Wednesday 5 November 2025

كتاب الرأي

عبد العزيز الخبشي: من معركة الشرعية إلى معركة السياسة.. المغرب يفرض شروط السيادة في أفق التسوية النهائية

عبد العزيز الخبشي: من معركة الشرعية إلى معركة السياسة.. المغرب يفرض شروط السيادة في أفق التسوية النهائية عبد العزيز الخبشي
يبدو أن المغرب، بعد نصف قرن من الكفاح الدبلوماسي والسياسي، بلغ لحظة الحسم الكبرى في ملف الصحراء المغربية، لحظة الانتقال من معركة السيادة الدولية إلى معركة السياسة الداخلية والخارجية لتكريس الشرعية الوطنية تحت سقف السيادة الكاملة. فقرار مجلس الأمن الأخير ليوم 31 أكتوبر 2025 لم يكن مجرد تمديد تقني لولاية المينورسو أو تجديد روتيني لمواقف الأطراف، بل شكل، في جوهره، نقطة تحول حاسمة في موازين القوة داخل هذا النزاع الإقليمي. فبلغة القانون الدولي، تمكن المغرب من تحويل الصراع من "نزاع حول تقرير المصير" إلى نزاع حول تنزيل السيادة وتدبير الاندماج في إطار الحل الواقعي والنهائي الذي تمثله مبادرة الحكم الذاتي.
 
لقد حسم المغرب معركة الشرعية عبر مسارين متوازيين: الشرعية التاريخية والسياسية من جهة، والشرعية الدولية القانونية من جهة أخرى. فمنذ اتفاق مدريد 1975 إلى اليوم، لم يتوقف المغرب عن تعزيز موقعه في المنتظم الدولي من خلال ربط القضية بمفاهيم جديدة كالاستقرار الإقليمي، التنمية المستدامة، ومحاربة الإرهاب. وقرار مجلس الأمن الأخير — الذي جاء متناسقا مع مقترح الحكم الذاتي باعتباره الإطار الجدي والوحيد القابل للتطبيق — يؤكد هذا التحول الجوهري في خطاب الشرعية، إذ لم يعد الحديث عن استفتاء تقرير المصير مطروحا إلا في خطاب متحجر تجاوزه الزمن والوقائع (الجزائر). فالمجتمع الدولي بات مقتنعا أن الحل الواقعي هو الذي يضمن مصالح الساكنة، ويحفظ وحدة التراب، ويمنع قيام كيان هش في منطقة مضطربة.
 
لكن ما يميز هذه المرحلة الجديدة هو أن المغرب لم يعد في موقع الدفاع أو التبرير، بل أصبح صاحب المبادرة والسيادة الفعلية، وهو ما يفتح الباب أمام معركة السياسة، التي سيكون رهانها الأساسي فرض شروط الربح النهائي وفق منطق المنتصر لا المتنازل. فبعد خمسين سنة من المفاوضات المرهقة والقرارات الملتبسة، يتجه المغرب اليوم نحو فرض منطق الدولة ذات السيادة في مواجهة تنظيم مسلح فاقد للشرعية التمثيلية، يعيش على الدعم الخارجي ويتغذى من أزمات المحيط الإقليمي.
 
في ضوء القانون الدولي العام، يعتبر الحل السياسي التفاوضي السلمي أحد المبادئ الأساسية لتسوية النزاعات. والمغرب، منذ سنوات، التزم بهذا المسار تحت إشراف الأمم المتحدة، مسلّما بأن الشرعية لا تبنى بالقوة المسلحة بل بالتفاوض المسؤول. غير أن الشرعية الدولية لا يمكن أن تكون أداة بيد من يرفض الالتزام بها، وهو حال جبهة البوليساريو التي استعملت المفاوضات غطاء للاستمرار في منطق الابتزاز السياسي. من هنا يصبح التمييز بين "الشرعية الدولية" و"الشرعية الوطنية" أمرا محوريا. فالأولى حسمت لصالح المغرب عبر قرارات مجلس الأمن المتعاقبة، أما الثانية فتنتظر الترجمة السياسية عبر مفاوضات مباشرة تفرض فيها الرباط شروطها بوصفها الطرف الشرعي الوحيد الممثل للسكان والأرض.
 
