Wednesday 14 May 2025
فن وثقافة

رفيق بوبكر، نصير الطاسة والقرطاسة والقسم 8

رفيق بوبكر، نصير الطاسة والقرطاسة والقسم 8

تعرفت على رفيق بوبكر، منتصف سنوات التسعينات من القرن الماضي، بأماكن وفضاءات مغربية أصيلة، أساسا مدينة ورزازات السينمائية، حيث كان يتردد على هذه الحاضرة المنفلتة من عقال الزمن المغربي المعاصر الرتيب، المنفتحة على كل الأزمنة والعصور واللغات والأشياء الجميلة المثيرة، حيث كان يشارك هناك في عشرات الأفلام الإنجيلية (خاصة منها الايطالية) التي صورت بها. التقيته مرارا وتكرارا، رفقة مجموعة كبيرة من صناع الصورة البهية، المساهمين في تسويق الوجه الفني المغربي، والباحثين في نفس الآن، عن لحظات العيش الهنية، ليصبح مع مرور الأيام وتوالي الشهور والأعوام، صديقا وأخا لي، بل ربيبا حقيقيا في تذوق مباهج الحياة والدفاع عن أسرارها الخبيئة الغائبة عن ملايين البشر، البشر الهائم العائش، جسدا دون روح أو طلاوة أو حلاوة ..

رفيق بوبكر فنان، متميز عن كل الفنانين المغاربة، تميز لا يعني أنه أحسن منهم حضورا وقوة أو عطاء وثقافة، لكنه أقواهم وأحسنهم ، خفة وشغبا وتمردا، على الأعراف الفنية المرعية، والتقاليد المسيجة بالأخلاق الزائدة الجامدة، وأكثرهم انتصارا للفوضى المثيرة الدالة على الحيوية، والمقالب المريبة المخيفة الخالدة اللامنتهية.

شغب دائم ومقالب متتالية، أثناء التصوير وفي الحياة العادية، جرت عليه (و ما زالت تجر عليه) الكثير من الويلات والنقد المحافظ والخصومات المتتالية، والمشاحنات والمضاربات (من الضرب) المتأرجحة بين السكر واليقظة الليلية، وغضب وتأفف بعض الزملاء والأصدقاء، الذين يحسبون أنفسهم أكثر وقارا وجدية، وجزء من الجمهور الأكثر نزقا ونفاقا وسطحية. لكن بوبكر ظل كما هو طوال سنواته الفنية وممارسته الإبداعية: رفيق ثابت على تمرده ونزقه الصافي ومبادئه الإنسانية، رفيق للصنعة الحقة المبهجة البهية، رفيق لدرب الحب والإخلاص والوفاء النادر لجموع الناس، في كل الأماكن، خاصة منها الهامشية، رفيق للأحبة وعشاق المواقف الثابتة الرجولية، رفيق للسينما الجيدة الجديدة المفيدة الطرية، وصديق حتى للسوليما (في بعض الأحيان) الأقل جودة وتخلفا في خلاصتها ورسائلها المجتمعية، سوليما يساهم فيها، من باب طلب الرزق وسد الرمق وتلبية الحاجات العائلية..

عشرات الأدوار، المتفاوتة القيمة والصدق في انتصارها للرسائل السامية، أداها بحرفية عالية، حرفية تستند على موهبة ربانية ولثغة في النطق والكلام المسترسل بكل دربة وحرفية، وزرقة عينيه المخترقتين لأفئدة النسوة العاشقات لطلته البهية، وتمرده الجامح المتفرد المتحرر من ربقة المرجعيات الإسلامية الوهابية الظلامية، وعباراته الخادشة للحياء القادرة على رج أحاسيس الناس الأكثر انتصارا للإبداع ومفاهيم الحرية.

عشرات الأفلام المغربية والأجنبية، في التلفزيون والسينما، ساهم في إشعاعها وحضورها في قلوب المشاهدين وتقريبها من وجدانهم بأدواره المتفردة النافرة من عقال الأكليشيهات والمواقف السطحية، من ينسى أدواره في أفلام: "الحاج المختار الصولدي" لمصطفى الدرقاوي و"طيف نزار" و"السمفونية المغربية" و"الصوت الخفي" لكمال كمال و"إكس شمكار" لمحمود فريطس و"عقاب" لهشام عين الحياة.. لكن الفيلم التلفزي "القسم 8" لجمال بلمجدوب، يظل العلامة الأكثر قوة ودلالة على موهبته المتفردة، فيلم ارتبط باسمه أكثر من ارتباط أي فيلم آخر، فيلم التصق به أكثر من التصاقه بمنتجه أو مخرجه أو باقي الممثلين المشاركين فيه، فيلم ساهم فيه بكامل جوارحه وموهبته، أعطاه كل ما يملك من إمكانياته في التقمص والخلق، ألبس الدور نفحة تمردية مختلفة، نفحة تمردية مستمدة من هواجس وواقع عشرات الشباب المغربي المهمش، الشباب الواقع في حضن الفوضى والخروج عن المألوف والأعراف والتقاليد التربوية البالية، تقاليد قادت أجيال متعاقبة، نحو الخواء الفكري والروحي والعماء العلمي القاتل، وانتظار سراب الأمل المفقود والمستقبل الكالح كسواد البرامج التعليمية في المدارس المغربية. فلا عجب أن وجد آلاف الجماهير، خاصة التلاميذ والطلبة، أنفسهم في دور التلميذ مجيد المشاغب.

رفيق ليس فقط التمثيل والشغب الليلي والنهاري والطاسة والقرطاسة والقسم ثمانية، بل روح إنسانية وثابة، ومشاعر هشة جياشة، ونصير للناس الغلابة، وصدق صارم صادم يجرب قوله وترديده كلما عنت له الفرصة بمناسبة أو دون مناسبة، مناسبة الوقوف أمام الكاميرات التلفزية أو الجلوس وراء الميكروفونات الإذاعية المستفزة، صدق عامر غامر بتجاربه الحياتية الفنية، صدق غارق في التفاصيل الهامة، والأقل أهمية البعيدة عن الأجواء الرسمية، أجواء الاستوديوهات التصويرية والجلسات الحميمة والمغامرات الليلية والصباحية، صدق لا مكان فيه لطلاء القول بالألوان الزاهية القزحية، ولا مكان فيه للوك الكلام ومضغ العبارات الجارحة الدامية، صدق نابع من عمق قلب مفتوح على كل الاحتمالات والمساحات الصدرية الشاسعة، شساعة تجاربه الحياتية، ومغامراته النسائية وعلاقاته الاجتماعية المتشعبة اللامتناهية..

دمت بهيا متمردا عصيا، على التقاليد والأعراف والمواقف المجتمعية البالية، يا رفيق درب الفن  زعيم الحرافيش المغربية.