إن واقعة حملة الدراجات النارية التي أطلقها وزير النقل واللوجستيك المنتمي إلى حزب الاستقلال، قبل أن يتدخل رئيس الحكومة عزيز أخنوش لوقفها بجرة قلم، تكشف بجلاء كيف تحولت حياة المغاربة البسطاء إلى مجرد أوراق صغيرة في لعبة انتخابية قذرة، لا تعنيها المصلحة العامة في شيء بقدر ما تهمها حسابات النفوذ والصراع على الصورة. وما جرى لم يكن مجرد خطأ إداري أو ارتباك ظرفي، بل فضيحة سياسية عرت عن عقم الرؤية داخل التحالف الحكومي، وعن انتهازية الحزب الحاكم الذي يريد أن يستثمر كل أزمة—even تلك التي صنعها حلفاؤه—لتحويل نفسه إلى "منقذ" مصطنع، في مسرحية رديئة الإخراج.
لقد أطلق وزير النقل حملة لمراقبة الدراجات النارية بشكل مفاجئ ودون إعداد أو تدرج، حيث كان القرار يقوم على حجز كل دراجة لا تستجيب للمعايير القانونية. هذا القرار ضرب عرض الحائط بالواقع الاجتماعي للمغاربة الذين يعتمدون على الدراجات في كسب قوت يومهم والتنقل بين أماكن العمل والدراسة، خاصة في المدن الصغيرة والقرى. آلاف الشباب الذين يشتغلون في التوصيل أو الحرف البسيطة وجدوا أنفسهم بين عشية وضحاها مهددين بفقدان وسيلة رزقهم. لم تكن هناك حملات تحسيسية ولا مهل لتسوية الوضع، بل قفز الوزير إلى أقصى درجات التعسف وكأنه في سباق مع الزمن لتسجيل نقاط سياسية باسم حزبه.
غير أن ما زاد الطين بلة هو تدخل رئيس الحكومة، عزيز أخنوش، الذي أعلن وقف هذه الحملة بشكل استعراضي، مقدماً نفسه بوقاحة بمثابة المنقذ الحامي لحقوق الناس، وموجها صفعة لحليفه الاستقلالي. لم يكن الأمر تصحيحاً لمسار ولا استجابة صادقة لمعاناة الشارع، بل استثماراً انتهازياً لحالة الاحتقان الشعبي لتحويلها إلى دعاية انتخابية مجانية لصالح حزبه. ففي لغة السياسة، لم يكن قرار الإلغاء سوى استعراضاً سلطوياً، ورسالة إلى الرأي العام تقول: "لو لم نكن نحن على رأس الحكومة، لاستمر الآخرون في ظلمكم". إنها لعبة مكشوفة لا تنطلي إلا على السذج، لكنها تكشف بجلاء مستوى الانحدار الذي وصلت إليه الممارسة السياسية.
الملف إذن ليس تقنياً يتعلق بالسلامة الطرقية كما يحاولون تقديمه، بل هو في جوهره دليل حي على غياب التنسيق بين مكونات التحالف، وانعدام الرؤية الحكومية، وانحطاط الصراع السياسي إلى مجرد حركات استعراضية لا هدف لها سوى كسب الشعبية الظرفية. هنا يتجلى ما قلناه في الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية مراراً: إن المشكل ليس في النصوص القانونية ولا في المؤسسات وحدها، بل في غياب إرادة سياسية حقيقية تجعل المواطن في صلب القرار بدل أن تحوله إلى وسيلة دعاية أو رهينة في الحسابات الحزبية الضيقة.
السياسة، في جوهرها، يجب أن تكون أداة لتنظيم المجتمع وتحسين شروط العيش. أما حين تتحول إلى أداة انتخابوية، فإنها تفقد معناها وتصبح خطراً على الاستقرار الاجتماعي. إن ما حدث في ملف الدراجات النارية يعكس هذه الانحرافات: حزب الاستقلال أراد أن يظهر بمظهر الحزب الصارم المسؤول، فارتكب قراراً ارتجالياً يفتقد كل شروط العقلانية والتدرج، بينما حزب التجمع الوطني للأحرار استغل الاحتجاجات ليظهر بمظهر المنقذ. والنتيجة أن المغاربة وجدوا أنفسهم بين مطرقة التعسف وسندان الشعبوية.
إن هذا العبث ليس جديداً. فمنذ تولي أخنوش رئاسة الحكومة، ونحن نتابع كيف يحول كل مبادرة—even تلك التي هي في الأصل من صميم عمل الدولة—إلى مادة دعائية لفائدة حزبه. من "أوراش" إلى "فرصة"، ومن توزيع المنح إلى الإعلان عن تدخلات حكومية، كلها قُدمت وكأنها "مكرمات" من حزب الأحرار وليست سياسات عمومية ممولة من جيوب المغاربة. وفي كل مرة، يتم تغييب النقاش العمومي الجدي حول الأثر الحقيقي لهذه البرامج، ليفسح المجال لاستعراضات إعلامية تخدم أجندة انتخابية صرفة.
