لا شيء يكشف الفوارق المجالية في بلد ما مثل الطريق، قد نختلف في السياسة أو الإقتصاد أو أولويات الدولة، لكننا نتفق جميعا على حقيقة بسيطة تتكرر كل يوم في القرى والجبال: غياب الطريق يعني غياب الحياة.
فالطفل الذي يقطع كيلومترات وسط الوحل ليلتحق بمدرسته، والمرأة الحامل التي تنتظر ساعات حتى يصلها إسعاف لا يجد منفذا آمنا، والفلاح الذي يرى محصوله يفسد لأنه لم يتمكن من الوصول إلى السوق… كلهم يقولون الشيء نفسه: الطريق ليست رفاهية، بل حاجة إنسانية قبل أن تكون بنية تحتية.
لقد إعتدنا، في المدن، أن ننظر إلى الطرق بوصفها أمرا مفروغا منه، إلى درجة أننا نكاد لا نراها. لكن في الجبال والقرى، تصبح الطريق رمزا للعدالة، وامتدادا لحق المواطن في التعليم والصحة والشغل والكرامة.
هناك، الطريق تقرر الكثير: هل ستبقى الأسرة في قريتها أم سترحل إلى المدينة؟ هل سيتلقى الطفل تعليمه؟ هل ستنجو الأرواح في حالات الطوارئ؟ وهل سيستمر الإقتصاد المحلي في الحياة؟
المؤسف أن بعض السياسات ظلت، لسنوات، تتعامل مع المسالك الطرقية بوصفها مجرد مشاريع تقنية أو أرقام في الميزانيات، بينما هي في الواقع مشاريع وجود.
فالطريق حين تفتح في منطقة جبلية، فإنها تفتح أيضا آفاقا جديدة: تتقارب المسافات، يرتفع النشاط الإقتصادي، تنشط الحركة السياحية، ويستعيد السكان ثقتهم في أن دولتهم لم تتخل عنهم. باختصار، الطريق تجعل القرية جزءا من الوطن، لا مجرد نقطة منسية على خارطة.
لكن التحدي الأكبر اليوم ليس فقط في بناء الطرق، بل في استدامتها وصيانتها، فكم من مسلك احتفل به السكان سنوات قليلة، ثم تحول إلى خراب مع أول أمطار غزيرة؟ وكم من طريق لم تستكمل بسبب تعقيدات إدارية أو ضعف ميزانيات الجماعات المحلية؟ إن الطريق التي لا تدوم تفقد معناها، مثل وعد بلا وفاء.
ولأن التنمية لا تصنعها الجرافات وحدها، فإن إشراك الساكنة يبقى أمرا أساسيا في تحديد الحاجيات ومراقبة جودة الأشغال، هؤلاء الناس يعرفون تضاريس أراضيهم أكثر من أي مهندس، ويعرفون أي طريق سيغير حياتهم فعلا.
إن المقاربة التشاركية ليست ترفا، بل شرطا للحكامة الجيدة ولطرق تستجيب للواقع بدل المخططات الجاهزة.
في الأخير يجب التأكيد على أن الطريق ليست مجرد مادة تفرش على الأرض، الطريق رسالة: رسالة تقول لساكني المناطق القروية والجبلية إنهم ليسوا خارج اهتمام الدولة، وإن التنمية تعرف طريقها إليهم أيضا.
وحين نصل إلى مرحلة يصبح فيها الطفل الجبلي قادرا على الوصول إلى مدرسته بسهولة، والفلاح على تسويق محصوله بكرامة، والمريض على بلوغ المستشفى في الوقت المناسب، يمكن حينها فقط أن نقول إننا بدأنا نحقق العدالة المجالية حقيقة، لا شعارا.
فالطريق، في جوهرها، ليست هندسة مدنية .. إنها هندسة للإنصاف.