إذا استحضرنا لحظة تأسيس الكوركاس (المجلس الملكي الاستشاري للشؤون الصحراوي)، يقتضي الأمر منا أن نربطها بوضع مقترح الحكم الذاتي في صيغته الأولى، كما ورد في الخطاب الملكي بمناسبة الذكرى 31 للمسيرة الخضراء (6 نونبر 2006): «.. وعلى هذا الأساس، قامت مبادرتنا في تخويل أقاليمنا الجنوبية حكما ذاتيا موسعا، في نطاق سيادة المملكة، ووحدتها الوطنية والترابية، وقد قطعنا في هذا الشأن خطوات متقدمة ضمن مسار تشاوري، وطني ومحلي».
لقد كان تأسيس الكوركاس خطوة مفصلية حاسمة تنهض على إرساء تمثيل صحراوي، وذلك في سياق تميز آنذاك بضرورة إيجاد حل جدي وواقعي وموثوق لنزاع الصحراء، وبضرورة إعداد نخبة سياسية محلية لدعم هذا المقترح الذي يحظى، الآن وبعد حوالي عشرين سنة من طرحه، بدعم واسع من طرف المنتظم الدولي والفاعلين الكبار فيه (واشنطن، مدريد، باريس، برلين، لندن.. إلخ)، فضلا عن تزايد عدد القنصليات التي تم افتتاحها في العيون والداخلة، وانهيار خطاب الانفصال وتورط الجزائر في دعم ميليشيات إرهابية. وهو ما يفرض مراجعة جذرية لوضعية المجلس الملكي الاستشاري وأدواره، إذ كانت أبرز وظائفه تتمثل في إبداء الرأي والتشاور، تقديم المشورة للملك في القضايا ذات الصلة بالصحراء، فضلا عن تمثيل الصحراويين في المحافل الدولية والتواصل مع السكان المحليين، إضافة إلى المساهمة في التسويق السياسي لمبادرة الحكم الذاتي، والدفاع عنها في الخارج، والوساطة بين الدولة والمجتمع الصحراوي، وتقريب وجهات النظر في القضايا الحساسة. غير أن المجلس دخل في حالة من الجمود المؤسسي والوظيفي، حد أنه لم يطرأ عليه أي تعديل يُذكر منذ تأسيسه، سواء على مستوى تركيبته أو آليات اشتغاله. بل لم تعرف تركيبته التي تتكون من 141 عضواً تجديداً فعلياً منذ سنة 2010، وهو ما ساهم في إضعاف شرعيته التمثيلية، خاصة في ظل التحولات الاجتماعية والسياسية العميقة التي شهدتها الأقاليم الجنوبية خلال العقدين الأخيرين.
من الناحية الدبلوماسية، شهد الكوركاس خلال الفترة الممتدة بين 2007 و2012 نشاطاً ملحوظاً، تمثل في تنظيم جولات ومراسلات شفهية نحو عواصم أوروبية وأمريكية لاتينية، إلى جانب حضوره الدوري في مجلس حقوق الإنسان بجنيف، كما استقبل عدداً من الوفود البرلمانية من أمريكا اللاتينية وأوروبا. غير أن هذا الزخم الديبلوماسي بدأ يخبو تدريجياً بعد سنة 2013، حيث تراجع حضوره بشكل لافت، وانتقلت أدوار الدبلوماسية الموازية عملياً إلى المنتخبين والمجالس الجهوية، بينما سجل المجلس غياباً شبه تام على مستوى إصدار البيانات والتقارير التفسيرية بلغات متعددة، وهو ما أضعف حضوره في الرادار الدولي، خاصة في ظل تحولات المرحلة التي تقتضي الاستعانة بكفاءات جديدة، ذات امتداد دولي وقادرة على الترافع بلغات الإقناع الحقوقي في المحافل الدولية.
ولا غرابة أن مهتمين بالشأن الصحراوي يسجلون أن هناك مفارقة واضحة بين الخطاب السياسي الذي رافق إعلان تأسيس الكوركاس، والظهير المؤسس الذي جاء لاحقاً، إذ بدا أن هناك نوعاً من الإفراغ التدريجي للمحتوى، حيث تم تركيز الصلاحيات في يد الرئيس، في حين تم تحييد الطابع التشاركي الذي يفترض أن يميز هيئة استشارية من هذا النوع. وقد أدّى هذا إلى غياب آليات داخلية للنقاش والتداول، وتضييق مساحة المبادرة لدى الأعضاء، مما أضعف من قدرة الكوركاس على الفعل، وأدى إلى غيابه شبه التام عن معركة الترافع الدولي، الأمر الذي فسح المجال أمام قنوات أخرى للعمل في هذا الاتجاه.