ولعل خطورة هذا المسار تكمن في أنه يعمق أزمة الثقة بين المواطنين والسياسة. فحين يرى المواطن أن أبسط ملف يومي—مثل الدراجات النارية—يُدار بالارتجال والمزايدات، فكيف يمكن أن يثق في قدرة الحكومة على معالجة الملفات الكبرى المتعلقة بالاقتصاد، التعليم، الصحة، أو العدالة الاجتماعية؟ هذا السؤال ليس نظرياً، بل يعكس جوهر المأزق السياسي الذي نعيشه: حكومة عاجزة عن التنسيق بين وزرائها، وأحزاب لا ترى في المواطن سوى رقماً انتخابياً، وتحالف هش يخفي خلف واجهته الرسمية صراعات ومناورات.
من موقعنا كاتحاد اشتراكي، لا يمكننا إلا أن ندين هذا السلوك الذي يسيء إلى السياسة وإلى صورة المؤسسات. إننا نؤكد أن حماية أرواح المغاربة على الطرقات لا تتحقق بالقرارات الاعتباطية ولا بالمزايدات، بل تتطلب سياسة عمومية شاملة تقوم على التدرج، المصاحبة، التوعية، وتوفير بدائل حقيقية للفئات المتضررة. فالأمر لا يتعلق بحجز الدراجات فحسب، بل بخلق شروط استعمالها في إطار منظم وآمن: تجهيز الطرقات، تحسين البنية التحتية، فرض معايير السلامة عبر الدعم والتحفيز، وليس عبر الزجر المفاجئ.
إن الارتجال الذي صدر عن وزير الاستقلال، والانتهازية التي مارسها حزب الأحرار، وجهان لعملة واحدة اسمها الإفلاس السياسي. فكلاهما تعامل مع حياة المغاربة كوسيلة في معركة انتخابية، غير عابئين بما قد يترتب عن ذلك من فوضى اجتماعية وتوتر في الشارع. وما يثير السخرية أن هؤلاء السياسيين يتحدثون ليل نهار عن "الاستقرار" و"الإصلاح"، بينما ممارساتهم اليومية هي أكبر تهديد لأي استقرار حقيقي لأنها تغذي الاحتقان وفقدان الثقة.
إن ما وقع يعيد إلى الأذهان سؤالاً جوهرياً: أي مشروع مجتمعي تحمله هذه الحكومة فعلاً؟ هل هي حكومة برامج ورؤى بعيدة المدى، أم مجرد جهاز لتسويق صورة الحزب الحاكم وتصفية الحسابات بين مكونات التحالف؟ إن واقع الحال يجيب دون مواربة: نحن أمام سلطة سياسية تفتقد البوصلة، تحركها حسابات المدى القصير، وتستثمر حتى في الأزمات لزيادة رصيدها الانتخابي. وهذا، في نظرنا، انحطاط للسياسة وتهديد خطير لمستقبل الديمقراطية ببلادنا.
لقد آن الأوان لقول الحقيقة: المغاربة يستحقون أكثر من هذه الممارسات الانتهازية. يستحقون حكومة مسؤولة تضع المصلحة العامة فوق كل اعتبار، وتدير الملفات الكبرى والصغرى بالجدية والشفافية اللازمة. أما أن تظل حياتهم اليومية رهينة لصراع بين حزب يريد أن يظهر بمظهر الصارم وحزب آخر يريد أن يلبس قناع المنقذ، فهذا استهتار لا يمكن القبول به.
إننا في الاتحاد الاشتراكي نرى أن الخروج من هذا العبث يمر عبر ثلاث خطوات أساسية: أولاً، إعادة الاعتبار للسياسة كفعل مؤسساتي مسؤول، بعيداً عن التسويق الانتخابي الرخيص. ثانياً، إلزام الحكومة بالتنسيق الحقيقي بين مكوناتها وبإعداد السياسات العمومية عبر الحوار المسبق، وليس عبر القرارات المفاجئة التي تربك حياة الناس. وثالثاً، تعزيز دور الرقابة البرلمانية والإعلامية والمجتمعية حتى لا تتحول الحكومة إلى آلة دعائية لحزب بعينه.
إن فضيحة حملة الدراجات النارية ليست حادثا عابرا يمكن تجاوزه بالنسيان، بل هي مرآة تعكس طبيعة الانحطاط الذي وصلت إليه السياسة الرسمية. ولعل الرسالة الأهم التي يجب أن يخرج بها المغاربة هي أن مصالحهم الحقيقية لا يمكن أن تتحقق في ظل حكومة ترى فيهم مجرد أصوات انتخابية. إن المعركة الحقيقية اليوم هي معركة من أجل إعادة السياسة إلى مسارها الصحيح: خدمة المواطن، لا استغلاله. وإذا كان هذا الحدث قد كشف شيئاً، فهو أن الشعب المغربي لم يعد يحتمل أن تُدار حياته اليومية كأوراق في لعبة انتخابية قذرة.
