يشكّل القرار الأخير الصادر عن مجلس الأمن الدولي في 31 أكتوبر 2025 بشأن الصحراء المغربية محطة مفصلية في مسار هذا الملف الإقليمي، إذ كرس مبادرة الحكم الذاتي كحلّ واقعي ودائم، وأعاد تأكيد الدور المحوري للمملكة المغربية في ترسيخ الاستقرار الإقليمي. خمس زوايا أساسية تُضيء أبعاد هذا التحول التاريخي: من ترسيخ الواقعية السياسية إلى إبراز المغرب كقوة هادئة تبني نفوذها على الثبات والرؤية البعيدة.
1. ترسيخ الواقعية السياسية
ينطلق القرار من فكرة واضحة: السلام الدائم لا يقوم إلا على مؤسسات راسخة وقابلة للتطبيق. فمبادرة الحكم الذاتي التي قدمها المغرب سنة 2007 باتت اليوم الإطار العملي الأكثر واقعية، لأنها تجمع بين السيادة الوطنية والتمثيل المحلي والاستقرار الإقليمي. اللغة التي اعتمدها القرار الأممي جاءت متوازنة ودقيقة، إذ تحدثت عن «حل سياسي عادل ودائم»، ووضعت المقترح المغربي في صدارة الخيارات الجدية المطروحة أمام المجتمع الدولي.
هذا الاعتراف لم يأتِ من فراغ، بل هو ثمرة مسار طويل من العمل المتراكم. فعودة المغرب إلى الاتحاد الإفريقي، وتوسيع شراكاته الأطلسية، والاستثمارات الكبرى في الأقاليم الجنوبية، كلها جعلت من قضية الصحراء نموذجًا في الحكامة التنموية.
لم تعد المسألة تُطرح فقط بلغة السياسة، بل بلغة التنمية، حيث تُقاس الشرعية بما يُنجز على الأرض من مشاريع ومؤسسات وفرص عمل تُجسد الثقة والاستقرار.
هذا الاعتراف لم يأتِ من فراغ، بل هو ثمرة مسار طويل من العمل المتراكم. فعودة المغرب إلى الاتحاد الإفريقي، وتوسيع شراكاته الأطلسية، والاستثمارات الكبرى في الأقاليم الجنوبية، كلها جعلت من قضية الصحراء نموذجًا في الحكامة التنموية.
لم تعد المسألة تُطرح فقط بلغة السياسة، بل بلغة التنمية، حيث تُقاس الشرعية بما يُنجز على الأرض من مشاريع ومؤسسات وفرص عمل تُجسد الثقة والاستقرار.
2. تراجع السردية الجزائرية
على مدى عقود، جعلت الجزائر من ملف الصحراء رهانًا أيديولوجيًا يُستعمل لتغذية خطاب المواجهة. لكن القرار الجديد كشف محدودية هذا النهج. فالمجتمع الدولي يتحدث اليوم بلغة التوافق والمسؤولية المشتركة، ما يضع الجزائر أمام واقع جديد.
في حين يمضي المغرب في تثبيت مؤسساته وتنمية أقاليمه الجنوبية، تجد الجزائر نفسها أسيرة خطاب متجاوز.
لقد تغيّر محور النقاش العالمي من المواجهة إلى التنمية، ومن الشعارات إلى الحقائق الملموسة، ما أفقد الخطاب الجزائري زخمه التقليدي.
في الإعلام الجزائري، يظهر هذا التحول بوضوح: نبرة الانتصار القديمة استبدلت بقلق خافت. حتى على الصعيد الدبلوماسي، لم تجد الجزائر دعمًا حقيقيًا، إذ امتنعت كل من موسكو وبكين عن استخدام حق النقض، في إشارة واضحة إلى نهاية مرحلة وميلاد أخرى تُكرّس الواقعية بدل الشعارات.
في حين يمضي المغرب في تثبيت مؤسساته وتنمية أقاليمه الجنوبية، تجد الجزائر نفسها أسيرة خطاب متجاوز.
