الجمعة 22 نوفمبر 2024
ملفات الوطن الآن

هل قدر اليسار أن يعيش بدون تجذر شعبي؟

هل قدر اليسار أن يعيش بدون تجذر شعبي؟

ليس تراجع اليسار في المغرب وتقلص امتداداته الانتخابية هما ما يثير السؤال فهذا صار معطى مسجلا بالوقائع والأرقام. ولكن عوامل هذا التراجع هي التي تطرح أمورا إشكالية قد تتغير نتائجها بحسب مرجعيات المتسائلين، ووجهات نظرهم وتموقعاتهم السياسية ومصالحهم المادية.
أما بخصوص المعطى الذي يهم التراجع فالأكيد أن لا أحد يجادل موضوعيا في أننا لا نعيش زمن اليسار. مثلما لم يعد هذا اليسار مجسدا لآمال وتطلعات المواطنين التواقين إلى التغيير كما كان يتم ذلك في عقدي ستينيات وسبعينيات القرن الماضي. ولا نحتاج لجهد كبير لنثبت بأن أوضاع اليساريين مقطوعة مع البنية العميقة للمجتمع المغربي، ومع تعبيراته الأساسية داخل روافد المجتمع المدني. كما أن تأثيره في صنع القرار السياسي محدود جدا، وهياكله التنظيمية وبناه الفكرية ترهلت بعد أن عمها صدأ السنين وأمراض ما يسمى «الطفولة» اليسارية التي لا تزال تعلق مشجب أخطائها على الآخر قبل الذات، وتؤجل فكرة النقد والنقد الذاتي لأنها تخشى المواجهة مع الذات. وعوض ذلك تصدر الأعطاب الذاتية إلى تعقيدات المحيط الخارجي.
في هذا الإطار نصوغ أسئلة? فرضيات يمكن أن تبلور فهما مشتركا لواقع التراجعات الراهنة، من بينها التساؤل حول ما إذا كان التراجع يعود، كما يرى البعض، إلى فشل مكونات الحركة الوطنية في كسب معركة الصراع حول الشرعية مع النظام، وإلى أن هذا الأخير قد نجح منذ إطلاق المسلسل الديموقراطي في ترويض المعارضة، مما جعل المغرب يفقد قوة اليسار تنظيميا وشعبيا، كما كان يمثلها في الستينيات والسبعينيات الاتحاد الوطني للقوات الشعبية وحزب التحرر والاشتراكية، ثم لاحقا تنظيمات الحركة الماركسية. ومن ثم انفسح المجال للأصوليين للترويج لخطابهم القائم على فكرة تمثيل الله في الأرض، وعلى إقرار انتساب اليسار إلى عالم الكفر ضدا على الإسلام. أم أن التراجع، وكما يقول اليساريون أنفسهم، يكمن في تراجع وهج اليسار على المستوى الدولي منذ ثمانينيات القرن الماضي، خاصة بعد نجاح المعسكر الليبرالي بقيمه المتوحشة في اكتساح العالم منذ سقوط الاتحاد السوفياتي وانهيار جدار برلين،  وإثر هيمنة منطق السوق، وما نتج عن ذلك من سيادة منطق العولمة الذي يعمل على تنميط العالم، وغلبة النزعة الفردانية على خلاف تام مع العالم الذي انبثق بعد الحرب العالمية الثانية وفي عقد الستينيات على وجه خاص حيث كانت ثورة ماي 1968 بؤرة ذلك الوهج المفقود اليوم، على الصعيد الأوربي، وبموازاتها كانت الفورات اليسارية في كل مناطق العالم تعطي الدليل على إمكانيات التغيير.
ضمن نفس السياق، يمكن التساؤل حول ما إذا كان التراجع متأتيا من انحسار المد اليساري حتى في المحيط العربي حيث كانت حقبة الستينيات تعرف انتعاش المد اليساري عبر امتداد شوكة الشيوعيين العرب، وكذلك من خلال بروز الناصرية التي مثلت بالنسبة لأنصارها روح العداء للإقطاع وللرجعية محليا، وللإمبريالية والصهيونية عالميا. وبعد ذلك شهد العالم العربي «براديغمات» جديدة منذ نهاية السبعينيات، وتحديدا منذ نجاح الثورة الإسلامية في إيران سنة 1979 التي أعطت الأمل لأنصارها بإمكانية بروز الاختيار الإسلامي كحل لمعضلات التخلف والتنمية والتمثيل السياسي والعلاقات مع الغرب؟ وستتطور هذه المعادلة الجديدة ضمن معطى مختلف في تسعينيات القرن الماضي عبر بروز تنظيم القاعدة وسليلته «داعش» لاحقا اللذين اقترحا تقسيما جديدا للعالم مميزين بين عالم الإيمان وعالم الكفر، ومبشرين بوشوك قيام الخلافة الإسلامية التي ستحيي أمجاد السلف الصالح.
الذين يجيبون بالإيجاب عن هذه الأسئلة-الفرضيات يؤكدون أن من الطبيعي أن يحشر اليسار في الزاوية الضيقة، وأن يصير بلا قواعد ولا جمهور ولا مصوتين. لكن السؤال الحقيقي هو: هل هذا قدر مفروض على قوى اليسار لا تستطيع تجاوزه؟
لا نعتقد ذلك لأن الإقرار به يعني إعفاء اليساريين من مسؤوليتهم بعد أن حولوا حلبات الصراع إلى الصالونات، وبعد أن لاذوا بفكر الخشب ولغاته عوض الإنصات إلى نبض المجتمع، ومن ثم فمعركتهم لاستعادة دور اليسار حيوية. في هذا الإطار تطرح المرحلة الراهنة مهاما مستعجلة بهذا الخصوص، في مقدمتها:
- تجديد فكر اليسار عبر الخروج من المنطق المغلق إلى رحاب الفكر الديموقراطي، بما يعنيه ذلك من قدرة على محاورة الأصدقاء والخصوم والأعداء عوض الاكتفاء باتهام  الآخرين في ما يشبه نزعة التكفير عند الأصوليين.
- القطع من النزعة العدمية التشكيكية، ودمقرطة الحوار داخل اليسار نفسه قبل مطالبة الآخرين به.
- ربط الجسور مع البنية المجتمعية والتصالح مع كل فئات المجتمع والإسهام في بناء جديد للمجتمع المدني...
إنها الشفرة السرية للانتصار على أعطاب اليساريين، وهو القدر الحقيقي لليسار لأننا نرى دائما أن وجوده عامل توازن استراتيجي في معادلة الصراع القائمة اليوم مع قوى الارتداد والتطرف، وإلا فالساحة ستبقى فارغة لاختيارين اثنين لا ثالث لهما الأصولية والعدمية بأشكالها المختلفة بما فيها الشعبوية التي صارت موضة عالم اليوم.

