Wednesday 5 November 2025

كتاب الرأي

محمد أرسلان علي: قراءة سورية في حكمة المغرب.. البوليساريو والكرد ما بين فخ الانفصال ومانيفستو المجتمع الديمقراطي

محمد أرسلان علي: قراءة سورية في حكمة المغرب.. البوليساريو والكرد ما بين فخ الانفصال ومانيفستو المجتمع الديمقراطي محمد أرسلان علي
يواجه القرن الحادي والعشرون تحديات جيوسياسية معقدة، تختلف جذريًا عن تلك التي سادت في القرن الماضي، خاصة بالنسبة للشعوب التي لم تتمكن من تحقيق سيادتها الكاملة في ظل النظام الدولي التقليدي. كان مبدأ حق الشعوب في تقرير مصيرها حجر الزاوية في حركات التحرر التي سادت القرن العشرين، لكنه أظهر في الوقت نفسه قصورًا في العديد من الحالات، مما ترك شعوبًا مثل الكرد والأرمن والآشور في الشرق الأوسط وكذلك الأمازيغ والطوارق في شمال أفريقيا، دون دول قومية. والسؤال الذي يطرح نفسه، هل ثمة بديل عن تشكيل أو بناء دولة جديدة على أنقاض الدولة القديمة؟وإن كان موجودا ما هو هذا البديل؟

ظهرت في الآونة الأخير ثمة نظريات تدعوا لبناء مجتمع ديمقراطي من خلال التعايش المشترك ما بين مكونات الدول، ويدعي أصحاب هذه النظرية أنه يمكن ذلك من خلال العيش المشترك ما بين المكونات، ضمن أنظمة حكم لامركزية وفيدرالية، بعيداً عن عقلية الانفصال والتقسيم. وذلك من خلال النضال السلمي والديمقراطي، والذي يمثل مسارًا استراتيجيًا أكثر استدامة وفعالية من السعي لتأسيس دول مستقلة عبر الصراع المسلح. إن هذا التحول في الأهداف والوسائل، من السعي نحو "الاستقلال القومي" إلى "التحرر الحقوقي والسياسي"، قد يكون الطريق الأنسب لتحقيق تطلعات هذه الشعوب في عالم يتزايد فيه الترابط وتتقلص فيه أهمية الحدود التقليدية.  
 
ظهر مفهوم حق تقرير المصير كحق قانوني للشعوب في تحديد مستقبلها السياسي وشكل حكمها دون تأثير خارجي. ارتبطت نشأته بظهور مفهوم "الدولة/الأمة" في القرن التاسع عشر، والذي قام على فكرة التجانس اللغوي والعرقي، ليصبح النمط السائد للحكم في القرن العشرين. اكتسب هذا الحق قوة قانونية كبيرة بعد إدراجه في ميثاق الأمم المتحدة عام 1951، مما جعله أداة رئيسية لحركات التحرر في العالم الثالث.  
 
بكل تأكيد أن الصراعات المسلحة والحروب تفرض تكاليف باهظة تتجاوز الخسائر في الأرواح. فعلى المستوى الاقتصادي، يكلف العنف العالم تريليونات الدولارات سنويًا. ومؤكدًا أن العنف يؤدي إلى تدهور اقتصادي كبير. أما التكلفة الاجتماعية والإنسانية، فهي أعمق وأكثر تدميرًا. تؤدي بيئات الهشاشة والصراع إلى ارتفاع مستويات العنف القائم على النوع الاجتماعي، مثل الاغتصاب، والرق الجنسي، والزواج القسري، والاتجار بالبشر. هذه التكاليف لا تزول بانتهاء النزاع، بل تترك ندوبًا عميقة في النسيج الاجتماعي للمجتمعات لعقود طويلة قادمة.  
 
كما أن النضال المسلح قد يوفر للأنظمة المبررات اللازمة لقمع المعارضة، من خلال تصويرها على أنها "مجموعات مخربة وعنيفة" في عالم يكيل بمكاييل عدة وفق المصالح، مما يسهل عليها حشد الدعم المحلي والدولي لقمعها. هذا المسار قد يؤدي إلى نتائج عكسية، حيث يوفر للسلطات الفرصة لتحويل الصراع من سياسي إلى عسكري، وهو الملعب الذي تتفوق فيه عادةً. على النقيض من ذلك، يمثل النضال السلمي أحد أشكال الكفاح السياسي الذي يعتمد على أدوات غير عنيفة مثل الأحزاب السياسية، والصحافة، والجمعيات، والمظاهرات، والعصيان المدني. أثبت هذا النوع من النضال فعاليته في مواجهة الأنظمة المركزية. 
 
ومع أن النضال السلمي يتطلب تضحيات، إلا أن طبيعته تساهم في تماسك المجتمع وبناء مؤسسات موازية بديلة، مما يعزز فكرة مدنية الصراع السياسي ويؤدي إلى نتائج أكثر استدامة على المدى الطويل. فاللامركزية السياسية ترتبط بشكل الدولة السياسي ونظامها، وتجد تطبيقها في الدول الفيدرالية أو الكونفدرالية. تهدف إلى إعطاء المواطنين وممثليهم المنتخبين ديمقراطيًا سلطة أكبر في عملية صنع القرار. تهدف هذه الفلسفة إلى إدارة الصراع وحفظ التوازن بين الوحدة والتنوع، مما يجعلها إطارًا مثاليًا للعيش المشترك في المجتمعات المتعددة.  
 
