على الجبهة الشمالية من كوباني شابات كرديات مكحّلات العيون، وذات قامات، يصوّبن بسلاحهن من خلف المتراس باتجاه الجنوب، ضد قوات «داعش». ماذا يتمنى المرء المعادي لهذا التنظيم أكثر من أن تكون صورة المجتمع الذي يقاومه تنضح بمظاهر «حداثية» كهذه، تثلج قلوب الغرب خصوصاً، حامل تحررنا على كتفيه، ومكافئا كل طليقة بارزة منا بجوائز وتقدير ودعم؟
ولكن في المسألة استعادة لزمن غابر، عمره الآن أربعة عقود، في بداية الحرب الأهلية اللبنانية، خصوصاً في جولة ما سمي بـ "حرب السنتين" (1975-1976)، كانت النساء اللبنانيات، اليساريات منهن خصوصا، عرضة لعدسة مصورين أجانب جاؤوا ليبحثوا عما يشبههم، وجدوا في الرفيقات حاملات السلاح موضوعا مثيراً، فالتقطوا لهن الصور وهن يحملنه، واقفات خلف المتراس، أو فوقه، باعتزاز من خرج منتصراً من معركة ضد الشرّ التقليدي المطلق. هذه الصور، بعد التقاطها، كانوا يرسلونها إلينا، فنرى أنفسنا أكبر مما نحن، أعظم، كأن الصورة خلدت لحظة تاريخية من حياتنا، لن نعود من بعدها إلى الوراء. ولكن الحرب امتدت وتوسعت، وتحولت إلى معارك قاتلة، بعدما كانت مجرد مناوشات وتفجيرات هنا وهناك... فاختفت النساء من الشاشة وعن المتراس. خصوصا في الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982، عندما دعيت كل الزنود لحمل سلاحها ومواجهة العدو الغازي، وكان نصيب النساء المندفعات للقتال السخرية والاستهزاء؛ «روحي علْبيت...» (اذهبي إلى البيت)، كان الجواب الموجه إليهن... (لم تلتقط صورة هذه الواقعة، ولا صورة أخرى عن «مشاركة الرفيقات في الحرب»: الطبخ والتكنيس والتنظيف...).
اختفت النساء من الشاشة إذن، ليس فقط بقرار من القيادة اليسارية ذات العقلية الذكورية، إنما أيضا من الدور الذي فرض نفسه على النساء، وقد أملته جدية المعارك وضراوتها. فصار المشهد منقسما بين فصلين: فصل القتل المنوط بالرجال، وفصل الحماية من القتل المنوط بالنساء؛ الحماية أو الهرب أو مجرد البقاء على قيد الحياة. في السنوات الأخيرة من الحرب، أكثر من انضم إلى مسيرات وقفها، كانت النساء. أكثر من بادر، وتحمس وأضاء من الشموع. أما عندما انتهت هذه الحرب، رسمياً، عدنَ إلى حضن الطائفية السياسية، يتمرغن بعطاءاتها ومكرماتها، صاغرات لنظام سياسي ضحين، بالرغم عنهن، بالغالي والنفيس من اجل إصلاحه، أو تثويره... فصرن يدارين شروطه، يتحايلن على ألاعيبه، يتحررن من بعض سطوته الكلامية، ولكنهن في النهاية حولن بلدهن إلى أصغر-أكبر مختبر لجراحة خطوط الوجه والجسد التجميلية، بحيث ينلن الرضا أو المكانة أو الزوج المناسب أو الوظيفة الملائمة...
الآن، عندما يستعيد المرء صورة تلك المناضلة اللبنانية الواقفة خلف متراس بثياب عسكرية وعلى كتفها الكلاشينكوف، يتندّر على سذاجة الجميع: الصحافي الباحث عن لقطة يبيعها، مشرفة ومفيدة، تطمئن الغرب إلى غروره التحرري؛ النساء صاحبات الصورة والأوهام؛ الرجال الذين كانوا يقومون بأدوار «قيادية» مستعارة. الآن، يمكنك النظر إلى صورة اللبنانية المسلحة، في عصر ما قبل التاريخ، ليس للتأسف على «مكسب لم يدُمْ»، إنما للتنبّه إلى أفخاخ الصورة، وقدرتها على حجب وقائع مسكوتة. المجتمع اللبناني الخائض في الحرب ليست هذه الصورة هي التي تفسره؛ فالقتال لم يكن دائرا بين خصمين، كما تدعي، واحد تقليدي والثاني حديث، إنما بين خصمين كلاهما تقليدي؛ واحد تقليدي بلا مواربة، والآخر تقليدي متخبط بالحداثة. وهذه فكرة صعبة على الصورة، الباحثة دوما عن الأسرع... صعب عليها أن تتمهّل قليلا، أن تتواضع على «السكوب»، لتجد طريقة تلتقط بها عدستها كل هذا التعقيد الشرقي الهائل، أو قدراً منه على الأقل.