محمد العمراني، الكاتب الإقليمي لحزب الاتحاد الاشتراكي بطنجة

ليس بالشعارات نخلق يسارا قويا

أظهرت الاستحقاقات الانتخابية منذ 2002 أن أحزاب اليسار المغربي تعيش حالة من التراجع والانحسار والتيه، ما فتئت تتعمق مع توالي السنين، حيث بات جليا أنها تعاني أزمة مركبة، جعلتها تعيش انفصالا عميقا عن المجتمع، وبالأخص عن الطبقة المسحوقة التي يفترض أن تكون الحاضن الأول لها. في تقديري أن أزمة اليسار المغربي تتمظهر في مستويين:

1 - الفقر الواضح على مستوى إنتاج أدوات التحليل الواقعي للراهن المغربي الذي يعرف تحولات متسارعة على أكثر من مستوى، في وقت مازالت أحزاب اليسار سجينة مفاهيم متجاوزة، وعوض أن تكون مبادِرة وخلاقة، ومنتجة لأفكار وطروحات تواكب التطور العميق الذي يعيشه المجتمع المغربي، نجدها تحولت إلى قلاع محافظة، رافضة لأي فكر نقدي، يسهم في خلخلة المسلمات التي صارت متجاوزة، بل ومعرقلة لأي تطور. وكان من نتيجة ذلك أن فقد اليسار قدرته على استقطاب النخب، في مفارقة عصية عن الاستيعاب. فاليسار الذي كان الحضن الرحب للمثقفين والمبدعين والمفكرين، صار اليوم منفرا لهم، ولاجما للإبداع وإنتاج الأفكار.
2 - أحزاب اليسار اليوم تعيش أزمة تنظيمية عميقة، بات معها من المستحيل إيجاد بيئة سليمة للاشتغال، وانساقت القيادات إلى حرب طاحنة فيما بينها من أجل التموقع داخل مركز القرار، استعملت فيها كل الأسلحة بما فيها الأشد فتكا، والنتيجة تفكك بنياتها التنظيمية التي يفترض أنها الأداة لتنزيل برامجها النضالية. إن أحزاب اليسار اليوم تعيش انفصاما خطيرا على مستوى الخطاب والممارسة، فبقدر ما نجدها تسوق خطابا يدعو الدولة إلى إقرار الديمقراطية، نجدها غارقة في ترسيخ أساليب تأبيد التحكم في مراكز، وإعدام حق الصوت المخالف في الوجود. والخلاصة أن اليسار لا يكفيه أن يرفع شعارات تتبى مطالب الطبقات المسحوقة لتلتف وراءه، بل عليه أن يتجاوز أعطابه الفكرية والتنظيمة، وأن يستعيد قوته الأخلاقية، بعد أن باع العديد من قادته مبادئ وقيم اليسار لخدمة أهدافهم ومصالحهم الشخصية.

د. خالد الغنيمي، الكاتب الاقليمي للحزب الاشتراكي الموحد بطنجة

الفئات الاجتماعية أبعدت عن اليسار بثلاث آليات

يصعب تقديم إجابة وافية في هذه العجالة لسؤال كبير من قبيل: لماذا تتنكر الطبقة المسحوقة لتيار اليسار الذي يدافع عن قضاياها الحيوية والمصيرية؟!
وفي محاولة لإبراز رد أولي سريع، أحب أن أشير إلى الحقائق التالية:
أولا: هو تنكر غير مقصود وغير واع له علاقة عميقة بصيرورة التحولات التي مست بنيات وأفكار وتصورات قوى اليسار خلال مراحل عدة.
ثانيا: الفئات الاجتماعية المطحونة ترزح تحت أغلال وضع مستفز ويثير السخط، حيث الإقصاء الاجتماعي، وتفشي الفقر وانتشار الأمية، واستفحال مظاهر الهشاشة.. مما يدفع هذه الفئات، رغما عنها، إلى تدبير علاقتها مع الأغلبية لكسب المساعدات العينية عبر ظاهرة استغلال العمل الخيري لاستمالة الفقراء والمحتاجين..!!
ثالثا: استفحال كارثة شراء ذمم المواطنين المطحونين من طرف أحزاب الإدارة، وهو ما يشكل ضربا مباشرا لكل الحقوق التي اكتسبها المغاربة طوال تاريخ نضالهم.
هذه العوامل والمظاهر السلبية لها علاقة فعلية بتنكر الطبقة المطحونة لقوى اليسار في بلادنا.
ويجب أن يكون مفهوما أن اليسار المغربي يتحمل بعض، حتى لا أقول كل، المسؤولية في ذلك. لأننا لم نخترق هذا الحاجز. ولم نبادر إلى خلق ?ليات جديدة للتواصل الناجع والواقعي مع هذه الفئات الاجتماعية، من أجل تغيير المعادلة القائمة السائدة ال?ن.
وقوى اليسار، وضمنها الحزب الاشتراكي الموحد، مطالبة بالعمل الجدي والقاعدي لتعبئة الطبقة الكادحة ودفعها إلى الثقة في الخيار الديمقراطي الذي نمثله الآن.