لقد أصبح تقييم وظائف المجلس الملكي الاستشاري للشؤون الصحراوي ضرورة لا مفر منها. ذلك أن خلق إطار تمثيلي يعكس التعدد الصحراوي في صيغته الاجتماعية والسياسية، ويعمل كآلية استشارية لصيقة بالمؤسسة الملكية من أجل المساهمة في بلورة مقترح الحكم الذاتي، ويستجيب لمقترح الحكم الذاتي، ويعمل من أجل إرساء مرحلة انتقالية في مسار تدبير النزاع، من الأدوات المؤسساتية التي ينبغي تعزيز وجودها من أجل تأطير المقترح وتفعيله. ولن يتأتى ذلك إلا بفتح قنوات حوار داخلي وخارجي للتأسيس إلى خطاب رصين ومتماسك.
هذا هو الرهان الأساس الذي ينبغي أن يضطلع به المغرب ليظل متحكما في المسار السياسي الذي يدعمه كبار قادة العالم، مما يفرض تمتيع المجلس الاستشاري بتركيبة جديدة شابة ومسؤوليات موسعة، يكون قابلا لانخراط كافة الفاعلين المحليين في أقاليمنا الجنوبية، بمن فيهم الفاعلون الجمعويون والإعلاميون، ومكلفا برفع التصور الشامل بخصوص مشروع الحكم الذاتي.
غير أن هذه الوضعية، وإن بدت مقلقة، لا ينبغي أن تقود إلى إعلان وفاة المجلس أو إلى إلغائه، بل إلى الدفع القوي في اتجاه إعادة تأسيسه وفق منظور جديد يراعي التحولات التي طرأت على ملف الصحراء، داخلياً وخارجياً، ويمنحه الأدوات والآليات التي تجعل منه فاعلاً استراتيجياً في أفق بلورة الحكم الذاتي بشكل نهائي. المطلوب اليوم هو مقاربة إصلاحية تقوم على إعادة النظر في الظهير المؤسس، وتوسيع صلاحيات المجلس، وتحقيق التوازن داخل بنيته التنظيمية، مع فتح الباب أمام نخب جديدة تحمل الهم الجهوي وتتمتع بالمروءة وبالكفاءة العلمية والخبرة السياسية، بدل الاكتفاء بالتمثيل القبلي أو الاعتبارات العائلية التي أظهرت محدوديتها.
كما أن إشراك المجتمع المدني، وتوسيع دائرة التشاور العمومي، والانفتاح على الجامعات ومراكز البحث، وتأسيس وحدة تفكير استراتيجية داخل المجلس تنتج تقارير وتحليلات موجهة بلغات متعددة للرأي العام الدولي، بات ضرورة لا غنى عنها في صراع السرديات التي أصبحت جزءاً أساسياً من النزاع. ولا يمكن أن يستمر المجلس في العزلة الإعلامية، بل لا بد من إنشاء منصة تواصلية رقمية حديثة متعددة اللغات، تنقل صورة التنمية في الأقاليم الجنوبية، وتقدم معطيات دقيقة عن المبادرة المغربية، وتواجه الخطاب الانفصالي بأسلوب علمي ومقنع.
من هذا المنطلق، تتجلى أهم المراجعات أو الإصلاحات التي ينبغي أن يخضع لها الكوركاس، في مايلي:
أولا :إعادة هيكلة المجلس، وتوسيع تمثيليته لتشمل وجوهاً شابة ونسائية وكفاءات علمية وميدانية، ودمجه ضمن آلية جهوية تتماشى مع الجهوية المتقدمة، بل سدّ فجوة «التمثيل الصحراوي» للجم ادعاءات الخصوم الذين يروجون خطاب «عدم إشراك الصحراويين».
