تميزت الإحتجاجات الشبابية السلمية في مواجهة واقعهم ومعيشهم اليومي بمعاناة صامتة مسؤولة ومواطنة لسنوات، تعمقت فيها شروط الإحباط والقلق الإجتماعي وانتشار الفساد المتعدد الأنواع. لكن استمرارية نفس السياسات العمومية، التي تميزت باستعراض خطابات براقة منمقة ومعززة بأرقام لا ترابط بين أغلبها وممارسة طبعتها الكثير من تضارب المصالح وانعدام الحكامة مما عمق الإحساس بالتهميش والحكرة. وهو ما سهل هذه الانفجارات الذاتية والجماعية للمطالبة بحقوق دستورية لم يلمسها المحتجون في حياتهم اليومية.
و لعل ما أثار الإنتباه في هذه الحركة كذلك مشاركة العنصر النسوي بأسلوب راقي في التعبير وأحيانا مع أصدقائهم الذكور في أسلوب المحاججة مع العناصر الأمنية بمصطلحات، الحرية،الكرامة، الإنصاف، دفاعا عن حقوقنا في التعليم والصحة والشغل والمواطنة، المساواة،تطبيق الدستور، الديمقراطية، البحث عن العدالة المجالية، الثقافية والاجتماعية...
إنها مؤشرات لوعي أقوى لجيل الشباب الرقمي بخطاب حقوقي ينخرط في مطالب مجتمعية لمختلف مكونات المجتمع ظلت مطروحة، لكنها اليوم بصوت الشباب من أجل تجويد الخدمة العمومية وحقوق المواطنة ومحاربة الفساد لتحقيق التنمية والتطور والمشاركة والديمقراطية.
إن هذه المطالب تؤكد فقدان الثقة لدى الشباب في مستقبلهم ولربما في بلدهم بالنسبة لبعضهم، وتؤكد قلقهم الكبير حول أوضاعهم الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، أمام فشل الإستراتيجية الوطنية للشباب والعناية بهم، وخاصة فشل السياسات العمومية تجاه انتظاراتهم وتطلعاتهم وتمثلاتهم لمستقبل بلادهم.
لكن الأهم اليوم أن الشباب عبر عن ضرورة راهنية المسألة الاجتماعية والاقتصادية وأولويتهما لتحقيق التنمية والاستقرار والعدالة كإحدى روافع تحقيق الدولة الاجتماعية...لتمنيع الشباب والمجتمع من مختلف الاختراقات والمؤامرات التي تحاول توظيف مثل هذه المحطات بما يخدم مصلحتها، ولإعفاء الأجهزة الأمنية مواجهة تبعات فشل السياسات العمومية وخاصة المرتبطة بمصلحة الوطن والمواطنين.
ولذلك فالحوار المطلوب اليوم، هو ترجمة هذه الانتظارات في سياسات عمومية ذات مصداقية وحمولة اجتماعية لأولوية الخدمة العمومية. ولربما مبادرات قوية لاستعادة توافقات حول قضايا التعليم والتربية الوطنية، وقضايا الصحة، وقضايا العدالة المجالية، وقضايا التشغيل وحتى قضايا الشباب الذاتية والثقافية عبر مناظرات اوملتقيات تشكل نتائجها أو مقترحاتها لبدائل تترجم في سياسات عمومية ضمن أفق المشروع التنموي الذي لازال يراوح مكانه بعد محاورات ومقاربات غنية لمكونات المجتمع.
وسيكون من المفيد العودة اليوم لسماع صوت المثقفين وأسئلتهم حول المجتمع ودينامياته وقيمه وأساليب حياته وتصورهم لمستقبل بلادنا بما يدلل صعاب التماسك الاجتماعي. وكذلك صوت رجال الأعمال خاصة الذين لهم حس وطني عالي لموقع مساهمة القطاع الخاص في التنمية بالبلاد ومقاربتهم للموضوع، ولو من باب العدالة في توزيع الثروة والعدالة الجبائية والضريبية والعدالة الأجرية والمساهمة المواطنة للرأسمال الوطني في التحفيز على المغامرة والتشغيل والاستفادة الجماعية من خيرات الأوراش الكبرى التي يعرفها وطننا حاليا من أجل تثبت التنمية الاستقرار والتقدم، لتعم نعمه كافة مكونات المجتمع.
هي لحظة وطنية بامتياز لمساءلة الدولة والطبقة السياسية التي يبدو أنها على الهامش حول المستقبل في سنة انتخابية قادمة.