خديجة جنان، مناضلة يسارية

الانتهازية عطلت الحلول العقلانية

أود أن أبرز نقطة هامة مفادها أن اليسار يتأسس على مرجعية فكرية إيديولوجية، ومعلوم أن لغة العصر تتنكر للإيديولوجيات كيفما كانت، لتحتل مكانها لغة المصالح.
العولمة ساهمت في فتح الأبواب على العالم الذي كان مخفيا. بالتالي أصبح منطق المصلحة والتهافت على مراكز أفضل سائدا بالنسبة للأفراد، سواء كانوا فقراء أو أثرياء.
اليسار لا يحقق المصالح للأفراد. لأن منظومته ذات بعد شامل ومتعدد، حيث ما هو سياسي مرتبط بما هو اجتماعي وما هو اقتصادي في إطار تصور كلي.
الطبقة الحاكمة غيرت أسلوبها. هي لم تعد منعزلة عن المجتمع، بل أضحت تستقطب الفئة الكادحة وتوظفها لامتصاص الغضب العام، عبر توزيع الصدقات والفتات، واستغلال ذلك في الترويج لمخططات سياسية لها ازدواجية الخطاب والفعل.
وبسبب تدني سلم القيم، واستفحال أعطاب منظومة التعليم والتربية والتكوين، أصبح الفرد يبحث عن لقمة العيش عبر أساليب سهلة وسريعة حتى وإن كانت غير مشروعة!!
الفئات الاجتماعية التي تعيش على الهامش، اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا، غير واعية بكون أسلوب تحقيق المصالح بشكل انتهازي، يتسبب في تعطيل الحلول الحقيقية والمشروعة في الإعلاء من شأن الكرامة والحرية والعدالة الاجتماعية.
العيش الكريم لا يتحقق بالاستغلال والتجهيل والتغييب.. بل من خلال المساواة الاجتماعية، وتفعيل أسس الديمقراطية، وربط المسؤولية بالمحاسبة، ورفع كل أشكال الحيف والتمييز والحكَرة..!!

محمد العسري، شيخ اليساريين بشمال المغرب

هذه وصفتي ليتجاوز اليسار انتكاسته

 في محاولة للعثور على إجابات مقنعة لسؤال: لماذا تتنكر الطبقة الشعبية لليسار الذي يدافع عن قضاياها المصيرية؟! التقينا بمحمد العسري، الباحث في تاريخ اليسار المغربي، وشيخ اليساريين في شمال المغرب، وأجرينا معه الحوار التالي:

* في الوقت الذي يدافع فيه اليسار،في تمظهراته الحديثة،عن قضايا الفئات الاجتماعية المسحوقة، تتنكر هذه الفئات لليسار..!! كيف ترى واقع هذه المفارقة الغريبة؟
- المواطن المغربي أصبح اليوم حائرا في تحديد موقفه من التنظيمات اليسارية المغربية بكل تلويناتها، حيث أضحى العزوف والهروب من السياسة السمة البارزة في المشهد السياسي بالبلد، ولاشك أن ذلك له ما يبرره الذي يمكن تحديده في: كثرة الأحزاب ألذي يجعل المواطن البسيط غير قادر على التمييز بينها، خصوصا وقد امست جميعها تسوق نفس البرامج وتروج نفس المنتوج. وهو ما جعل المواطن يضع جميع الأحزاب بيمينها ويسارها في سلة واحدة لا يفرق بين هذا وذاك. وهكذا أصبح الميل إلى دعم هذا الحزب دون آخرين في بلدنا مرتبط بالاستفادة التي سيحصل عليها المواطن مقابل المساندة لحزب ما، ولم تعد المباديء والقيم والنضالية والمصداقية والدفاع عن المصلحة العامة تتحكم في توجيه مواقف غالبية أفراد المجتمع.

* هل يمكن أن نضع مسؤولية هذه الفجوة السائدة بين قوى اليسار والقاعدة الجماهيرية، على عاتق اليسار التقليدي الذي فقد البوصلة الجماهيرية منذ ازيد من عقد من زمن التكالب على الحكم؟
- إذا حاولنا الوقوف على تاريخ اليسار المغربي، وعلى التطور الذي عرفه منذ ظهوره في الساحة السياسية المغربية إلى اليوم، سنرى أنه عاش أزهى مرحلة منذ ولادة حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية سنة 1959 بعد انفصاله عن حزب الاستقلال، مرورا بالمؤتمر الاستثنائي 1975 الذي غير اسمه، حيث أصبح يحمل اسم الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية إلى حدود 1998 وهو الموعد الذي قبل فيه دخول الحكومة بدون شروط مسبقة أو ضمانات. ففي ذلك الوقت كان الاتحاد وباقي قوى اليسار المغربي تحظى بدعم ومساندة المغاربة، وتحتل في وجدانهم منزلة مميزة، لكونها كانت تحمل مشروعا مجتمعيا يهدف إلى تحقيق مطالب الشعب المغربي الملحة في الدمقرطة والعدل والمساواة والكرامة الإنسانية والحرية والإصلاح والتحديث والتنمية المستدامة، وكانت وحدها تمثل آمال وتطلعات وطموحات الشعب المغربي، فكان نتيجة ذلك يحتضن من طرف المجتمع حيث كان المغاربة يلتفون حوله بدون شروط، وهو ما دفع الإدارة إلى اعتماد صناعة الأحزاب الادارية التابعة لها، بهدف تكسير إشعاع وشعبية اليسار المغربي التي أخذت تتسع، في ظل حالة الاستثناء الذي عاشها المغرب لسنوات طويلة، تعرض خلالها اليسار المغربي لشتى أنواع القمع الشديد والاعتقال والتعذيب وانتهاك الحقوق والتضييق على الحريات والمحاكمات الصورية القاسية. ويمكن اعتبار سنة 1998 نقطة تحول في مسار الحركة اليسارية المغربية. ففي الوقت الذي كان المغاربة يأملون في أن تمثل مشاركة أطراف من اليسار المغربي القديم، مناسبة للقطع مع زمن طويل من الفساد والاستبداد والاختلال في تدبير الشأن العام بالمغرب، سيصدمون باستمرار نفس نمط الحكم، بعد عجز اولئك الذين كانوا بالأمس ينادون بالإصلاح والتغيير وينتقدون الفساد و يقدمون للمواطنين وعودا معسولة يخلفون الوعود ويسيرون على نفس النهج السابق، حيث لم تحمل 14 سنة في الحكم للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية و19 سنة للتقدم والاشتراكية للمغرب والمغاربة الآمال والأحلام التي كانوا ينتظرونها، وهو ما أدى إلى نزول مستوى إشعاع اليسار المغربي بصفة عامة وخلق أزمات تنظيمية بفضاءاته.

