الثلاثاء 16 إبريل 2024
كتاب الرأي

جمال المحافظ: محمد عابد الجابري صحفيا

جمال المحافظ: محمد عابد الجابري صحفيا جمال المحافظ
إذا كانت الكتابات الصحافية، تشكل مرجعا مهما لكل باحث من أجل رصد واستقصاء وقائع التاريخ السياسي لمغرب ما بعد الاستقلال، فإن دور المثقفين كان رئيسيا في هذا المنجز، عبر بوابة الاعلام، إذ كثيرا ما ارتبطت بدايات الصحافة في غالبيتها بالثقافة خلال مرحلة التأسيس للفعل الإعلامي بالمملكة.
واستنادا الى مسار تاريخ الصحافة المغربية، يلاحظ أن أبرز الصحافيين الذين تركوا بصماتهم الإيجابية في مهنة المتاعب، هم أولئك الذين انتقلوا الى صاحبة الجلالة من الحقل الثقافي، من أبرزهم محمد بلحسن الوزاني ( 1910-1978 )، المكي الناصري ( 1906- 1994 )، وعبد الكريم غلاب ( ، وعبد الهادي بوطالب ( 1923- 2009 )، ومحمد عابد الجابري( 1935-2010)، ومحمد العربي المساري، (1936- 2015 ) وعبد الجبار السحيمي ( 1938- 2012)، فضلا عن آخرين التحقوا فيما بعد بالسلطة الرابعة التي تحولت مع الثورة الرقمية، فيما بعد إلى سلطة أولى. وإن كان غالبية هؤلاء " المثقفين الصحفيين" لايخفون التزامهم السياسي، إلا أنهم كانوا يجمعون على أن العمل الصحافي شأن ثقافي وطني.
وإذا كان من هؤلاء من انخرط في الصحافة وشق طريقه بها، الى حد أصبح الحديث عن المهنة مقترنا بإسمه، أكثر من اسهامه في المجال الثقافي، فإن آخرين توقفوا عن ممارسة الكتابة الصحيفة، وكرسوا جهودهم لعوالم الفكر والإبداع، بعد التجربة التي مروا بها بمهنة المتاعب، وفي مقدمة هؤلاء صاحب رباعية" نقد العقل العربي" محمد عابد الجابري (1935-2010) الذي بدأ في أم الجرائد المغربية "العلم"، التي غادرها بعد " انتفاضة 25 يناير"، ليلتحق بجريدة " التحرير" بعد تأسيسها سنة 1958 التي استمر بها إلى غاية توقفها في سنة 1963.
وفي هذا الصدد قليلا ما جرى الإنتباه الى منجز الجابري في مجال الصحافة، بالرغم من أهمية هذه المرحلة صحافة في مساره، التي يقول عنها، إنها كانت " بحق تجربة مؤسسة.. وأغنى وأغلى شيء في حياتي" موضحا أن مروره بالصحافة مكنه من دخول النضال السياسي والصحفي من بابه الواسع، كما جعلته معروفا من كافة أعضاء حزبه وغيرهم أيضا، وأصبحت موضع ثقة الجميع.
تعلم كتابة من الصحافة
في معرض حديثه عن كتاباته السياسية في صحيفة "التحرير" قال: " تعلمت كيف أكتب وأنتبه، في الوقت نفسه، إلى القراءات الممكنة لما أكتب" معترفا بأنه، بفضل هذا النوع من الممارسة، استطاع أن يكتب أقوى كتابة وأعنفها. لكن " دون أن يجد " القراء" المختصون في قراءة النوايا سبيلا إلى اتهامي بشيء، ودون أن يتسبب ما كتبته في حجز أو توقيف". فعلى الرغم وامكانياتها المادية المتواضعة، - يوضح الجابري - صارت ( التحرير ) تمارس الرقابة على الحاكين صغارا وكبارا بصورة أكثر اتساعا.."، وهو ما جعل من هذه الجريدة " سلطة رابعة تمارس دورها الصحفي، وفي نفس اليوم تقوم مقام السلطة الثالثة ( التشريعية) والسلطة الثانية ( القضائية) على مستوى الرقابة والدفاع عن الحق العام والخاص"، كما جاء في كتاب "في غمار السياسة: فكرا أو ممارسة" الصادر في ثلاثة أجزاء.
غير أن الجابري يستدرك قائلا : " بطبيعة الحال، فقد كان لابد من أداء ثمن هذه الرقابة النافذة وسط الأجهزة الرسمية.. كان الثمن متنوعا : الحجز العام، المصادرة المحلية، والمحاكمات والذعائر، وممارسة أنواع من التخويف والإرهاب والانتقام " موضحا أنه رغم من التضييق فإن "جميع المواطنين الشرفاء، كانوا عيونا ..، بصورة عفوية وبدافع الوطنية والغيرة على الحق". وكثيرا ما توقف الجابري عند المصادر التي تستقي منه الجريدة التي على الرغم أنها لم يكن لديها "جهاز استخبارات منظم"، فإن المراسلين والمناضلين والمخبرين وكثير من رجال الإدارة من مختلف المستويات كانوا يزودونها يوميا، بكم هائل من " الاسرار" التي كانت تنشرها " التحرير" في ركن يومي بعنوان "كواليس" تدرج فيه أخبارا سرية في صيغة، تارة على صورة نص صريح، وتارة على شكل إشارة مع نوع من السخرية.
