة والهيمنة، فبدأ الصراع والقتل والكيد والدسائس والحرب… عسي يعاني من ضجيج من منحهم الحياة فيرغب في تدمير نسله، ومارينا تدعوه للتصرف بلين، ونزيهة تشكل دمية طينية شبيهة لها أسمتها “عموش” التي ترى ما لا يُرى وتحلم: “ستصبح صنيعتي سيدة الشلال، ستعطف على صانعتها وتدمي الآخرين”، وعقيل تثيره الدمية، فيرسم لها شبيها على التراب، ونبيه يستثيره الدم فيخاطب نفسه: “كثير من هذا الأحمر وكثير من هذا الألم، وها أنت نبيه تستحم في الشلال وحدك، وترتع في الحوش كما شاءت يداك”، فبدأ الدمار.
هنا مربط فرص رواية “الرقيم الأخير”، إعادة كتابة تاريخ حضاري آخر، مخفي، مطمور، ملفوف بالنسيان، مغلف بسردية تاريخية مقدمة بشكل رصين، سلس، مسطح، مخملي، “تفرق الأشباه، وراح كل شبيه يداعب أحلامه في سريره”، وبعدها سيأتي الأحفاد من ذات السلالة، عقيل وعقيلة يلدان منزوه، وبعد الأشياء، ابتدأ الصراع على الأسماء والصفات، التي بها تهيمن الذوات وتتميز من العقيل الحكيم إلى الحاكم بأمره..
ستقضي الفروع على الأصول، سيعتل عسي وستبدأ التعليمات الأولى والتمييز ين المقدس والمدنس، المحلل والمحرم، المرغوب والممنوع، السيد والمسود، النعيم والجحيم… وباقي الأضداد “لا نوم حتى منتصف، لا رقص دون ترخيص من سيدة الجسد، لا اقتراب من ضفة الشلال دون استئذان لسان الحوش، لا اقتراب من مخزن السلاء والحجر المسنون، لا حديث مع الأشباه الأوائل، من الآن فصاعدا يسير نظام السهر بصراحة من الأعالي إلى الأهالي” (ص56).
وكما قُتل عسي الأب الأول، الخالق الأول، قُتل نبيه وارث السر، وتعددت الأحواش ومعها اختلفت الألسن، وولدت الحكايات، ما نسميه اليوم بالسرديات التي تسعى من خلالها السلطة المهيمنة، إعادة تشكيل الرأي العام. بل أصبحت الألسن من فرط طول ألسنتها تتطلع لما يقع حتى خارج حوشها، وهناك من الألسن من بث في الأحواش الأخرى ألسنة له… فسار اللسان على اللسان رقيبا، فتناسلت الألسن بتناسل الأحواش”(ص 97).. نحن نتكلم عن أساطير بلاد الرافدين، عن أول حضارة إنسانية وصلتنا بكامل النضج، نتذكر البعد الديني لبلبلة اللسان، حيث أن في بابل تعددت الألسن، وتحول اسم مدينة شنعار إلى بابل كما جاء في سفر التكوين- العهد القديم
وفي تتابع شمسون وقمرون، جاء أوسمان (لا تخفى الدلالة الأمازيغية هنا لأوسمان الذي يعني في الأمازيغية السوسية البرق، نعثر هنا على سلالة أخرى أغلب أسمائها من الأمازيغية مثل: ماسينسا التي تعني الأناقة والرشاقة وأقيزول: الشجاع وتيفاوين: التي تحيل على أولى أنوار شروق الشمس على الجبل وأزرو: الحجر وتوناروز التي تدل على الأمل).
أوسمان الذي يشير إلى اللسان المشقوق إلى نصفين، واحد يحكم الأحواش، والآخر لما يعج من فيض الخاطر الملعون، مما يذكرنا بالأفعى ولسانها المشقوق في قصة طرد آدم من الجنة… يقف على التمايز الطبقي، ويتبرم بسخط من القانون الظالم، ويحلم “لا بد للسهل من قانون آخر، سيتولاه الأهالي”.
