في ظل تنامي ظاهرة الإرهاب، لا يمكن أن نستهين بدور المقاربة الأمنية والاقتصادية والاجتماعية في محاربة الإرهاب لكن بالرغم من أهمية هذه المقاربات، فهي تبقى محدودة في الزمان والمكان فالمقاربة الأصل في التصدي الحقيقي للإرهاب تتمثل في الجانب الفكري والثقافي، لأن الإرهاب قبل أن يكون فعلا إجراميا يسعى لصناعة الموت، و إلحاق التخريب المادي والنفسي بالمجتمع، هو في الأصل ذي مرجعية إيديولوجية، أي ارتكازه على مجموعة من الأفكار المتداولة بين الناس في الفضاءات العامة والخاصة هذه الأفكار المتطرفة، قد عرفها تاريخنا العربي الإسلامي منذ العصر الوسيط، وتمت استعادتها في التاريخ الحديث منذ بداية القرن العشرين ، فالعديد من الجماعات الإرهابية التي يتعبأ العالم اليوم لمحاربتها، تستمد شرعيتها من تحقيق الأهداف الإجرائية للمنتوج الفكري المتطرف لذلك فالرحم الذي أنجب الجماعات الإرهابية المتطرفة كالقاعدة والنصرة وداعش ومن يجري في فلكهم ، طبعا يرجع إلى الإيديولوجية السلفية التي قام بتوصيفها الدكتور محمد عابد الجابري بأنها: "منهج انتقائي يسعى إلى تأكيد الذات أكثر من سعيه إلى أي شيء آخر وهو في الأعم الأغلب منهج خطابي يمجد الماضي بمقدار ما يبكي الحاضر ومن هنا تظل ”الذات” التي يريد تأكيدها هي “ذات” الماضي الذي يعاد بناؤه بانفعال تحت ضغط “ويلات” الحاضر وانحرافاته ”.ـ انتهى كلام الجابري.
إذن الفكر التقليدي بصفة عامة والسلفي على وجه الخصوص بنظرته السكونية الجامدة للتاريخ، يحاول بنوع من التماهي إسقاط الماضي على الحاضر والمستقبل بطريقة مجازية لا تاريخية وسأفتح قوسا لإزاحة الخلط بين السلف و الفكر السلفي، السلف هم الأوائل ممن ساهموا في صنع التاريخ العربي الإسلامي، وعاصروا لحظتهم التاريخية وأثروا فيها كما نقلت إلينا ذلك كتب التاريخ أما الفكر السلفي فهو اتجاه إيديولوجي يقرأ الحاضر والمستقبل باستعادة فكر الماضي، إنه اتجاه إيديولوجي يريد الهيمنة على كل مناحي الحياة باشتراطات ماضوية.
إن الضرورة التاريخية والواقعية تستدعي إعمال التفكير العقلاني كمدخل ومنهج لمواجهة الفكر السلفي الميثولوجي والمتطرف فالمسألة ليست بالسهلة بل هي معقدة، وتتطلب ثورة ثقافية تنويرية فالأخطر من الإرهابي هو المروج لفكر التطرف والعامل على تصريفه كإيديولوجية داخل المجتمع وخصوصا في أوساط الشباب الذين يتطوعون للقيام بعمليات إرهابية تحت عنوان تطبيق الشريعة واستعادة دولة الخلافة ومحاربة الإرهاب يجب أن تنطلق بدءا من عملية تفكيك إيديولوجية الإرهاب ومناهضتها فكريا.
فالسمة التي تميز واقعنا الفكري الراهن، تتمثل في تراجع مناهج التفكير النقدي والتحليل العقلاني لصالح سيادة طرق التحليل و التفكير التبسيطي التبريري واللاعقلي، لقد أثبت التفكير العقلاني عبر التاريخ القدرة على تجاوز الأشكال النمطية الفكرية والثقافية والسياسية والاقتصادية بفعل إشاعة الروح النقدية والعلم في مواجهة التقليد، لأن التفكير العقلاني من متطلبات الحداثة في مقاومة القوالب الجاهزة التي عمرت طويلا في مجتمعنا منذ عصر الانحطاط.
الضرورة اليوم تتطلب نقد الفكر التقليدي الذي ورثناه والمعيق لعقلنة المجتمع، يجب أن ننفض غبار التقليد عن طرق تفكيرنا للانتقال بالوعي المجتمعي إلى العقلانية المطلوبة بمشروع ثقافي تنويري نقدي من خلال مؤسسات التنشئة الاجتماعية، في البرامج التعليمية والثقافية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والإعلامية، وهذا دور الدولة أولا والنخب المثقفة ثانيا والأحزاب والنقابات وجمعيات المجتمع المدني ثالثا، أي على كل مكونات النسيج المجتمعي أن تحارب الإرهاب بتقويض إيديولوجيا الإرهاب.
بهذه الرؤية و الأخذ بمطلب العقلانية يمكن أن نهزم الإرهاب، وننتصر للحداثة بدل التقليد، ونجنب المجتمع من آفة الفكر التقليدي السلفي المتطرف وتجلياته الإرهابية في الميدان.