* باعتبارك باحثا في تاريخ اليسار المغربي، ما هي المداخل الكبرى لتجسير تواصل بناء بين اليسار والطبقات الاجتماعية الكادحة؟
- رأينا أن انتكاسة اليسار المغربي جاءت نتيجة المشاركة في الحكم دون شروط أو ضمانات، وخيبة الأمل التي أصابت المجتمع بسبب فشل اليسار المشارك في الحكومات التي جاءت بعد حكومة اليوسفي في إخراج البلد من الأزمة المركبة التي يواجهها، والمتمثلة في نفس أسلوب تدبير الحياة العامة المتسم بسيادة الفساد في مختلف مرافق الدولة، وكذا الصراع على الاستوزار واحتلال المواقع والمناصب والكراسي، بالإضافة إلى فتح الباب على مصراعيه للاعيان وأصحاب (الشكارة) وغياب الديمقراطية الداخلية. كل هذه العوامل مجتمعة أدت إلى تراجع شعبية اليسار وحدت من تأثيره في الساحة السياسية المغربية، ورفع من مستوى أزمته ابتعاد عدد من المناضلين الشرفاء عن تحمل مسؤولياتهم في الحفاظ على نقائه ومصداقيته وتركهم المجال للانتهازيين والوصوليين للتحكم فيه. ورغم كل ذلك فإنني أرى أن إنقاذ المغرب والمغاربة من قبضة الفساد والاستبداد والاختلال والتحكم لن يكون إلا على يد اليسار المغربي الذي عليه أن يراجع أوراقه ويعيد ترتيب بيته ويجمع صفوفه ويتجاوز خلافاته وتمزقه وتشرذمه وينظف ساحته من أصحاب المصالح الشخصية وعباد المناصب والكراسي والمهرولين نحو المكاسب والمنافع. فإنني أرى أن اليسار المغربي اليوم أمام تحد كبير عليه أن يستعد له بعزم وحزم، وعليه ألا يتهاون او يتأخر لأن الظرف دقيق للغاية، ولا يحتمل التأجيل والتماطل.

* لماذا استحوذ الأصوليون على تعاطف الفئات الاجتماعية المسحوقة،في حين وجد اليسار نفسه خارج تعاطف هذه الطبقة؟
- اليسار المغربي أصبح اليوم يواجه اختبارا حاسما يتعلق بوجوده، وأمامه فرصة ثمينة للعودة إلى توهجه وقوته، فعلى الرغم من الأزمة التي أوجد نفسه فيها بوعي أو بدونه، فإن إمكانية استرجاعه لموقعه الريادي في قيادة النضالات الشعبية، قائمة بقوة كبيرة وما عليه إلا أن يعد العدة المناسبة والناجعة لعلاج اعطابه وتجاوز أخطائه. وفي مقدمة هذه ذلك المراجعة النقدية لطرق اشتغاله، وإعادة النظر في القوانين التنظيمية التي تحكم أجهزته، وذلك بجعلها قادرة على تجديد قياداته، وفتح الباب أمام الكفاءات الحزبية الشابة، وفي رأيي أن الآلية التي تمكن من ذلك لن تكون غير اعتماد قانون تنظيمي يحدد مدة انتداب القيادات الوطنية والجهوية والمحلية في ولايتين فقط. أما في ما يتعلق بكون البسطاء من المواطنين والكادحين أصبحوا يدعمون الحزب المحسوب على الحركة الإسلامية، فإن ذلك يعود لأسباب عديدة أهمها: أنه تنظيم إداري صنعته وزارة الداخلية وأدمجته في العمل السياسي بالتدريج، ثم أنه يوظف الدين في السياسة ويتخذه مطية للتأثير واستمالة الناخبين، وأيضا استغل الوضع الناتج عن احتجاجات حركة 20 فبراير لصالحه، في ظل وجود فراغ كبير في الساحة السياسية المغربية، بعد إخفاق اليسار في قيادة البلد نحو الإصلاح والتغيير المطلوبين، كما يجب ألا ننسى أنه يعتمد العمل الخيري الإحساني التسولي المناسباتي في التواصل المستمر مع الفقراء والمحتاجين، وكون المواطن الذي يعاني من الفاقة و الحاجة أصبح براجماتيا يمنح صوته لمن يقدم مقابلا له.

* هل يمكن أن تشكل الأبواب المفتوحة التي أبدعها الحزب الاشتراكي الموحد لاستقطاب نخب جديدة والانفتاح على المجتمع، بداية ناجعة لعودة اليسار إلى الشارع المغربي بثقل سياسي كبير ومؤثر؟
- سبق وأن قلت إن اليسار المغربي أمامه الان فرصة لاسترجاع مكانه المناسب في الساحة السياسية المغربية و استعادة موقعه في توجيه نضالات الشعب المغربي نحو تحقيق مطامحه في الدمقرطة والإصلاح والتحديث والتنمية والعدل والمساواة والكرامة الإنسانية الكاملة، فإذا كان حزب العدالة والتنمية كما قلت، قد ركب على نضالات حركة 20 فبراير ووصل إلى الحكم في ظل الفراغ السياسي الذي حصل بسبب فشل اليسار القديم في تدبير الشأن العام بالشكل الذي كان يحلم به المغاربة، فإن خمس سنوات من حكم العدالة والتنمية، بدورها كانت مخيبة لآمال المغاربة بل كانت أسوأ مما سبق، واتسمت بالتنكر للالتزامات المقدمة للمواطنين وعالجت الأزمة المالية الخانقة بالمديونية وإثقال كاهل الشعب بالضرائب والهجوم على مكتسباته الاجتماعية الهامة (المس بمكتسبات نظام التقاعد، إيقاف التوظيف، إلغاء صندوق المقاصة، التشغيل بالعقود، اقتراح إلغاء مجانية التعليم، رفع أثمان عدد كبير من المواد الغذائية، الزيادة في ثمن استهلاك الماء والكهرباء...إلخ). كل هذه الإجراءات الهجومية على مكتسبات الطبقات المتوسطة والفقيرة تؤشر على أن المغاربة لن يقبلوا بعودة العدالة والتنمية للحكم في المستقبل. وإن كانت الفرصة مواتية اليوم لعودة اليسار المغربي للتعافي واسترجاع هيبته فإنه مدعو إلى إشراك المواطنين في أنشطته وتحركات أجهزته، والانفتاح على الشباب والكادحين والمحرومين والفقراء والمحتاجين والمعطلين والمقهورين والمقموعين في المدن والبوادي.

