Wednesday 8 October 2025
كتاب الرأي

عزيز رباح: التنمية العادلة ممكنة وتحتاج إلى نُخب مستقيمة وجادّة (4)

عزيز رباح: التنمية العادلة ممكنة وتحتاج إلى نُخب مستقيمة وجادّة (4) عزيز رباح
-الوطن غني بالنخب التي تستطيع توحيد السرعتين
من أجل مغرب يسير بسرعة واحدة لا بسرعتين، كما أمر جلالة الملك، ومن أجل مغرب نريده جميعًا قويًّا ومتوازنًا، يصمد أمام التحديات والمؤامرات، تحتاج المملكة اليوم إلى العمل الجاد، والاستقامة على كل المستويات.
 
فبقدر ما تتوافر الإرادة والرؤية، فإن النجاح في الإصلاح والتنمية يظل رهينًا بوجود فاعلين يتحلّون بالجدية، والإخلاص، والقدرة على الإنجاز.
 
لذا بات من الضروري تجديد الثقة في النخب الوطنية الصالحة في مختلف المجالات، فهي الأقدر على اتخاذ القرار الحازم، والتواصل المسؤول مع المجتمع، وترشيد الحكامة، وصون أمانة إدارة شؤون الدولة والمجتمع.
 
هذه النخب موجودة فعلًا في مواقع عدّة، وتؤدي أدوارًا مقدَّرة، لكنها ما تزال محدودة من حيث الفعل والحركة والدعم والتمكين.
 
ولكي تنجح المملكة في تنزيل الدستور، وتفعيل القانون، وتنفيذ التوجيهات الملكية السامية، والوفاء بالعهود، لا بد من تمكين هذه الكفاءات ومنحها الثقة لتقود مشاريع الإصلاح، والتنمية، والعدالة المجالية والاجتماعية.
 
إنها النخب التي تقدّم الانتماء للوطن على أي انتماء آخر، والتي تُحسن التقدير والتدبير، وتحضر في الأوقات الحرجة لتُقنع، وتُطمئن، وتوحّد الصفوف.
 
-عندما يظلم الموظف أخاه المواطن... نخسر المناعة-
ظلم بعض الموظفين للمواطنين يُعد من أشدّ المنكرات؛ فهو ظلم، وخيانة للأمانة، وتعطيل للمصالح، وتضييع للفرص.
 
نرى ذلك في القطاعات الوزارية، والمؤسسات العمومية، والجماعات الترابية، والمرافق الاجتماعية والخدماتية. فأغلب شكاوى المواطنين تعود إلى ممارسات مشينة كالرشوة، والابتزاز، والتماطل، والمحسوبية، والظلم، والتزوير، وغيرها مما يخلق الإحباط والأزمة، بل وأحيانًا الشعور بالاغتراب عن الوطن.
 
والأدهى أن تجد موظفًا بسيطًا يشتكي من وضعه، فإذا به يمارس الظلم نفسه على مواطن أضعف منه حالًا.
 
-عندما يفسد المسؤول... لا ينفع التخطيط ويُخرَّب العمران
لقد عانى الوطن من مسؤول فاسد أو ضعيف، بلا أثر ولا فعالية؛ يجلس على الكرسي دون مبادرة، ولا تواصل، ولا تفاعل. مسؤول إذا تحدّث لا يُقنع، وإذا قرّر انحرف عن الصواب، وإذا أنجز ضيّع الجودة، وإذا أنفق بَذّر وأسرف. يكون في أحسن الأحوال يومه كأمسه، بلا تقدّم ولا أثر ولا قيمة.
 
بل إنه يشكّل عبئًا على المرفق العام، فيُعطّل الطاقات الجيدة، ويُضعف الثقة في المؤسسات، ويُعرقل مسار التنمية ويفشل في تنزيل المخططات والبرامج والتوجيهات.
 
فالحكامة وإصلاح الإدارة يبدأان بصلاح وجدية من يديرها. ويجب وضع الثقة في الكفاءات الوطنية التي تزخر بها البلاد.
 