يعتبر الدستور هو الأساس القانوني لوجود الدولة الفيدرالية أو اللامركزية أو الحكم الذاتي. حيث يحدد الإطار العام، ويوزع الصلاحيات بين السلطات الاتحادية والأقاليم. لضمان حماية المكونات، يجب أن يتضمن النظام آليات واضحة مثل، الضمانات التشريعية حيث يتمثل ذلك في تمثيل الأقاليم في السلطة التشريعية الوطنية. وكذلك يجب أن يمتلك القضاء دورًا رقابيًا فعالًا لضمان علوية الدستور ومنع أي تجاوز على الصلاحيات. ولنجاح أي نظام لامركزي، يجب أن يكون هناك تمويل مستقل للوحدات المحلية، وتحديد واضح للضرائب والرسوم بين الحكومة المركزية والمحلية، مع وضع معايير عادلة لتوزيع التحويلات المالية. إن تحقيق التوزيع العادل للثروة هو شرط أساسي لتحقيق "الإنماء المتوازن" واستدامة السلام.  
 
وبالنظر إلى المفارقة التي تلفت الانتباه وهي ما بين الحركة الكردية وبين حركة البوليساريو. ففي الحالة الكردية وفي وقت يمتلك الكرد الكثير من أوراق القوة السياسية والعسكرية والدعم من قبل التحالف الدولي، إلا أنهم لطالما ينادون بوحدة وسيادة الأراضي السورية، ويسعون للعيش المشترك ما بين كافة مكونات سوريا، إلا أن السلطة المؤقتة في دمشق ترفض طلبهم هذا وتدعوهم للانصهار في بوتقة الإسلام السياسي، على أساس الأمة الإسلامية. وهي بهذه التقربات تجبر الكرد على التفكير بالانفصال. بينما في المغرب نسمع أن الدولة وبرعاية من الملك يعطون الحكم الذاتي لمنطقة الصحراء المغربية، إلا أن جبهة البوليساريو يرفضون عرض الدولة في الحكم الذاتي، ويسعون لتقسيم البلاد. ففي سوريا الكرد يطالبون بالتعايش وعدم التقسيم، إلا أن السلطة ترفض وتستفز الكرد للانفصال، بينما الحالة هي العكس تماماً في المغرب، بينما الدولة تعطي الحكم الذاتي للبوليساريو وتدعوهم للعيش المشترك، إلا أنهم أي البوليساريو يصرون على التقسيم. وهنا تكمن مشكلة ومنطق الثورة. فوفق المنطق البرجوازي الضيق والذين لا يهمهم سوى السلطة ولو كان على حساب تقسيم الوطن، والعقلية المجتمعية التي تسعى للحفاظ على النسيج المجتمعي والتماسك الثقافي للشعوب ضمن مجتمع ديمقراطي يتسع للكل.
 
حيث منطقة روج آفا (شمال وشرق سوريا)، يمثل نموذج مختلف تمامًا. فقد طرحه الزعيم الكردي عبد الله أوجلان، ويدعو إلى نظام "لا دولتي" يرفض الدولة القومية كبنية مركزية فظّة. يعتمد هذا النموذج على اللامركزية الجذرية، والديمقراطية المباشرة، والنسوية، والتعددية الثقافية، ويقوم على نظام مجالس قاعدية (كومونات) لإدارة شؤون السكان. تم تطبيق هذا النموذج في الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا (روج آفا) في ظل ظروف الحرب الأهلية. 
 
تظهر التجارب (الحركات الكردية، جبهة البوليساريو) أن هناك عوامل مشتركة تحدد نجاح أو إخفاق مساعي العيش المشترك. فجميعها تواجه تحديات تتمثل في تهميشها من قبل القوى الدولية، ومقاومة الأنظمة المركزية، والخلافات الداخلية. إن استراتيجيات النضال السلمي التي تبنتها الحركة الأمازيغية في المغرب، وتركيزها على بناء الوعي الذاتي، أدت إلى تحقيق مكاسب دستورية لا يمكن انكارها، ونيل حقوقهم في الاعتراف بهم وبلغتهم وثقافتهم. وحتى أنه في المغرب يمكن عبر النضال الديمقراطي دمقرطة المغرب ليشمل كافة المكونات الاثنية والثقافية والمعتقدات والأديان، وفق فلسفة الأمة الديمقراطية التي بمقدورها احتضان الكل من دون تمييز. وهذا لن يتم إلا من خلال تحرر المرأة بشكل حقيقي بعيداً عن تسليعها وتشيّؤها وبيعها كسلعة لتحطيم المجتمعات، بل على العكس من ذلك، حيث أن المرأة هو محور تطور المجتمعات أينما كانت وعليه يمكن أن تكون المرأة هي المقياس في تطور وتحرر المجتمعات من عدمه. والتجربة في روج آفا يمكن اتخاذها كتجربة غنية. حيث وصلت المرأة من خلال نضالها وعودتها لذاتها، لمراحل متقدمة من التطور السياسي والدبلوماسي وباتت تقود المجتمع.
 
يُظهر أن مسار العيش المشترك ضمن الأطر الفيدرالية واللامركزية هو بديل استراتيجي واقعي ومستدام للحلول القومية والانفصالية التي أُخفِقَت في توفير حلول دائمة للشعوب التي لم تحصل على دولها. فالنضال السلمي فعّال في تحقيق الأهداف السياسية، والحروب مكلفة ومدمرة، واللامركزية توفر إطارًا مؤسسيًا لإدارة التنوع.إن الطريق إلى العيش المشترك محفوف بالتحديات، لكن الأمل يكمن في إمكانية تجاوز "عقدة" العنف، والتحرر من نموذج الدولة القومية المتجانسة، والتوجه نحو بناء مجتمعات تعددية وديمقراطية تتسع للجميع. هذه المقاربة لا تقتصر على كونها حلًا سياسيًا، بل هي في جوهرها مشروع حضاري يمكن أن يؤدي إلى مجتمعات أكثر عدلًا، وازدهارًا، وسلامًا.
محمد أرسلان علي (مفكر سوري)