* في سياق الانتعاشة التي تطال قوى اليسار، هل يمكن الرهان على التيار التقدمي في الاستحقاقات الانتخابية المقبلة؟
- اتضح من خلال الحملة الانتخابية التي خاضتها فيدرالية اليسار الديمقراطي، والتي شاركت في الانتخابات البرلمانية ليوم 7 أكتوبر 2016 بعد أن قاطعت استحقاقات 2011، أن اليسار الجديد بدأ يقتحم الفضاء الانتخابي المغربي بقوة، وقد برز ذلك بوضوح من خلال التفاف المواطنين حول مرشحيه، وكذا من خلال الأصوات النقية التي حصلوا عليها، في ظل انتخابات تتحكم فيها مافيا شراء الذمم والإفساد الانتخابي.. ومع ذلك منحهم الناخبون أصواتهم ،وهو ما يؤشر على تحول مهم في ثقافة الناخب المغربي، التي تتجه نحو الاحساس بالمسؤولية والمصداقية في الاختيار كما أن طلبات الانخراط الكثيرة التي توصلت بها فروع الحزب الاشتراكي الموحد دليل قاطع على أن اليسار قادم في المستقبل، بشرط ان يلتفت إلى هموم المستضعفين ويحتضنهم، ويوسع قاعدته لتشمل العمال والطلاب والفلاحين والنساء وذوي المهن المختلفة، ويتجه نحو سكان المناطق المهمشة البوادي والقرى، ولاشك أنه إذا اعتمد على مثل هذه الاستراتيجية لابد ان يحظى بثقة الناخبين في الانتخابات القادمة.

عبد الله الزيدي، المنسق الجهوي لفيدرالية اليسار الديمقراطي

المداخل السوسيولوجية لمصالحة اليسار مع المجتمع

سؤال وجيه فتحت أبوابه «الوطن الآن»»بطرح سؤال لماذا تصوت الشرائح الاجتماعية الأكثر تضررا لصالح اليمين والمحافظين وتراجعها عن دعم اليسار القائم أصلا على دعمه للطبقة العاملة والشرائح المتضررة من الشعب، سؤال ليس وليد اليوم ومطروح على أكثر من صعيد وراجع بالدرجة الأولى لكثير من الأسباب لابد من الوقوف على بعضها. الكل يعلم حجم المصالح الاقتصادية والعولمة المتوحشة وسقوط جدار برلين وانتكاسات الدول الاشتراكية وظهور قيم جديدة طافية على السطح كالنظام والسلطة والعمل والأسرة وتراجع العمل النقابي وتعدده وتخوف اليسار من نعته بالشعبوية، أبعدت اليسار نسبيا من التعبير مباشرة عن مواقفه باصطفافه لفائدة الطبقة العاملة سعيا وراء جذب شرائح أخرى، حتى لا يبرز بمعاداة واضحة للبورجوازية التي على العكس أصبحت بتملكها لمعامل وبتشغيلها لعمال وعاملات قادرة على اصطفافهم لصالحها ورسم خريطة، لتصويتهم على من تريد. وعلى عكس ما كان يعتقد البعض أنه يكفي القول بكونك حزبا للطبقة العاملة فإن هذه الطبقة ستكون وراءك، جاء مخيبا للظنون. وساهمت العولمة وتراجع المد النقابي وانحصاره في قطاع الوظيفة العمومية ونتيجة تحولات سوسيولوجية وأنتربولوجية، وتراجع دخل الطبقة العاملة وعيشها في هوامش المدن اكثر انفرادية وانغلاق على الذات ورهن مواقفها لفائدة الخطابات الشعبوية القائمة على الحقد والكراهية وازدراء الطبقة المتوسطة المنكفئة على مصالحها، والتي لا تؤدي أي دور ولا وظيفة وتشتغل أقل وتربح أكثر، والتي ترى بأن جل قادة اليسار ممثلون لها ومنافحون عنها، في الوقت الذي على العكس منهم المحافظون، وعلى رأسم البجيدي، يأكلون البيصارة ويتوسدون الأرض ويلبسون الجلباب ويرقصون أحواز. وبالتالي فهم في صلب الطبقة العاملة يتفهمون أوضاعها ويعيشون همومها، وهو ما نتج عنه antilectualisme عوض التركيز على الكفاءات والأطر ذوي التكوين العلمي، أعطي الاهتمام لذوي الخطابة والحقوقيين ورجال الأعمال. وأمام انحدار الحس الوطني والأخلاقي الذي شجع على المواقف التلقائية و«السوفت سبيش»، عوض خطاب الإقناع، جعل أغلبية صامتة، أغلبية مضطهدة هاربة ومنتحرة من واقع متنكر مأساوي أكثر انغلاقا ومحافظة بشكل كبير هاربة من عذاب القبر، قبر الحياة وليس قبر الممات، تنبذ الإحتجاج وتطمح للجنة ملاذها الأخير، طامحة لعمرة ومستنكفة عن الصيام وهاوية للدعاء والذكر، لا تريد التنظيم ولا تريد الخلية، بل فقط مشاهدة مباراة كرة قدم والتلهف على الكلاسيكو، وهذه الحمى لم ينج منها حتى الأدباء والشعراء والمناضلون، ولا تريد الانخراط في التنظيم، بل تنتظر الزعيم الواحد الأحد مجسدها وحافظ سرها أن يضغط على الزر يوم الإقتراع لتذهب عن بكرة أبيها طيعة نشطة باكرا بعد صلاة الفجر أداء الواجب بالتصويت لصالح مرشحيها الذين هم مجسدون لهم، فهو الحزب الوحيد الذي يمكنهم من اعتلاء كراسي البرلمان بسهولة ودون إذنك، ويمكنهم من تغيير أوضاعهم تماما مثل لعبة البوكر أو التيرسي بين عشية وضحاها. كل هذا ساهم بشكل كبير في تزايد هيمنة المظاهر الدينية والمحافظة في كل مكان بالإقبال الكبير على العمرات التي لا تنتهي وتزايد الحجاب وتزايد العطل الدينية وتنامي الأصوليات العرقية واللغوية أمام فشل رهان التنمية وركوب الدول الصاعدة، مما انعكس سلبا وأدى إلى نظرة تشاؤمية للقدرات الجماعية على النهوض. وهذه الطفرة للأسف أبخست المؤسسة التشريعية قيمتها وربما يكون ذلك مقصودا، لأننا ندرك أنه منذ تأسيس هذه المؤسسات في الدول الغربية وفي بداية أداء مهامها كانت مقصورة على النبلاء وعلى علية القوم وأهل الحل والعقد مقفولة في وجه الغوغاء الذين برزوا في الساحة وأصبحوا زعماء بين عشية وضحاها. كما كنا ننتج اللغات في 5 أيام، أصبحت هذه الأحزاب تنتج السياسيين والزعماء والبرلمانيين في 5 أيام. أنا هنا لا أنزه اليسار، بل العكس «حتا هو بالمزيود ديالو» وارتكب أخطاء. وفي ظل مجتمعات معقدة التركيبة مثل مجتمعاتنا، كان عليه أن يطور من أدائه ويفجر قمقمه في اتجاه التحرر من كثير من نظرياته ومثاليته وجعل خطابه أكثر التصاقا بمشاكل الطبقات المسحوقة التي أعتقد بأنها غدت اليوم تضم تعاريف جديدة لطبقات مسحوقة تعيش على هوامش المدن تقتات من مداخيل السلفات الصغرى و«التفريش» والتجارة السوداء والتهريب، وهي شرائح ساخطة وتحس بأنها الأكثر تضررا وانسحاقا، والتي ليس في اعتبارها نظريات ولا أدبيات ولا هم يحزنون. لقد غدا لدى كثير من مناضلي اليسار عموما أن هذا الشعب أو جزءا منه لا يستحق كل هذه التضحيات، لذا استنكف جزء كبير منها على توليته له ظهرها، وبقي الآخر الذي يراهن على عاش الشعب ومن يدور في كنفه يراهن بشغف على أنه سيأتي يوم سيثور ويقلب الطاولة على الجميع ويصنع ثورته، من هنا تخليه عن صناديق الإقتراع التي لن تكون لصالحه، واقتصاره على تأجيج احتجاجاتها ومساندتها ودعمها في كل المعارك الاجتماعية التي تخوضها. إلى أي حد ذلك هذا صحيح مرهون بالتطور المجتمعي، فالحرب شكل من أشكال السياسة والسياسة شكل من أشكال الحرب. طبعا اليسار لن يموت وهو بمثابة اليد اليمنى لليسرى واليسرى لليمنى، فهو ضرورة مجتمعية وسيرورة تاريخية، لكنه مطالب بأن ينهض بسرعة قبل فوات الأوان.