لقد تغيّر محور النقاش العالمي من المواجهة إلى التنمية، ومن الشعارات إلى الحقائق الملموسة، ما أفقد الخطاب الجزائري زخمه التقليدي.
في الإعلام الجزائري، يظهر هذا التحول بوضوح: نبرة الانتصار القديمة استبدلت بقلق خافت. حتى على الصعيد الدبلوماسي، لم تجد الجزائر دعمًا حقيقيًا، إذ امتنعت كل من موسكو وبكين عن استخدام حق النقض، في إشارة واضحة إلى نهاية مرحلة وميلاد أخرى تُكرّس الواقعية بدل الشعارات.
3. انتصار الزمن الطويل
لم يكن القرار الأممي الأخير حدثًا عابرًا، بل تتويجًا لمسار استراتيجي طويل قاده الملك محمد السادس برؤية قائمة على الاستبصار والثبات. فالعودة إلى الاتحاد الإفريقي، وتفعيل الشراكات الاقتصادية والطاقية، وتطوير البنيات التحتية في الأقاليم الجنوبية، كلها خطوات جعلت من السيادة المغربية واقعًا ملموسًا قبل أن تكون شعارًا سياسيًا.
هذا «الزمن الطويل» هو رصيد المغرب الحقيقي. فالمثابرة السياسية والدبلوماسية أنتجت شرعية متينة قائمة على العمل لا على الخطابة. القرار الأممي جاء ليؤكد أن الدبلوماسية الهادئة والمستمرة أكثر فاعلية من الدبلوماسية الانفعالية. الثبات أصبح أداة تأثير، والاتساق صار معيارًا للثقة.
هذا «الزمن الطويل» هو رصيد المغرب الحقيقي. فالمثابرة السياسية والدبلوماسية أنتجت شرعية متينة قائمة على العمل لا على الخطابة. القرار الأممي جاء ليؤكد أن الدبلوماسية الهادئة والمستمرة أكثر فاعلية من الدبلوماسية الانفعالية. الثبات أصبح أداة تأثير، والاتساق صار معيارًا للثقة.
4. مرحلة التنفيذ: من الاعتراف إلى البناء
يفتح القرار الجديد مرحلة جديدة عنوانها تحويل الاعتراف الدولي إلى إنجاز عملي.
فمفهوم الحكم الذاتي لا يتحقق إلا بحكامة رشيدة، وشفافية في التسيير، ومشاركة فعلية للمواطنين في صناعة القرار المحلي.
الإصلاحات الجارية في الأقاليم الجنوبية مطالبة اليوم بتعميق اللامركزية وتعزيز الكفاءة الإدارية وضمان توازن التنمية بين المدن والمناطق.
النجاح في هذه المرحلة يتوقف على التنسيق بين السلطات المحلية والمركزية، وعلى وضوح المسؤوليات وصرامة التنفيذ.
فالصحراء يمكن أن تصبح مختبرًا لنموذج مغربي في التنمية المستدامة والتدبير الرشيد، يُجسد روح الحكم الذاتي في الممارسة اليومية. بهذه الروح، يتحول «الواقعية الدبلوماسية» إلى «واقعية في تدبير الشأن العام»، أي إلى التقاء الرؤية بالنتيجة.
فمفهوم الحكم الذاتي لا يتحقق إلا بحكامة رشيدة، وشفافية في التسيير، ومشاركة فعلية للمواطنين في صناعة القرار المحلي.
الإصلاحات الجارية في الأقاليم الجنوبية مطالبة اليوم بتعميق اللامركزية وتعزيز الكفاءة الإدارية وضمان توازن التنمية بين المدن والمناطق.
النجاح في هذه المرحلة يتوقف على التنسيق بين السلطات المحلية والمركزية، وعلى وضوح المسؤوليات وصرامة التنفيذ.
فالصحراء يمكن أن تصبح مختبرًا لنموذج مغربي في التنمية المستدامة والتدبير الرشيد، يُجسد روح الحكم الذاتي في الممارسة اليومية. بهذه الروح، يتحول «الواقعية الدبلوماسية» إلى «واقعية في تدبير الشأن العام»، أي إلى التقاء الرؤية بالنتيجة.