-عندما نقدّم السياسي الفاسد والضعيف... ينسحب المخلصون
كما ابتُليت الدولة والمجتمع بنماذج من السياسيين لا يُقدّرون قيمة القسم، ولا حجم الثقة التي مُنحت لهم.
جاؤوا عبر رياح التفاهة السياسية، وشبكات المصالح، وقوة المال. لا يحملون فكرًا ولا مشروعًا، بل يُساهمون في تمييع العمل السياسي وتبخيس مؤسساته.
 
سياسيون يخدمون مصالحهم الضيّقة على حساب الوطن، ويحوّلون العمل العام إلى وسيلة للربح والمناصب، لا يؤمنون إلا بالمصلحة الخاصة، ولو كان الثمن استقرار الوطن وتقدّمه.
 
لقد حان وقت التطهير. وعلى الأحزاب أن تلتزم بنُبل العمل السياسي، وبأمانة تمثيل المواطنين، ورعاية شؤونهم، وتقدير حجم التحديات والمعارك الكبرى التي يخوضها الوطن، والمؤامرات التي تحيط به.
 
وكل ذلك ممكن إن توفرت الإرادة.
 
-عندما نُفضّل المهني الريعي... نُضيع النمو والمنافسة
هناك فئة من المهنيين والفاعلين الاقتصاديين استفادت من كل شيء من الدولة: تحفيزات، وعقارات، وإعفاءات، وتراخيص، وامتيازات... ولم تُعطِ للوطن إلا القليل، وبتأفف.
 
هؤلاء يجنون الأرباح من خيرات الوطن، لكنهم يختفون عند الأزمات. لا صوت لهم، ولا مبادرة، ولا التزام وطني. بعضهم لا يتردد في اقتناص الفرص بكل الوسائل غير المشروعة، بل قد يطعن الدولة في ظهرها عند الشدائد.
 
تهرّب ضريبي، ضعف الجودة، استثمار ريعي، تشغيل غير كريم، تهريب للأموال، احتكار، غلاء، وغش... هذه سلوكياتهم. لا يهمّهم ما يقع بعد ذلك، فتضطر الدولة إلى إطفاء نيران سلوكهم الافتراسي.
 
وفي المقابل، تزخر بلادنا برجال أعمال وطنيين صادقين، يستحقون كل الدعم والتقدير والتقريب. ويمكن عقد "ميثاق نهضة" معهم لتوظيف أموالهم وممتلكاتهم وعلاقاتهم فيما ينفع الوطن وأمنه واستقراره.
 
الحاجة إلى الإصلاح الحازم
لقد آن الأوان لمرحلة جديدة من الإصلاح الصارم والمسؤول، تُعلي من شأن الكفاءة والجدية، وتستغني عن الكسالى والمفسدين والمثبّطين.
 
فالدولة تعرف جيدًا من يعمل بإخلاص، ومن يُعطّل المصلحة. ولا شك أنها عازمة وقادرة على أن تُعيد ترتيب البيت الداخلي، وتُبعد من يُسيء إلى المرفق العام، وتفتح الباب أمام الكفاءات المخلصة التي تعتبر المنصب تكليفًا لا تشريفًا، وخدمة لا غنيمة.
 
قد يُمارس بعض هؤلاء ابتزاز الدولة بادعاء القوة أو النفوذ أو الدعم الخارجي، أو بالزعم أن الاستغناء عنهم خطر. لكن مكان هؤلاء، ببساطة، خارج دائرة الثقة.
 
فالدولة المغربية، عبر تاريخها، لم تخضع لابتزاز، ولم ترضخ لتهديد، ولم توقف عطاءها لفئة أو جماعة مهما كان موقعها.
 
فالشعب المغربي، في كل الأزمات، كان وسيظل في صفّ ملكه ودولته، وفيًّا لعهده، مخلصًا لبلده.
 
والنخبة الوسيطة الجادّة والمستقيمة، هي صمّام الأمان الحقيقي ضدّ خراب من يشكّلون الرباعي المتواطئ: الموظف، والمسؤول، والسياسي، والمهني.
 
والحمد لله أن الكثيرين ليسوا أمثالهم. وبهم تبقى المملكة صامدة أمام عوادي الزمن.