هلسنكي _ يونس إجيري
ولد ياسين قدوري في مدينة أكليم المغربية، في أسرة تؤمن بأن التعليم والمعرفة هما أساس التقدم، وأن الطموح لا يعرف حدودًا. منذ صغره، تميز بفضول علمي شديد وموهبة استثنائية في الرياضيات والعلوم الطبيعية، وكان شغفه واضحًا في محاولاته المستمرة لفهم الظواهر الكيميائية والطبية المعقدة، وهو ما دفعه لمتابعة دراسته الجامعية في الكيمياء العضوية والطبية. خلال سنواته الجامعية، لم يكن ياسين مجرد طالب مجتهد، بل كان باحثًا ناشئًا ينهل من كل مصدر علمي، ويشارك في المشاريع البحثية التي تتطلب تفكيرًا نقديًا وحل مشكلات مبتكر.
بعد إنهاء المرحلة الجامعية بتفوق، تابع قدوري دراسته العليا وحصل على درجة الدكتوراه في الكيمياء العضوية والطبية والحاسوبية. كانت هذه المرحلة بمثابة إعلان رسمي عن كفاءته العلمية، فقد أظهر قدرة فائقة على البحث والتحليل، وقدم أوراقًا علمية محكمة في مجلات دولية مرموقة، كما شارك في مؤتمرات علمية، ما جعله محط أنظار الباحثين الأوروبيين. جاءت فرصة الزمالة البحثية ماريا كوري في جامعة هلسنكي بفنلندا صيف 2021 لتكون محطة مفصلية في حياته، إذ فتحت له أبواب العمل البحثي المتقدم في بيئة أكاديمية عالمية، ومنحت خبرة دولية في الكيمياء التطبيقية والحاسوبية.
لكن وصوله إلى فنلندا سرعان ما كشف له أن التفوق العلمي وحده لا يكفي للتقدم المهني في سوق عمل أوروبي متطلب، وأن النجاح يحتاج إلى مهارات إضافية، منها اللغة، والقدرة على التكيف، وفهم الثقافة المؤسسية المحلية. بعد انتهاء فترة الزمالة البحثية الممولة، بدأ ياسين رحلة البحث عن وظيفة دائمة، ليكتشف أن الطريق لن يكون سهلاً، وأن الخبرة العلمية العالية ليست ضمانًا للحصول على فرصة عمل مباشرة. جاءت رسائل الرفض المتكررة من الشركات الكبرى بمثابة اختبار صعب لإرادته، لكنه اختار مواجهة الواقع بروح مثابرة.
في ظل هذه التحديات، لجأ قدوري للعمل في وظيفة توصيل الصحف خلال ساعات الليل، في ظروف مناخية قاسية، مع ثلوج متراكمة وبرودة شديدة، لضمان استمرار إقامته وتغطية متطلبات حياته اليومية. هذه التجربة، على الرغم من صعوبتها البدنية والنفسية، شكلت مدرسة للتعلم والتكيف، وأكدت على قدرة الإنسان على الصمود أمام الصعاب. خلال هذه التجارب الليلية، تمكن ياسين من التعرف على فنلندا عن قرب، واحتكاك ثقافي مع المجتمع المحلي، واكتساب مهارات اجتماعية مهمة، بينما واصل تحسين معرفته التقنية والعلمية من خلال حضور الدورات التدريبية المتقدمة في الأمن السيبراني عبر منصة Azure، والمشاركة في فعاليات ريادية عالمية مثل Slush وJunction وMaria 01، التي فتحت له آفاقًا جديدة للتواصل المهني.
ولم تتوقف الصعوبات عند حدود العمل الليلي، بل امتدت لتشمل البيروقراطية المرتبطة بتجديد تصريح الإقامة، وفقدان فرصتين مهنيتين واعدتين بسبب متطلبات قانونية وإدارية دقيقة. ومع ذلك، لم تثنه هذه العقبات، بل دفعته إلى تطوير شبكة علاقات مهنية قوية من خلال منصات التواصل المهني، ونجح في النهاية بالحصول على وظيفة في شركة Yellow Method كمدير لتطوير الأعمال، حيث وظف خبراته الأكاديمية ومهاراته العملية لوضع استراتيجيات مبتكرة وتحسين أداء الشركة، مع تعزيز علاقاتها الدولية.
وفي تصريح لـ "أنفاس بريس"، أعرب ياسين قدوري عن امتنانه العميق للجالية المغربية في فنلندا، خاصة الناشطة الجمعوية نادية هلستن، التي قدمت له مساعدة كبيرة أثناء مواجهة صعوبات البحث عن العمل، قائلاً: "لقد كانت دعمها وتوجيهها أساسًا مهمًا لتجاوز أصعب المراحل، وأشعر بالامتنان الكبير لكل أفراد الجالية الذين كانوا سندًا لي في تلك الفترة."
من خلال هذه التجربة، أظهر ياسين قدوري قدرة استثنائية على الصمود، والعمل تحت الضغط، وتحويل الصعوبات إلى فرص للنمو الشخصي والمهني. لقد تعلم كيف يمكن للمرونة والتكيف والمثابرة أن تكون أدوات لا تقل أهمية عن المؤهلات العلمية، وكيف أن النجاح في الخارج يحتاج إلى مزيج من الصبر والاحترافية والقدرة على بناء العلاقات الإنسانية والمهنية.
اليوم، وبعد سنوات من التحديات والصعوبات، يواصل قدوري تطوير مهاراته العلمية والمهنية، ويسعى لتقديم مساهمات ملموسة في مجالات البحث العلمي والتطوير التقني، مع الحفاظ على روابطه القوية مع الجالية المغربية، باعتبارها جزءًا لا يتجزأ من قصة نجاحه. قصة ياسين قدوري تعد مثالًا حيًا للباحث المغربي الذي لم تقتصر نجاحاته على المجال الأكاديمي، بل تجاوزته لتصبح رحلة صمود وإصرار وإبداع، تؤكد أن الطموح والعمل الجاد والتواصل الاجتماعي المتين يمكن أن يصنع فرقًا حقيقيًا، حتى في أصعب الظروف وأبعد المسافات عن الوطن.