5. المغرب، قطب استقرار في المنطقة
أكد التصويت في مجلس الأمن في 31 أكتوبر 2025 مكانة المغرب كفاعل توازن واستقرار في المنطقة.
فخطة الحكم الذاتي، التي تحظى بتأييد متزايد من العواصم المؤثرة، أصبحت عنوانًا لدبلوماسية مغربية متزنة وفعّالة.
من مشروع أنبوب الغاز المغرب–نيجيريا إلى المبادرة الأطلسية الإفريقية، يثبت المغرب أنه مركز ثقل يربط بين ضفتي الأطلسي.
هذه الرؤية تنبع من قناعة راسخة بأن السلام يُبنى على الثقة لا على التباعد. ودعوة الملك محمد السادس إلى "حوار صادق وأخوي" مع الجزائر تُجسد هذا الوعي الاستراتيجي، إذ يؤمن المغرب بأن مستقبل المنطقة المغاربية لا يُبنى بالقطيعة بل بالشراكة والمسؤولية المشتركة.
في ظل تحديات الساحل، والأزمات الطاقية، والهجرات العابرة للقارات، تبرز المقاربة المغربية كخيار عملي يعتمد على الاستقرار الداخلي والتعاون الواقعي. لقد أصبحت الثبات والاتساق معيارين جديدين للقوة الناعمة المغربية، ولحضورها المسؤول في محيطها الإفريقي والمتوسطي.
فخطة الحكم الذاتي، التي تحظى بتأييد متزايد من العواصم المؤثرة، أصبحت عنوانًا لدبلوماسية مغربية متزنة وفعّالة.
من مشروع أنبوب الغاز المغرب–نيجيريا إلى المبادرة الأطلسية الإفريقية، يثبت المغرب أنه مركز ثقل يربط بين ضفتي الأطلسي.
هذه الرؤية تنبع من قناعة راسخة بأن السلام يُبنى على الثقة لا على التباعد. ودعوة الملك محمد السادس إلى "حوار صادق وأخوي" مع الجزائر تُجسد هذا الوعي الاستراتيجي، إذ يؤمن المغرب بأن مستقبل المنطقة المغاربية لا يُبنى بالقطيعة بل بالشراكة والمسؤولية المشتركة.
في ظل تحديات الساحل، والأزمات الطاقية، والهجرات العابرة للقارات، تبرز المقاربة المغربية كخيار عملي يعتمد على الاستقرار الداخلي والتعاون الواقعي. لقد أصبحت الثبات والاتساق معيارين جديدين للقوة الناعمة المغربية، ولحضورها المسؤول في محيطها الإفريقي والمتوسطي.
خاتمة
يفتح القرار الأممي مرحلة جديدة عنوانها الوضوح والمسؤولية المشتركة. فالمغرب يتقدم بخطى ثابتة، مرتكزًا على الشرعية والقانون والدبلوماسية الهادئة، وفق منهج أثبت نجاعته وصموده أمام المتغيرات.
في الرباط يسود مناخ من الثقة والتصميم، بينما تسود في الجزائر حالة من التردد والمراجعة.
الرسالة واضحة: الاستقرار لا يُمنح، بل يُكتسب بالعمل المتواصل وبواقعية تضع المصلحة الوطنية فوق كل اعتبار.
كما قال سينيكا: «من أراد أن يبلغ غايته، فليسلك طريقًا واحدًا، ولا يتشتت في طرق كثيرة».
في الرباط يسود مناخ من الثقة والتصميم، بينما تسود في الجزائر حالة من التردد والمراجعة.
الرسالة واضحة: الاستقرار لا يُمنح، بل يُكتسب بالعمل المتواصل وبواقعية تضع المصلحة الوطنية فوق كل اعتبار.
كما قال سينيكا: «من أراد أن يبلغ غايته، فليسلك طريقًا واحدًا، ولا يتشتت في طرق كثيرة».
د.فكري سوسان، أستاذ باحث
