ربما قد يبدو غريبا أمر الفنان الحاج يونس، بأنه وفي الوقت الذي يصنف "الحرارة" على رأس قائمة "إرهابيي" راحته النفسية، تجده محتضنا، وعلى الدوام، بركانا قابل للإنفجار في أي وقت وحين، وإن في شكل عود يخفي شرارة "اللافا" بين أوتاره. والأغرب كونه لا يجد حرجا في أن يميل إلى تلبية دعواته المتكررة حتى لأشد الدول سخونة إن بطقسها الحالي أو دخولها موسوعة "غينيس" كما هو حال الهند التي سجل بها أعلى رقم قياسي في العالم والبالغ 51 درجة.
ومع ذلك، حل يوم الخميس 27 يوليوز الماضي، ليخبرنا الرجل من قلب المطار بوجهته "النيوديلهية"، لا لشيء سوى لإحياء حفل رفقة نجمة البلد "فيديا شاه" ذات التوجه الكلاسيكي الروحاني، وليس هذا فحسب بل والطيران بعد ذلك إلى النيبال، وتحديدا العاصمة "كاتاماندو" للغرض ذاته. كل هذا بمناسبة عيد العرش الذي صادف الذكرى 18 لاعتلاء محمد السادس المُلك.
وبالفعل، تمت الرحلة برعاية إلاهية شاملة إلى أراضي لا يشكل فيها المسلمون سوى نحو 4,5 في المائة مع أغلبية ساحقة للهندوس البالغة نسبتهم أزيد من 81 في المائة. ولعل ذلك ما يمنح لرسالة الفنان بعدا لا يعترف بفوارق الدين والإعتقاد، طالما أن مسعاه هو كل ما يدور في فلك الحب والتآخي، حيث تلغى الحدود في سبيل عولمة السلم والأمان.
يومان بعد ذلك، ظهر أسد العود المغربي مجددا، في وصلة يصعب القول عنها "تمرينا"، كما عبر عنها، لأنها كانت بحق حفلا مصغرا صال فيه الحاج وجال بين مختلف المقامات أمام شبه غيبوبة للفنانة الهندية ومرافقيها الموسيقيين، ولسان حالها يكلم نفسه "ياليت ترنيمات أناملك تدوم وتدوم وتدوم على حساب وقت أدائي، وبعد ذلك إن بقي وقت، فلتدوم أيضا ترنيماتك وتدوم وتدوم...".
وعلى ملامح تلك الجلسة التي لا يود سُمَّارها أن يعقبها صباح، حل الموعد الموعود المؤرخ بالإثنين 31 يوليوز 2017 ، فانتظر كل من حضر الحفل، من مسؤولين حكوميين وشخصيات عسكرية ومدنية وعلى رأسهم السفير محمد مالكي، إطلالة هذا الذي أتى من بلد اسم المغرب. وقتها سبقته ألقاب "الدكتور" و "السفير" و"الجوال" و"سندباد العود" و"زرياب المغرب" لتمهد طريقه نحو الأستذة واللعب بالمسامع على هواه عبر بوصلة السلطنة، راضخة، أي المسامع، للأمر الواقع. واقع "إذا تكلم عود الحاج يونس صمتت أفواه ذواقة الفن الأصيل".
وإن كان ذلك شأنا مألوفا في حفلات الحاج يونس، فالإنطباع عينه امتد ليصل بلد "النيبال" التي انطلق إليها من مطار "أنديرا غاندي" يوم الأربعاء 2 غشت 2017، حاملا نصفه المرتاح لمرور المناسبة كما أراد، ونصفه الثاني المتخوف من أجواء الحفل المقبل. نعم، متخوف، ولا داعي لرفع الحواجب تعجبا، فمن رافقته آلته منذ ستينيات القرن الماضي وتبسط على يده المقامات، لا زالت تسكنه "الدهشة" قبل لقاء الجمهور، لكن لتختفي اختفاء الثلج في الماء بمجرد ضغطه لأول وتر يفتح باب عالم السيادة وامتلاك السيطرة.
هي إذن سفرية أضيفت إلى سابقاتها الموزعة على أكثر من 40 دولة، منها ما تكررت زيارتها لأزيد من 20 مرة، جرت وراءها وساما آخر على صدر هذا الفنان، ومكرسة لمسيرة لم توجد أساسا لهدف الإعتراف أو الرغبة في التصفيق، وإلا لوقفت في منتصف الطريق، وإنما وجدت لتحيى من أجل ذاتها، ومن أجل الفن والوطن. ولو أن عازفنا، كأي إنسان له مشاعر وحس، لا يمكن أن تجالسه دون رؤية لهز عينيه وهو يعاتب المقصرين في إعطاء لكل ذي حق حقه، ولو بالكلمة الطيبة كوقود معنوي يقود إلى بذل المزيد من الكد والإجتهاد، خاصة وأن المناسبة فرصة، وفرصتنا أن لنا فنان اعترف به العالم باسم الحاج يونس، يحمل دما مغربيا وقلبا وطنيا بين ضلوع اشتد عودها على أرض "حريزية".