صورة الشابة الكردية المتحمسة لا تختلف خلفياتها كثيرا عن صورة اللبنانية وخلفياتها، هي أيضاً، إن لم تكن أكثر صلابة. الصورة نفسها صارت أسهل، أكثر جاذبية وحضورا، أعمق تأثيراً على العقول والمخيلات؛ أضف إليها الرغبات الأيديولوجية للغرب الحداثي النسوي... ولكنها، بوقعها العظيم هذا، تخفي خلف متراسها مجتمعا قاسيا مع النساء، يمارس جريمة الشرف، ويزوج ويطلق ويورث ويحضن بقوانين الشريعة غير العادلة... يهيمن عليه نظام بطريركي، تزيد صرامته مع تعبئته الحربية المستمرة؛ تحكمه أحزاب تسلطية «حداثوية»، لا تعرف للرأي المختلف سبيلا، لا تدركها إلا قرارات أمينها العام، التوريثي، غالباً. وعلى النساء اللواتي قررن الالتحاق بالعسكرة أن يكن قد حسمن أمرين: التخلي النهائي عن حياتهن الجنسية، عن أنوثتهن، والتحول، مع الوقت، إلى أشباه رجال: رجال من دون امتيازات الرجال، الجنسية منها خصوصا. إما هذا الخيار إذن، وإما التعب من المتاريس أو الحنين إلى تخيلات الأنوثة، فعودة إلى حضن مجتمع مؤطر بأوضح الحدود بين الذكورة والأنوثة.
للكرد بالطبع الحق بقيام دولتهم الخاصة، وهذا حق يتجاوز حسابات الإمكانيات والمشاريع والخطابات القوموجية، العربية والفارسية والتركية، التي تريد إبقاءهم تحت حكمها. ويبدو من التاريخ أن الحرب من أجل هذا القيام هي مصيرهم. وعندما تندلع شرارات الحرب بالمقاييس التي نعرفها، يطرح على نساء الكرد ما يطرح على النساء صاحبات الحظوظ بالولادة في مناطق حرب: إما الركون إلى البيت وتنشئة أجيال المقاتلين، أو الامتناع عن البيت والجنس وكل مترتبات الأنوثة، والالتحاق بالمقاتلين.
ماذا يجنين أولئك «الأمازونيات» على المدى المتوسط، قبل الطويل، من الخوض في المعارك الحربية التي يقودها الرجال؟ هل هن يتحررن فعلا عندما يخضن في هذا المجال الجديد، بناء على مقياس التشبه بالرجال في مجالات أخرى، مثل الطب أو التعليم؟ إنها لمعضلة حقيقية: فالحرب شأن عام، أي أنها تخصّ الجميع، بما فيهم النساء. وهي تتطلب حشد كل الطاقات، بما فيها طاقات النساء. وبما أننا في عصر اختراق النساء لمجالات الرجال، فانه من المنطقي أن تساهم النساء في هذه الحرب، وبكافة الأشكال، وليس فقط بالتمريض أو التموين، أو الإغاثة الخيرية، كما كان يحصل في السابق. ولكن مشاركة النساء في القتال المباشر، أي في القتل، الدفاعي أو الهجومي، سوف يفقدهن خصائص أنثوية، سوف يصبحن رجالا، ليس في المخ، إذ أنهن لسن عالمات، إنما انتحاريات يفجرن أنفسهم بسيارات مفخخة، صاحبات عضلات مفتولة، وقفة عسكرية... إلا في إسكات كل الرغبات الجنسية؛ نوع من الراهبات اللواتي قسمن يمين العذرية الأبدية.
فمهلاً قبل إبداء الإعجاب المنقطع النظير بصورة الشابات الكرديات: إنهن باسلات بلا شك، ولكنهن يطرحن المعضلة، قبل أن يمنحن الجواب. تشجيع الإعلام الغربي على صورتهن، وحماسته المكررة لبطلاته... كلها إيحاءات الأيديولوجيا، ترمي إلى القول بأن البيشمركة «حداثيون» نسويون تنويريون، يحاربون الأصوليين الظلاميين... فيما الخلفية الواقعية شيء آخر تماماً. خصوصا عندما تقفز معطياتها على المسرح، فنفاجأ بها: كيف يمكن لمجتمع حملت نساؤه السلاح، أي بلغن أعلى مجالات الرجال، أن يذعن في النهاية إلى النظام الصارم الذي يخضعهن؟ إذ يكون خرج منتصرا، سواء كان مآل الحرب هزيمة أو نصرا؟
هل يعني ذلك بأن على النساء اختيار مجالات الرجال التي تستحق الاختراق؟ حفاظا على أنوثتهن؟ التي تقتضي رفض الحرب، وبكافة أشكالها؟ أم يخضن بلا تعقيدات في كافة مجالاتها، ويصبحن شبيهات بالرجال، ناقصات الأنوثة، محرومات من وظائفها؟ نوع جديد من النساء؟ لا يحتاج إلى أخذ الصورة خلف المتراس؟
(بالأمس، أصدرت السلطات الكردية الحاكمة لمنطقة الحسكة في شمال شرقي سوريا، مرسوما يمنع زواج الفتاة قبل الثامنة عشر من عمرها، ويدعو إلى أخذ ظروف العمل المتساوية بين الجنسين، وإعطاء إجازة أمومة حتى الولد الثالث. والمرسوم يدين أيضاً جرائم الشرف والعنف والتمييز ضد النساء، ويمنع تعدد الزوجات. هل هي رسالة توجهها السلطات الكردية إلى الغرب، تدعم الصورة لتقول إنها تحارب، مثله، من أجل تحرر المرأة؟ أم أن شيئا أعمق من ذلك، شيء حاصل في المجتمع الكردي، نجهله؟).
(عن موقع "المستقبل" اللبناني)