الشرط الأول الذي يطرحه المغرب بوضوح هو حل تنظيم البوليساريو وتفكيك ميليشياته العسكرية. فهذا التنظيم، الذي نشأ في سياق الحرب الباردة وتغذّى من الصراعات الإيديولوجية القديمة، لم يعد يملك أي مبرر قانوني أو واقعي لوجوده. فالقانون الدولي يحظر الاعتراف بأي تنظيم مسلح غير تابع لدولة ذات سيادة، خصوصا حين يتورط في انتهاكات لحقوق الإنسان والاتجار بالبشر، وهي تهم موثقة في تقارير المنظمات الدولية. من هنا، فإن تصنيف البوليساريو كمنظمة إرهابية يصبح احتمالا واردا في الأفق القريب إذا ما استمرت في رفض الحل السلمي والاندماج في منطق الدولة.
 
الشرط الثاني يرتبط بمسألة التمثيلية السياسية. فالمغرب يرفض أي عودة جماعية تحت غطاء التنظيمات أو ما يسمى بـ"السلطة الصحراوية"، بل يشدد على أن العودة إلى الوطن تكون بصفة فردية، لأن منطق المواطنة يقوم على علاقة مباشرة بين الفرد والدولة، لا بين التنظيمات والدولة. وهذا الطرح ينسجم تماما مع روح القانون الدولي لحقوق الإنسان، الذي يعتبر أن الانتماء السياسي لا يمكن أن يكون بديلا عن الهوية الوطنية أو الشرعية الدستورية.
 
أما الشرط الثالث فيتمثل في تنزيل مشروع الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية، بوصفه الإطار العملي لتصفية الملف. فالمغرب لا يتحدث عن "تسوية وسطى"، بل عن "تدبير داخلي ديمقراطي" يضمن للسكان إدارة شؤونهم المحلية في ظل السيادة الكاملة للدولة. وهنا يبرز البعد الاستراتيجي للمقترح المغربي، لأنه يجمع بين منطق الاندماج والاعتراف، ويحول المنطقة من مصدر توتر إلى فضاء استقرار وتنمية.
 
غير أن التحديات التي تواجه المغرب في هذه المرحلة ليست تقنية فقط، بل سياسية ودبلوماسية بامتياز. فالمفاوضات المقبلة، إن تمت، ستكون ساحة اختبار لقدرة المغرب على ترجمة شرعية السيادة إلى مشروع سياسي جامع يدمج الأجيال الجديدة من الصحراويين في البناء الوطني. كما أن البيئة الإقليمية، وخاصة الموقف الجزائري، ستظل محدّدة في إيقاع الحل، لأن الجزائر مطالبة، بحكم عضويتها اليوم في مجلس الأمن وكونها الطرف الحقيقي في النزاع، بأن تختار بين منطق الشرعية الدولية ومنطق الوصاية الإيديولوجية القديمة.
 
لقد دخل المغرب إذن مرحلة جديدة من تاريخ نزاع الصحراء: مرحلة "السيادة التفاوضية"، حيث لم يعد السؤال هو "من يملك الشرعية؟"، بل "كيف تمارس هذه الشرعية؟". وفي هذه المعركة، يملك المغرب كل عناصر القوة: الاعتراف الدولي، الاستقرار الداخلي، النموذج التنموي في الأقاليم الجنوبية، والدعم المتزايد من الدول الكبرى. وما تبقّى ليس سوى تفاصيل سياسية في طريق حسمت وجهته، ووضعت لها الأمم المتحدة عنوانا واضحا في آخر قرار لمجلس الأمن: الحل السياسي الواقعي والدائم، تحت السيادة المغربية الكاملة.