أحمد إفزارن، إعلامي ومحلل سياسي

على اليسار فضح كذب تجر الدين بالخروج للشارع

الطبقة الكادحة تتكون على العموم من مواطنين يشتغلون في مصانع وورشات ومزارع ومهن لا تتطلب مهارات عالية، وهذا يعني أن مستواها محدود من حيث استيعاب خلفيات التلاعبات الحزبية والنقابية في بلدنا.. الأحزاب والنقابات اعتادت التناور على طبقة شعبية أطلقت عليها تسمية «الكادحة»، لكون هذه الأخيرة تعتمد لضمان قوتها اليومي على العمل اليدوي، وعلى عضلاتها، وأيضا على مهارات محدودة.. وكان على الأحزاب والنقابات وغيرها أن تتجنب تقسيم مجتمعنا إلى طبقات، لأنها بهذا التعبير تكرس الطبقية في المغرب، وتحول بذلك دون تمكين هذه الفئة الكادحة من حقوقها المهنية.. ومنذ الاستقلال إلى الآن تعتمد الأحزاب والنقابات على نفس «الطبقة الكادحة» في مسيراتها ومظاهراتها، لأنها تعتبر أن هذه الفئة طيعة وأنها بالتالي تشكل قاعدتها الشعبية التي توظفها في الانتخابات وتركب على حقوقها للتألق والوصول إلى كراسي المجالس المحلية والبرلمان والحكومة.. وباستغلالها لهذه «الطبقة الكادحة» تحصل على رشاوى من الباطرونا، حيث أن النقابات تبيع حقوق هذه اليد العاملة لأرباب المعامل والشركات وغيرها، وتتنازل عن حقوق هذه الطبقة في حواراتها مع الحكومة، مقابل امتيازات ومظاهر الريع وغيرها من قبل الحكومة.. ولذلك نجد أن كل أحزاب التشكيلات الحكومية، منذ الاستقلال إلى الآن، استغلت «الطبقة الكادحة» للخلود على كراسي الحكم.. وإذا فقدت الأحزاب والنقابات هذه الفئة، فقدت قاعدتها الشعبية، وتعرضت للانقراض.. اليسار لم يلتجىء إلى أسلوب بقية الأحزاب.. فلم يعتمد على «الطبقة الكادحة» التي اعتادت الخطاب الخشبي للنقابات والأحزاب الإدارية والموصوفة بالوطنية وغيرها.. اليسار توجه بخطاباته إلى فئة المثقفين، وفيهم موظفون وأساتذة وصحافيون وأطباء واقتصاديون وغيرهم ممن يشكلون الذراع الوطني للوعي الحقوقي.. وما دامت هذه الفئة لا تثق في الانتخابات، وفي خطابات الحكومات، وفي الكيفية التي تدار بها الحالة «الديمقراطية»، فهي على العموم تجنح إلى مقاطعة الانتخابات.. وهنا نجد في خطاب اليسار تحليلا اقتصاديا وسياسيا وحقوقيا، ودفاعا صريحا وواضحا عن الحقوق والواجبات.. بينما الأحزاب الأخرى تحرك نقاباتها وجمعياتها وغيرها لتجييش الشوارع والأحياء، بلغة فيها تحريك للعواطف، وإثارة للنعرات، وتوجيه اتهامات للغير، وفي نفس الوقت، الإلقاء بمسؤولية ما يحدث في البلد من ظلم وقهر على جهات لا تذكرها على العموم.. وعندما تذكرها فبلغة إيحائية وغير صريحة.. لماذا تتجنب الوضوح؟ الجواب هو أن الجهات التي تتهمها تلك الأحزاب هي نفس الجهات التي تتقاسم معها الفطور والغذاء والسحور، والمشاريع بكل أشكالها وأنواعها.. إذن نحن أمام أحزاب متواطئة مع جهات حاكمة، وهما وجهان لعملة واحدة، وهدفهما واحد، هو تحويل مظاهرات فاتح ماي إلى شعارات بدون مضمون قابل للتحول إلى نتائج إيجابية ملموسة.. نحن إذن أمام طريقين مختلفين، أحدهما لمجموعة الأحزاب الاستغلالية للطبقة الكادحة، والآخر لليسار الذي يتحدث بلغة الجامعات، وبالأرقام الاقتصادية، وهذه لا يفهمها عامة الناس.. ولذلك لا يستطيع التواصل مع الطبقة الكادحة.. وما دامت هذه الطبقة بعيدة عن الثقافة السياسية والديمقراطية في عمقها التحليلي والاستنتاجي، فإن اليسار يشبه من يقدم صرخة في واد.. صرخة لا يسمعها ولا يستوعبها كثير من بسطاء البلد.. وما زال اليسار لا يستهدف الطبقة الكادحة، ولا يعرف الكذب التي تعودت عليه أحزاب اليمين والوسط وتجار الدين منذ الاستقلال إلى الآن.. اليسار لا يراهن على الكذب، وعلى اللعب بالمفردات، وبالتالي فإن خط التواصل مقطوع بينه وبين عامة الناس.. هذا خيار من اليسار الذي يمثل شريحة المثقفين الذين لا يصوتون.. ومع ذلك، فإن الانتخابات البرلمانية ليوم 7 أكتوبر 2016، أعطت إشارات واضحة مفادها أن اليسار يحقق تصاعدا شعبيا بطيئا وأيضا مؤهلا لأن يكون ناخبا وفيا، نظرا لأنه أصبح واعيا بعمق الخطاب اليساري.. إنه يستطيع كسب الفئة المثقفة أكثر فأكثر، وربما يتطلب جهدا يساريا متواصلا لمدة قد لا تقل عن حوالي 10 سنوات.. خلال هذه المدة، وبالعمل الدؤوب مع المثقفين، وأيضا مع كفاءات تستطيع تبسيط الخطاب اليساري لكي يصل شيئا فشيئا إلى عامة الناس.. وبصراحة، الخوف كل الخوف من إقصاء اليسار من البرلمان والجماعات والحكومة.. فإقصاؤه يشكل خطرا على البلد.. لماذا؟ لأن شريحة واسعة من المثقفين تجد نفسها، حتى وهي مختلفة، تتكلم بنفس اللغة التي تتكلم بها قيادة «اليسار الموحد»، رغم أن هذا الأخير لا يحظى كله بتزكية كل الفئة المثقفة، ففيه أشخاص في المستوى الرفيع، ولكن المثقفين على العموم لا يثقون في التنظيمات السياسية.. ففي رأيها كل التنظيمات لا تبحث إلا عن مصالحها.. ولذلك يجب على اليسار أن يعي أن الصدق المتحرك في أعماقه، تجب تغذيته بتنويع نضالي من خارج المنظومة اليسارية السياسية.. فالناس قلما يصدقون الوجوه التي تتكرر، والتي تظهر دائما في الواجهة.. وعلى اليسار المغربي أن يعيد النظر في نفسه لكي يجذب إليه عامة المواطنين، لا فقط فئة واعية بمسيرة البلد.. الفئة الواعية أغلبها سيبقى في اليسار، ولن يغادره إلا في حالات نادرة.. وهذه الفئة تتسم بالوطنية والوفاء والصدق، وليست من شاكلة الانتهازيين، وما أكثرهم في تجار الدين وتجار حقوق «الطبقة الكادحة».. المغرب الجديد بحاجة ماسة إلى مشاركة اليسار في أية تشكيلة حكومية قادمة.. وشتان ما بين من قد يأتي إلى الحكومة كي يشتغل، ومن يأتي كي يستغل البقرة السياسة الحلوب.. ويجب على اليسار أن يستوعب جيدا أن عليه بلغة بسيطة واضحة، مرفوقة بصور تعبيرية أيضا واضحة، وأن يفسر لعامة الناس أنه لا يريد إلا خيرا لجميع المواطنين، بدون استثناء، وأنه يشكل دعامة فعلية للاستقرار الإيجابي الذي يحتاجه البلد من أجل التنمية البشرية، وكل ما هو تنمية للبلد.
 كفى من مصطلحات الجامعة.. اخرجوا إلى الشوارع.. نظموا محاضرات وندوات.. وقدموا للناس ما لا يخيف الناس.