ثانيا: تفعيل المجلس كمنصة ترافع غير حكومية تعمل ميدانياً في الفضاءات الدولية (الجامعات، الإعلام، مراكز الفكر، المجتمع المدني)، وهذا ما سيعزز تموقعه في خريطة الديبلوماسية الموازية الوطنية، وذلك عبر إرسال وفود تمثل المجلس إلى الدول التي اعترفت بسيادة المغرب أو التي ما تزال مترددة، لإجراء حوارات عمومية ومع النخب، إلى جانب تعزيز التنسيق مع الجاليات المغربية بالخارج، وتقديم الدعم المعلوماتي والاستراتيجي لها في الترافع حول الصحراء.
ثالثا :إحداث مركز للدراسات والأبحاث، أو مرصد، داخل المجلس تُعنى بجمع المعطيات، وقراءة الخطابات الدولية، وتحليل تطور مواقف الدول المؤثرة، وأيضا إنتاج تقارير دورية بلغات العالم (بالفرنسية، الإنجليزية، الإسبانية، الروسية، الألمانية...) حول تطورات النزاع، تنشر وتوزع على المؤسسات الدولية.
رابعا: إرساء آلية تنسيق دائمة مع وزارة الخارجية، ومجلس الجالية، والمجالس الجهوية المنتخبة، لتعزيز التكامل في الخطاب والمواقف، ناهيك عن تقديم مقترحات مدروسة للملك، باعتبار المجلس هيئة استشارية، لتطوير آليات تنزيل الحكم الذاتي على المستوى المؤسساتي.
خامسا: مواكبة الاعترافات الدولية الجديدة بخطاب سياسي وثقافي وفكري موازي، وذلك عبر تنظيم ندوات وملتقيات دولية في المدن الصحراوية (العيون، الداخلة، السمارة، بوجدور، أوسرد...(.
سادسا: توجيه رسائل سياسية ناعمة عبر الصحافة الدولية، تعزز الموقف المغربي وتبرز واقعية الحكم الذاتي، وذلك بالتنسيق مع صحافيين وإعلاميين أجانب أظهروا معرفة دقيقة بالطبخة الجزائرية ورغبة الكراغلة في تحقيق الزعامة الإقليمية على حساب الوحدة الترابية للمغرب.
سابعا: مواجهة السردية الحقوقية الجزائرية التي تقوم على التشويه والإشاعة وتزييف الحقائق واختلاق الأحداث، وتعرية الانتهاكات التي تقوم بها ميلشيات البوليساريو في المخيمات بدعم غير مشروط من عصابة الجيش الجزائري.
ثامنا: الاشتغال على «الوجه الإنساني» للقضية: معاناة الصحراويين بمخيمات تندوف، وقصص نجاح النموذج التنموي في الصحراء، وفضح ما يجري في سجون تندوف من انتهاكات، وكشف كل أشكال السخرة والعبودية في المخيمات.
تاسعا: إنشاء قناة تواصل رقمية للمجلس بثماني لغات، تبث مستجدات القضية وتحللها بمنطق استراتيجي، إضافة إلى عقد شراكات مع المركز السينمائي المغربي بغرض إنتاج وثائقيات وشهادات لصحراويين يعكسون مسار التنمية وواقع الحياة بالصحراء في ظل السيادة المغربية.
عاشرا: تنظيم جولات تواصل أكاديمية وسياسية وفكرية وإعلامية في الخارج، وتزويد مركز القرار السياسي المغربي بالمعطيات الدقيقة التي تعزز الاعترافات الدولية المتتالية، وخاصة باقي الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن، وخاصة الصين وروسيا، بعد نجاح المغرب في انتزاع اعتراف الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا وبريطانيا.
يحتاج الكوركاس، إذن، في السياق الراهن، إلى نقلة جديدة: أي الانتقال من مؤسسة استشارية إلى فاعل مواكب ومنخرط في معركة تثبيت الطرح المغربي كخيار لا رجعة فيه، سواء عبر تكثيف الحضور الدولي، شرقا وغربا، أو عبر بناء جسر دائم مع المغاربة الصحراويين، في الداخل والخارج، بمن فيه المنحازون للطرح الانفصالي، مما يقتضي إعادة إنتاج وظيفته ودوره ضمن الهندسة المؤسساتية المغربية، وبما يجعله دعامة حقيقية لمشروع الحكم الذاتي، وشريكاً فعالاً في بناء نموذج ديمقراطي وتنموي بالأقاليم الصحراوية..