فكانت الهجرة الأولى نحو الضفة الأخرى من الشلال ضد تيار المصب، يتداخل الماضي والحاضر في رواية “الرقيم الأخير” حيث سيجد الغرباوي نفسه في حدائق إيغودان، يصبح عالم الآثار في الجامعة العصرية في قلب زنزانة في حضارة الماضي، تخلى عن المستقبل ليعيش عتبة الماضي. وحدها شامة تصدق الحكاية والطالب الذي يبدو في وضع المسرود له الذي يدون الحكاية في الصلصال على اللوح المحفوظ فيما الزوجة اعتبرت الأمر مجرد ضربة شمس (هذيان). ثم يتحول الغرباوي إلى متلقي/ مسرود له، حين يقود حارس السجن أكيري مهمة السرد، ليحدثه عن تحولات إمارة إيغودان في ظل الاستبدال والثورة التموزية التي قادها ماسينسا.. ثم يتناوبان معا على الحكي، المستقبل يحكي للماضي عن حاضره، والماضي يحكي للمستقبل أستاذ الآثار عن حاضره.. أستحضر هنا ما قاله بطل “الجلد المسحور”: “إن النفس، في تقلبها وجريها وراء أهوائها، تشبه الكيمياء الحديثة التي تختصر الخليقة في غاز واحد. ألا تصنع النفس سموما رهيبة بسرعة تجمع أفراحها وقواها وأفكارها؟ أو لم يهلك كثير من الناس من تأثير بعض الأحماض الأخلاقية التي انتشرت فجأة في عالمهم الداخلي؟”
ذلك جزء من مساءلة الذاكرة لكتابة تاريخ حقيقي جديد للبشرية غير السرديات المسطحة التي تقفز على مفاصل الثورة والدم، الخنوع والرفض، الهيمنة والتحرر… كما يدعونا إليها عبد الإلاه الرابحي في روايته “الرقيم الأخير”، التي تعبر عن فرادة غير مسبوقة في مجال استعادة تاريخ بعيد جدا، أبعد مدى من التاريخ المحلي أو الجهوي أو الوطني أو الإقليمي، إننا أمام طفولة الحضارة البشرية الأولى.
تنفتح الرواية على استدعاء عميد الكلية للأستاذ الغرباوي للالتحاق بالمختبر، حيث وجده هناك رفقة رئيس الشعبة و ماكس مالوان، الأستاذ الباحث في علم الآثار، الذي عثر على الرقيم الطيني الذي يحتوي على رقيع و13 لوحا طينيا، مما اعتُبر كنزا ثمينا.. ها هو التاريخ المحلي، الوطني أو القومي، يستعاد من خلال الأجنبي، أتذكر ما قاله إدوار سعيد، “يكاد يكون الشرق من اختراع الغرب”، بل إن بورخيس كان أكثر حسماً حين أكد أن الشرق اختراع غربي، كما يقول الشاعر محمد بنيس، ما حدث مع ألف ليلة ومع جواهر من الإبداع والتاريخ العربي الإسلامي وحتى الروافد السابقة عليهما التي تعود عبر الغرب إلى الشرق.
سيحمل الغرباوي- أي مكر في أن يحمل اسمه من هذا الغرب ouest المالك لمفاتيح كنز الشرق- لإتقان الأستاذ الجامعي اللغة الأكادية، سيحمل الألواح إلى بيته، هذا الغرباوي “أحمر دم للحياة وأصفر امتقاع للموت، وبينهما بياض لكفن في ساحة الوغى بين الحياة والموت، بين الأحمر والأصفر، صراع إيروس وثاناتوس في التجوال المضيء، أحُلّة بهية هي أم قناع جنائزي في عرس احترام الرغبات؟ (ص 19)، هذه الألوان نفسها ستؤثث أسطورة الخلق عبر ثنايا الرواية.
تستعيد رواية “الرقيم الأخير” للمبدع عبد الإلاه الرابحي النص الأصلي لأسطورة الخلق البابلي، الإينوماتليش، لكنها لا تتوقف عند إعادة بناء خلق الكون، كما في “عندما أو حينما في الأعالي” ولكن هنا في أسفل السافلين. ليضع اليد على تاريخ حضاري آخر، غير التاريخ المسطح، الأملس، السلس الذي وصلنا، ليقول لنا إن هناك تاريخاً حضارياً آخر، مليء بالعنف والدم والصراع والموت، وكذلك بالكفاح والمقاومة، تاريخ مختلف، عن تاريخ العته، مجهوله أكثر من معلومه، دون أن نستسلم لما يسميه بلزاك ب”عفو مرور الزمن”.