عبد الحفيظ شنكاو، مناضل يساري

التناوب التوافقي والقتل الرحيم لعلاقة اليسار بالفئات الاجتماعية

لا يختلف اثنان في كون الطبقة الكادحة هي التي شكلت قاعدة اليسار المغربي منذ بزوغ شمس الحرية والاستقلال وهي التي ناضلت لسنوات طويلة من أجل أن يتحقق المشروع السياسي لليسار المغربي، قبل أن يتنكر جزء من هذا الفصيل السياسي المغربي لنضالات الطبقة الكادحة وخصوصا بعد تذوقه لحلاوة السلطة الحكومية والاستمتاع بنعيم الكرسي المريح على حساب النضالات التاريخية لهذه الطبقة. فإذا قمنا بقراءة سريعة للسياق التاريخي للمغرب المعاصر، سنجد أن هذه الطبقة قد تضررت بشكل كبير من السياسات التي تبنتها الأحزاب السياسية اليسارية منذ أن ابتغت التوافق والتناوب الحكومي، حيث تخلت في البداية عن تأطيرها السياسي والثقافي والنقابي لهذه الطبقة، وبعدها تنكرت لمطالبها، بل الدوس والإجهاز على حقوقها ومكتسباتها. فكيف لنا اليوم أن نتساءل عن أسباب تنكر الطبقة الكادحة لليسار المغربي، ونحن نعلم أن هذا اليسار أول ما فعل عندما تقلد مهام تدبير الشأن العام، عمل على شل اتحاد كتاب المغرب وأدخل بموازاته لذلك تنظيماته الشبابية والتربوية إلى قاعات الإنعاش والموت الاكلينيكي، كما طالت سياسة القتل الرحيم، باقي التنظيمات الأخرى التي كانت تحمل على عاتقها تأطير الجماهير والطلبة والمثقفين المغاربة، من قبيل الجامعة الوطنية للأندية السينمائية وكذلك كان مصير الجامعة الوطنية لمسرح الهواة والاتحاد الوطني لطلبة المغرب، وكلها منظمات كانت تعزز العلاقة بين هذه الطبقة الاجتماعية وتنظيمات اليسار التي تخلى جزء منها عن دوره اتجاهها.. كما تخلت المنظمات النقابية التابعة لها بدورها عن مسؤوليتها اتجاه هذه الطبقة، وتنكرت لتعاقدها معها، بمجرد حصولها على نصيبها من الغنيمة السياسية/ الوزيعة.. وانطلاقا مما سلف ذكره، نفهم أن جزءا من اليسار المغربي هو الذي أخلف وعده وموعده مع الطبقة الكادحة، وتنكر لها، وساهم من مواقع المسؤولية الحكومية، في سن سياسات تهميشية واقصائية لها، وتسببت لها في جراح عميقة من الصعب أن تندمل.