عاد الحاج يونس إلى أرض الوطن بذكرى جميلة، وقبالة أعينه نظرة ثاقبة للمستقبل، لكن بينهما قواسم مشتركة بطعم التفاؤل والحسرة على ما مضى. ومهما حاول تجاهل الأمر، فإن هناك بصمات ترفض السقوط في الركن المنسي من ذاكرته، وتأبى إلا أن تصرخ من عمق طبعه الهادئ "كفى من قتل الفن ببلادنا، وتحنيط رموزه. فلا يرفع البلدان إلا رجالها". هؤلاء الذين سئموا من تذكرهم، فقط، عند الحاجة إليهم لتنشيط عمل خيري يستهدف مرضى السرطان أو السيدا أو القصور الكلوي. وبرغم أن كلهم صدورا منشرحة لهذه التطوعات، لكن ليس ليسمعوا من بعد أن الجمعيات التي استدعتهم مجانا صرفت الملايين لفنانين أجانب، بوضع عشرات الأسطر الحمراء تحت "فنانين" بحكم مستوى ما يقدمونه من إنتاجات.
عاد الحاج يونس إلى أرض الوطن، بنفس الضيق الذي تولد معه حيال ارتفاع درجات الحرارة، وكذا الصبر على مشاقها ما دامت جزءا من طبيعة مسقط رأسه. غير أنه إذا كانت يدك منك ولو شلت، فللتكيف شروط، وللتعايش ظروف لابد من توفيرها، وإلا لفاض الكيل وأصيب الخلف بالإحباط قبل بداية المشوار. بناء على يعاينه من مصير السلف.
عاد الحاج يونس إلى أرض الوطن، وهو يعلم جيدا زوال الإنجذاب الذي كان يستوهيه وهو يقول آمين لدعوة أبيه حتى يقضي والأسرة فصل الصيف بموسم "سيدي عبد الرحمان" خلال الخمسينيات. كما يعلم بأن ما صارت تأويه منطقة عين الذئاب من مسابح فخمة لن تنزل حرارة بدنه، وهو العاشق للأمواج العالية، ذات الحمولة الأصيلية.
عاد الحاج يونس إلى أرض الوقت، وهو لا يتمنى عودة الإحساس الذي تملكه يوم فقد كلبه من فصيلة "كانيش". والغصة التي اعتصرته من رحيل من قال فيه أحمد شوقي "أودعت إنسانا وكلبا وديعة ++ فضيعها الإنسان والكلب حافظ". هذا، مع أنه لم يكن يستوعب بأن "ديامون"، اسم الكلب، كان بحق عربون الوفاء الذي يتنكر له الكثير من البشر، وإن كنت وراء دعمهم وهم لا يفرقون بعد ما بين مقامات "البياتي" والحجاز" والنهاوند"، كما يخلطون بين أغاني أم كلثوم ومنيرة المهدية وفتحية أحمد، إن سمعوها أصلا. فبالأحرى معرفة ما لحن القصبجي وفريد الأطرش ورياض السنباطي، قبل الحديث عما إذا سبق للحاج يونس تلحين الموسيقى التصويرية لأفلام من قبيل "كوشمار" و"دموع الندم"، أو كان للمطربة المصرية نادية مصطفى، وسميرة بنسعيد ولطيفة رأفت وإسماعيل أحمد ونادية أيوب وحياة الإدريسي حظ من أعماله التلحينية.
عاد الحاج يونس إلى أرض الوطن. هذا الأخير الذي أهداه ملكه الراحل الحسن الثاني عودا في مثل هذا الشهر من عام 1983، ودخل قصره على امتداد 13 سنة كمشرف على التقاسيم. هذا الوطن، الذي لم يفكر متخذوا القرار فيه تخصيص قناة واحدة للفن المغربي، واستعصى عليهم أمر إعادة تقليد امتلاك كل مدينة لجوق محلي مثل ما ماكان جاريا به العمل أيام الفن الحقيقي.
عاد الغائب الحاضر ليشغل مكانا لا يملؤه غيره، ويتنفس هواءا وُهب لأجله بمقدار سعة صدره. مانحا عوده تأشيرة الحديث بجميع اللغات حتى يحتكر لنفسه بالأنانية المشروعة همس لهجة بلده التي لا يستكثر عليك منها كلمة "سِيدِي" مهما كان شأنك، مع ابتسامة لا تستشيره في رسمها ملامحه وإن كان في عز الحديث عما يؤلمه. حينذاك لا يسع سوى الإقرار بأن هذا المُوقِّع على تواضع الكبار دليل إضافي من أدلة وجود الله، لأنه لا يقوى على خلق مخلوق بهذه الصفات، إلا رب قادر على قذف هيبة الإستلطاف في أعز عباده قبل نفخه بروح الحياة.