لم يكن الجدل الدائر حول الإعفاءات الضريبية والجمركية لمستوردي الأغنام والأبقار مجرد مسألة تقنية تتعلق بتدبير الموارد المالية للدولة، بل هو مرآة تعكس أزمة هيكلية في تدبير القطاع الفلاحي. فمنذ عقود، شكلت الرسوم الجمركية والضرائب آلية لحماية القطيع الوطني وضمان السيادة الغذائية، لكن ما شهدناه في السنوات الأخيرة هو تحول هذه الأدوات إلى وسيلة لتمويل الاستيراد، مما جعل الحكومة رهينة للوبيات محدودة العدد تتحكم في السوق.
الإعفاءات الضريبية: من درع وقائي إلى فجوة مالية.
في الأصل، كانت الضرائب المفروضة على استيراد الماشية تهدف إلى حماية الفلاح المغربي من المنافسة الأجنبية، أيام كان القطيع الوطني متماسكًا وكانت البلاد قريبة من الاكتفاء الذاتي. لكن تراجع أعداد الماشية بسبب الجفاف وارتفاع كلفة الأعلاف، وغياب رؤية استراتيجية واضحة، دفع الحكومة إلى اتخاذ قرار فتح الباب للاستيراد على مصراعيه عبر إلغاء الضرائب الجمركية والضريبة على القيمة المضافة، إلى جانب تقديم دعم مباشر للمستوردين.
13.3 مليار درهم: خسارة مالية أم سوء تدبير؟
بلغ إجمالي الإعفاءات المقدمة للمستوردين 13.3 مليار درهم، توزعت كما يلي:
* 7.3 مليار درهم نتيجة وقف استيفاء رسوم استيراد الأبقار.
* 744 مليون درهم تحملتها الدولة كضريبة على القيمة المضافة عن استيراد الأبقار.
* 3.86 مليار درهم نتيجة وقف استيفاء رسوم استيراد الأغنام.
* 1.16 مليار درهم تحملتها الدولة كضريبة على القيمة المضافة عن استيراد الأغنام.
* 450 مليون درهم كمبلغ دعم مباشر لاستيراد 900 ألف رأس خروف موجه للعيد.
هذا الرقم، وإن لم يكن خسارة مباشرة، إلا أنه يعكس إخفاقًا في التوقعات، إذ لم يتحقق الهدف الرئيسي من هذه الإعفاءات، ألا وهو خفض الأسعار وضمان وصول اللحوم بأسعار معقولة للمستهلك المغربي.
وفي محاولة لامتصاص الغضب وتبييض الحكومة، خرج رئيس مجلس النواب بتبرير وُصف بأنه "تحايل على الأرقام"، حيث ركّز على أن الحكومة نجحت في تحديد سعر الخروف بين 4000 و4500 درهم إبان عيد الاضحى الفارط، وهو ما يتناقض مع تصريحات وزير الفلاحة السابق محمد الصديقي ووزير الميزانية فوزي لقجع، مما يعكس تخبطًا حكوميًا واضحًا في تدبير هذا الملف.
المستفيد الفعلي: المواطن أم لوبيات الاستيراد؟
فيما حاولت الحكومة الدفاع عن هذا القرار بكونه أداة لضبط الأسعار، إلا أن الواقع كشف أن الأسعار لم تشهد الانخفاض المنتظر، مما يطرح تساؤلات مشروعة حول:
* غياب أي آلية لإلزام المستوردين بتمرير فوائد الإعفاءات للمستهلك النهائي.
* ترك السوق رهينة في أيدي عدد محدود من كبار المستوردين الذين يتحكمون في الأسعار دون حسيب أو رقيب.
* فشل الحكومة في مراقبة سلاسل التوزيع، مما سمح للمضاربين بتحقيق مكاسب ضخمة على حساب المواطن.
الحكومة رهينة المتحكمين في السوق.
كشفت هذه الأزمة عن ضعف مزمن للحكومة الحالية أمام شبكات الاستيراد التي أصبحت تتحكم في العرض والأسعار، وهو ما يُظهر أن الحكومة لم تعد قادرة على ضبط لوبيات لا يتجاوز عدد أفرادها أصابع اليدين، لكنها تتحكم في مصير قطاع حيوي.
خطابات جلالة الملك حول السيادة الغذائية
في أكثر من مناسبة، شدد الملك محمد السادس على أهمية تحقيق السيادة الغذائية للمملكة، مُعتبرًا أن هذا التحدي ليس مجرد مسألة اقتصادية بل قضية استراتيجية تتعلق بأمن الدولة. ففي خطابه بمناسبة الذكرى الـ60 لاستقلال المملكة، أشار الملك إلى ضرورة تعزيز الاكتفاء الذاتي في جميع القطاعات الحيوية، بما في ذلك القطاع الفلاحي، باعتباره عمادًا للأمن الغذائي. وأضاف أن المغرب يجب أن يكون قادرًا على ضمان استقراره الغذائي في جميع الظروف، عبر تطوير الإنتاج المحلي والحد من التبعية للخارج.
كذلك، في خطاب العرش 2022، أكد الملك على ضرورة تحقيق الاكتفاء الذاتي الغذائي باعتباره ركيزة أساسية في تعزيز الأمن القومي. ووجه جلالته تعليماته للحكومة لتعزيز السياسات الداعمة للفلاحين الصغار، وتحفيز الاستثمار في القطاع الفلاحي، وأكد على ضرورة مراجعة استراتيجية الأمن الغذائي بشكل شامل لضمان أمن البلاد في مجال الغذاء.
الحلول الممكنة: استعادة السيادة الغذائية
لا يمكن الاستمرار في سياسة الإعفاءات العشوائية التي تضر أكثر مما تنفع، بل ينبغي على الدولة التدخل (وليس الحكومة) كون الامن الغذائي للمغاربة مسالة سيادية، وذلك عبر:
* إعادة هيكلة السياسة الفلاحية بما يضمن تحقيق الاكتفاء الذاتي والحد من التبعية للاستيراد.
* إخضاع عمليات الاستيراد لرقابة صارمة وضمان استفادة المواطن من أي دعم أو إعفاءات تُمنح للمستوردين.
* دعم الفلاح الصغير والمتوسط لضمان تنمية مستدامة للقطيع الوطني.
* كسر احتكار كبار المستوردين عبر فتح المجال لمزيد من المنافسة وضبط الأسعار.
* مراجعة أوضاع المضاربين المحليين، إذ لا يمكن ترك قطاع استراتيجي يُدار بعشوائية تخدم مصالح فئة قليلة على حساب الأمن الغذائي والأمن الاجتماعي.
بين ظرفية الأزمة ومصير الفلاحة المغربية
هل نحن بصدد بناء سياسة غذائية مستقلة تحقق الأمن الغذائي للمغاربة، أم أننا نتحول إلى اقتصاد تابع للوبيات الاستيراد (تجار الازمات)؟ هذا هو التحدي الحقيقي الذي يجب أن يكون محور أي إصلاح مستقبلي للقطاع الفلاحي في المغرب.