محمد بونقوب، الكاتب الإقليمي لحزب التقدم والاشتراكية بطنجة

الحاجة لتجديد البناء الفكري والفلسفي لليسار

 

في البداية لابد من الاشارة إلى صعوبة تحديد مفهوم اليسار بصفة عامة، بل واستحالة استعماله كمفهوم موحد لوصف التيارات المختلفة المجتمعة تحت مظلة اليسار، سواء في سياقات النشأة وارتباطاتها التاريخية الدولية، فالبعض يرفض رفضا قاطعا أي صلة لليسار بالماركسية والشيوعية بينما البعض الاخر يرى أن اليسار الحقيقي يجب أن يكون شيوعيا أو اشتراكيا، أو بإرهاصاتها الوطنية، مع البدايات الاولى لنشأة الاحزاب السياسية مرورا بالحزب الشيوعي المغربي والتحرر والاشتراكية تم التقدم والاشتراكية. آو مع الاتحاد الوطني للقوات الشعبية تم الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، وما تلاه بعد ذلك من حركات وتوجهات يسارية: مثل 23 مارس، إلى الأمام، لنخدم الشعب... وفق جدلية تميز الحقل السياسي المغربي ضمن جدلية الوفاء والانشقاق.
لكن يمكن الجزم بأن فكرة اليسار المغربي، ليس مجرد شعار او ترف ونزق فكري تم رفعه في مرحلة تاريخية معينة، بقدر ما هو ايمان بتوجه فكري، معرفي وفلسفي للآباء المؤسسين لليسار المغربي، وفق سياقات وتفاعلات مع المحيط الدولي المرتبطة بحركات التحرر الوطني، ومغرب ما بعد الحماية. وما تلي ذلك من علاقة الصدام والمواجهة بين النظام والاحزاب الوطنية، او ما عرف في الحقل السياسي المغربي بسنوات الرصاص.
وهي محطات عرفت ارتباط وثيق بين الجماهير الشعبية والاحزاب الوطنية، سواء من خلال حجم التضحيات المقدمة والاعتقالات والمحاكمات التي طالت معظم منتسبي اليسار المغربي على اختلاف مشاربه وتلاوينه التنظيمية. وكذا في حجم التعاطف والاستجابة لكل المحطات النضالية الوطنية والمحلية، عبر الاضرابات الوطنية 1981، 1984، 1990... الاحتجاجات والمسيرات مثلا المسيرة المؤيدة للخطة الوطنية لا دماج المرأة في التنمية  وغيرها كثير كالارتباط بقضايا وطنية او اقليمية كالقضية الفلسطينية...  
إلا أن هذا الارتباط العضوي والجدلي بين قوى اليسار والمواطنين، لماذا لا ينعكس في صناديق الاقتراع؟
إن الاجابة عن هذا السؤال لا تستقيم دون الوقوف على طبيعة تطور النظام السياسي المغربي والوقوف على محطات محددة ومفصلية في مسار اليسار المغربي.
المرحلة الأولي: تمتد من مرحلة الاستثناء الى بداية الثمانينات، حيث تميز اليسار بصلابة الموقف ووضوح في الرؤية وتعنت في موقف النظام، وخصوصا بعد محاولتين انقلابيتين فاشلتين خلال سنتي 71 و72، دفعت بالنظام إلى أخذ موقف صدامي ضد كل القوى الوطنية.
المرحلة الثانية: والتي  تشمل عقد الثمانينات والذي تميزت بقوة الحركات الاحتجاجية في ارتباطها بالقضايا الاجتماعية والاقتصادية والنقابية ضد سياسة التقويم الهيكلي والذي رهن الاقتصاد الوطني  بين أيدي مؤسسات النقد الدولي.
المرحلة الثالثة: خلال عقد التسعينات والذي تميز بتقديم المذكرات الحزبية، وانفراج في المسألة الحقوقية، بالإفراج عن المعتقلين السياسيين وعودة المنفيين، وخلق مجموعة من الهيات والمؤسسات الدستورية لتصفية هذا الملف. كهياة الانصاف والمصالحة. وتوج هذا المسار بتكليف الاستاذ عبد الرحمن اليوسفي بتولي حكومة التناوب.
مرحلة الخروج عن المنهجية الديمقراطية: والتي كرست تهافت جزء من النخبة السياسية المغربية وانشقاقات داخل صف اليسار المغربي في وفاء عدمي لهذه اللازمة. دون القدرة على تدبير الاختلافات واحترام التيارات والآراء المختلفة داخل التنظيم الواحد.
مرحلة ما بعد دستور 2011: والتي تميزت بولايتين تشريعيتين حيث تكرس بالملموس تراجع قوى اليسار والصف الوطني الديمقراطي بصفة عامة. تتويجا للتيار المحافظ داخل المجتمع.
إلا أن هذا التراجع العددي في المقاعد لا يعكس بالضرورة عدم وجود ارتباط مجتمعي بقيم ومبادئ اليسار، ومثله الكونية والإنسانية في تحقيق العدالة المجتمعية والكرامة الإنسانية. وهي قيم وشعارات رفعتها احتجاجات 20 فبراير. وبعض النضالات المطلبية  ضد بعض المؤسسات الدولية لتدبير بعض قطاعات التدبير المفوض.
أيضا فان هذا التحليل لا يستقيم، دون الاشارة الى العمل الممنهج لضرب مصداقية الأحزاب الوطنية، وكذا ضعف التقاليد الديمقراطية، ودور سلبي للسلطات في بعض الأحيان... وكذا النزعة الأبوية لبعض قوى اليسار، والتي تحول دون خلق حد أدنى من التوافقات لوضع برامج عملية تمكن من وقف النزيف والتراجع عن أداء أدوارها الطلائعية والمجتمعية.
إلا أن هذه الإكراهات وغيرها، لا تعني بالضرورة أفول نجم اليسار، بل إن تطور وتعقيدات الوضعية الاقتصادية، الاجتماعية، السياسية، الثقافية والحقوقية في النسق السياسي المغربي، يفتح آفاقا مستقبلية للنضال المجتمعي وتلبية حاجيات المواطنات والمواطنين. الأمر الذي يتطلب تجديد البناءات الفكرية والفلسفية لليسار المغربي ونكران جزء من الذاتية والعمل على النضال المشترك على قضايا ومطالب مجتمعية تحقق جدلية الوفاء والاستمرارية.