هنا المقصد الرئيسي الذي نجح الكاتب عبد الإلاه الرابحي في بلوغه باقتدار، من خلال إعادة بناء أسطورة الخلق كما ظهرت في بلاد الرافدين، للتعبير عن تاريخ حضاري مغاير يستحق الانتباه، وهذا فحوى ما عبرت عنه سيدة الغضب في حديثها عن هذه الألواح التي تحملت “آلاف السنين في جوف الباطن دون أن يصدر عنها أنين الاختناق تحت الركام، كيف لم تستغث وهي التي تعاقبت عليها قرون وقرون، وتحاشتها آذان وآذان، كيف استطاعت هذه الكائنات العيش تحت الأنقاض… ألذلك قالت سيدة الغضب إنها تستطيع في غيابها ما لم تستطعه في حضورها، تلك عادة كل الأشباه الأوائل يشتغلون بصمت وبمهارة يقودون سعير التتابع”؟
رواية عبد الإلاه الرابحي مكتوبة بحذق كبير وبناؤها السردي معمار شديد التماسك، وفتنتها تشدك إليها من أول سطر حتى آخره ببراعة البنائين المهرة، إنها أيضا رواية مراوغة ومخادعة لا يمكن أن يستسلم لغوايتها القارئ الكسول، لأنها تدعو للصحو التاريخي.. يتتبع السارد مسار استنطاق أسطورة الخلق في ذلك السديم والعماء الأولي والصمت الرهيب حيث لا مكان ولا زمان سوى الماء وصوته. تبدأ الأجساد في التشكل وسط سديم العتمة، فكان عسي الذي خلق السهول والجبال والهضاب لاحتمال ثقل السلالة القادمة، فجاءت الأنثى مارينا، ومن تمازجهما جاء نبيه وعقيل، وفطينة ونزيهة وفطين وعقيل… ولا تخفى دلالات الأسماء، في الإشارة إلى الانتقال الحضاري من الطبيعة إلى الثقافة، من الغريزة إلى العقل، وتولدت الرغبة في التملك والتفرد والسلطة والهيمنة، فبدأ الصراع والقتل والكيد والدسائس والحرب… عسي يعاني من ضجيج من منحهم الحياة فيرغب في تدمير نسله، ومارينا تدعوه للتصرف بلين، ونزيهة تشكل دمية طينية شبيهة لها أسمتها “عموش” التي ترى ما لا يُرى وتحلم: “ستصبح صنيعتي سيدة الشلال، ستعطف على صانعتها وتدمي الآخرين”، وعقيل تثيره الدمية، فيرسم لها شبيها على التراب، ونبيه يستثيره الدم فيخاطب نفسه: “كثير من هذا الأحمر وكثير من هذا الألم، وها أنت نبيه تستحم في الشلال وحدك، وترتع في الحوش كما شاءت يداك”، فبدأ الدمار.
هنا مربط فرص رواية “الرقيم الأخير”، إعادة كتابة تاريخ حضاري آخر، مخفي، مطمور، ملفوف بالنسيان، مغلف بسردية تاريخية مقدمة بشكل رصين، سلس، مسطح، مخملي، “تفرق الأشباه، وراح كل شبيه يداعب أحلامه في سريره”، وبعدها سيأتي الأحفاد من ذات السلالة، عقيل وعقيلة يلدان منزوه، وبعد الأشياء، ابتدأ الصراع على الأسماء والصفات، التي بها تهيمن الذوات وتتميز من العقيل الحكيم إلى الحاكم بأمره..
ستقضي الفروع على الأصول، سيعتل عسي وستبدأ التعليمات الأولى والتمييز ين المقدس والمدنس، المحلل والمحرم، المرغوب والممنوع، السيد والمسود، النعيم والجحيم… وباقي الأضداد “لا نوم حتى منتصف، لا رقص دون ترخيص من سيدة الجسد، لا اقتراب من ضفة الشلال دون استئذان لسان الحوش، لا اقتراب من مخزن السلاء والحجر المسنون، لا حديث مع الأشباه الأوائل، من الآن فصاعدا يسير نظام السهر بصراحة من الأعالي إلى الأهالي” (ص56).