صحافة لنشر الوعي
وأوضح الجابري أن هذه الاخبار " كانت تنقل من مختلف المدن والقرى، التصرفات والتدابير غير القانونية والسرية، وكثيرا من الأحوال الشخصية الخاصة بكبار الموظفين والتي لها علاقة بالمس بالأخلاق أو بالصالح العام"، مبينا في هذا الصدد بأن الموظفين الكبار والصغار في كل نواحي المغرب، كانوا ينتظرون كل صباح ما تقوله "كواليس التحرير" عنهم أو عن أصدقائهم، ونتيجة ذلك، كانت صفحات " التحرير " ليس فقط ميدانا لنشر الوعي عن طريق التعاليق والمقالات والدراسات في الشؤون المحلية والعربية والدولية، بل كانت أيضا مرآة يرى فيها المواطنون كل صباح إشارات إلى بؤر الفساد وكشفا عن فضائح، يضيف الجابرى.
ولم يتوقف الجابري الذى كان سكرتير تحرير " التحرير" بعد اعتقال مديرها الفقيه البصري (1925-2003 ) ورئيس تحريرها عبد الرحمان اليوسفي، ومصادرة الجريدة، في 15 دجنبر 1959 ، عن الاشتغال بالصحافة، بل أصدر الى جانب رفاقه، في اليوم التالي "الرأي العام" التي كانت جريدة تابعة لحوب الشورى والاستقلال تحت إدارة كل من أحمد بنسودة ( 1920-2008 ) وعبد الهادي بوطالب، من نفس المطبعة ونفس المكاتب ونفس المحررين والعمال، إذ أن كل ما تغير هو اسم الجريدة واسم مديرها فقط.
وعن هذا التحول من "التحرير" الى "الرأي العام"، يوضح الجابري بأنه كان رفقة كافة المحررين يقومون بمهمتهم في نفس الاتجاه، وبنفس القوة والحماسة ونفس اللهجة، كما كان الشأن على عهد "التحرير"، فكل ما كان من تغيير هو أن " كلمة الرأي العام" حلت محل كلمة " افتتاحية"، كما أن الركن الذي كان يكتبه باسم " صباح النور" غير اسمه ب" العربي الفصيح"، والتوقيع الذي كان باسم " عصام" تحول الى "ابن البلد"، وكما كانت هناك في التحرير تعليقات وأركان في الصفحات الداخلية كان مثل ذلك في "الرأي العام".
كانت علاقات الجابري قوية، مع رموز وقيادات سياسية معارضة آنذاك في مقدمتهم الرحمان اليوسفي الذي سيصبح وزيرا أول في تجربة حجومة التناوب التوافقي ما بين 1998 و2002.
ويقول الجابري عن اليوسفي إنه كان "دقيق الملاحظة" خلال توليه مهام رئيس التحرير، موضحا أن شيخ الاشتراكين المغاربة قد دعا ساخرا هيئة تحرير الصحيفة إلى تجنب حينما إصدار (التحرير ) في أول أبريل ( نيسان) التاريخ الذي كان مقررا صدوروها فيه. وذلك حتى لا تصف من خصومها بأنها مجرد "كذبة أبريل".
وجرى إصدارها في الثاني من أبريل. وبعدما توقفت (الرأي العام) عن الصدور في 24 نوفمبر ( تشرين الثاني ) 1960، استأنفت ( التحرير ) الصدور، ولم يتغير غير العنوان، واسم المدير، مع إضافة رئيس التحرير، وبقيت كما كانت إلى أن احتجبت صيف 1963.
الصحافة والديمقراطية
يلاحظ أن الجابري كثيرا ما ربط حرية الصحافة بالديمقراطية، وهذا ما يتضح من خلال مقال له بعنوان : "حرية الصحافة بالمغرب بين القانون والواقع"، نشرته جريدة " التحرير" في الثالث من أبريل 1962، بمناسبة الذكرى الثالثة لصدورها في ثاني أبريل 1959، انتقد فيه الفصل 77 من قانون الصحافة لسنة 1958 الذي يخول لوزير الداخلية الحق في حجز كل جريدة يرى فيها ما يعتبره مسا بالأمن العام.
بهذا الزخم الذي راكمه الجابري الذي انتقل من الكتابة بأم الجرائد "العلم" المغربية الى "التحرير" وبعدها "المحرر"، وإدارة مجلات ثقافية، قبل أن يتفرغ كلية الى التدريس الجامعي، والإنتاج الفكري، فإن كتاباته الصحافية، تشكل مادة للتأمل الفكري والدراسة والبحث العلمي، بعدما ذهب الباحثون المغاربة والعرب، الى الإنشغال بالانتاجات الفكرية للجابري البالغة أزيد من 30 مؤلفا. وهنا يطرح التساؤل حول مدى الحاجة الى إعادة قراءة الفكر العربي من خلال تحليله من خلال دراسة المكونات والبنى الثقافية واللغوية، وهو ما يتطلب في نظره إعادة الابتكار والخوض في القضايا الحضارية الكبرى .
 
عن جريدة الشرق الأوسط اللندنية