وكما قُتل عسي الأب الأول، الخالق الأول، قُتل نبيه وارث السر، وتعددت الأحواش ومعها اختلفت الألسن، وولدت الحكايات، ما نسميه اليوم بالسرديات التي تسعى من خلالها السلطة المهيمنة، إعادة تشكيل الرأي العام. بل أصبحت الألسن من فرط طول ألسنتها تتطلع لما يقع حتى خارج حوشها، وهناك من الألسن من بث في الأحواش الأخرى ألسنة له… فسار اللسان على اللسان رقيبا، فتناسلت الألسن بتناسل الأحواش”(ص 97).. نحن نتكلم عن أساطير بلاد الرافدين، عن أول حضارة إنسانية وصلتنا بكامل النضج، نتذكر البعد الديني لبلبلة اللسان، حيث أن في بابل تعددت الألسن، وتحول اسم مدينة شنعار إلى بابل كما جاء في سفر التكوين- العهد القديم
وفي تتابع شمسون وقمرون، جاء أوسمان (لا تخفى الدلالة الأمازيغية هنا لأوسمان الذي يعني في الأمازيغية السوسية البرق، نعثر هنا على سلالة أخرى أغلب أسمائها من الأمازيغية مثل: ماسينسا التي تعني الأناقة والرشاقة وأقيزول: الشجاع وتيفاوين: التي تحيل على أولى أنوار شروق الشمس على الجبل وأزرو: الحجر وتوناروز التي تدل على الأمل).
أوسمان الذي يشير إلى اللسان المشقوق إلى نصفين، واحد يحكم الأحواش، والآخر لما يعج من فيض الخاطر الملعون، مما يذكرنا بالأفعى ولسانها المشقوق في قصة طرد آدم من الجنة… يقف على التمايز الطبقي، ويتبرم بسخط من القانون الظالم، ويحلم “لا بد للسهل من قانون آخر، سيتولاه الأهالي”.
فكانت الهجرة الأولى نحو الضفة الأخرى من الشلال ضد تيار المصب، يتداخل الماضي والحاضر في رواية “الرقيم الأخير” حيث سيجد الغرباوي نفسه في حدائق إيغودان، يصبح عالم الآثار في الجامعة العصرية في قلب زنزانة في حضارة الماضي، تخلى عن المستقبل ليعيش عتبة الماضي. وحدها شامة تصدق الحكاية والطالب الذي يبدو في وضع المسرود له الذي يدون الحكاية في الصلصال على اللوح المحفوظ فيما الزوجة اعتبرت الأمر مجرد ضربة شمس (هذيان). ثم يتحول الغرباوي إلى متلقي/ مسرود له، حين يقود حارس السجن أكيري مهمة السرد، ليحدثه عن تحولات إمارة إيغودان في ظل الاستبدال والثورة التموزية التي قادها ماسينسا.. ثم يتناوبان معا على الحكي، المستقبل يحكي للماضي عن حاضره، والماضي يحكي للمستقبل أستاذ الآثار عن حاضره.. أستحضر هنا ما قاله بطل “الجلد المسحور”: “إن النفس، في تقلبها وجريها وراء أهوائها، تشبه الكيمياء الحديثة التي تختصر الخليقة في غاز واحد. ألا تصنع النفس سموما رهيبة بسرعة تجمع أفراحها وقواها وأفكارها؟ أو لم يهلك كثير من الناس من تأثير بعض الأحماض الأخلاقية التي انتشرت فجأة في عالمهم الداخلي؟”
ذلك جزء من مساءلة الذاكرة لكتابة تاريخ حقيقي جديد للبشرية غير السرديات المسطحة التي تقفز على مفاصل الثورة والدم، الخنوع والرفض، الهيمنة والتحرر… كما يدعونا إليها عبد الإلاه الرابحي في روايته “الرقيم الأخير”، التي تعبر عن فرادة غير مسبوقة في مجال استعادة تاريخ بعيد جدا، أبعد مدى من التاريخ المحلي أو الجهوي أو الوطني أو الإقليمي، إننا أمام طفولة الحضارة البشرية الأولى.