الجمعة 22 نوفمبر 2024
كتاب الرأي

دلال البزري: كندا والفورة المثلية

دلال البزري: كندا والفورة المثلية

وأنتَ تتنزه في شوارع مدينة تورنتو الكوزموبوليتية، لا يمكنك غير أن تلحظ تبدل العلاقات بين الجنسين، خصوصاً لو قصدتَ الحي المثلي، الذي تعبره جادة اسمها "شارع الكنيسة"... على أرصفة هذه الشوارع تكون شاهداً على ما يشبه غزوة فئة من الناس انتصرت  لتوها على قمع أكثر شؤونها حميمية، فتصرفت مثل الفاتحين الجدد، بكل ما اختزنت من حرمان وصمت عن رغبة كانت تسمى "مرضاً" عند أرحم راجميها، وباتت الآن من طبيعيات الأمور. المثليون هناك يغالون في التأكيد على تفردهم الجنسي. لم أر عشاقا تقليديين يعبّرون عن عواطفهم على الملأ، في كل لحظة، في كل ثانية، كما يعبر المثليون؛ مسكة اليد، القبل، الالتصاق، الهمسات، الانشراح والضحك المتواصليَن... كأنهم وجدوا كنزاً في حريتهم المكتسبة بتلبية رغباتهم الجنسية التي كانت ممنوعة، فبالغوا في التعبير عن فرحتهم بها، تأكيدا على ديمومتها وحماية لها من أي انقلاب عليها، قد تأتي به أيام، أو معطيات أخرى. تنظر أنتَ إلى هذا المشهد العجيب، حيث لا شيء سوى أزواج من الرجال العشاق، والأغرب منه، أن غالبيتهم من أصحاب وسامة "قاتلة" للجنس الآخر، بحسب تعبير ابنتي نور. وقد أخبرتني لاحقاً، بأنه من سوالف الشابات "العاديات" جنسياً، أنه "كلما التقينا بشاب شديد الوسامة، يطلع مثلياً! وا أسفاه!".

خلف هذا "الانتصار الميداني"، أشياء أخرى، لا تقل أهمية: نادراً ما تشاهد في هذه الشوارع مثليات من النساء، أي زوج نساء، يناظر، أزواج الرجال. مع أن العبارة يفترض بها أن تضم المثليين من الجنسين. كانت هناك عشيقات يمشين جنباً إلى جنب، ملتصقات، أو ماسكات بالأيادي؛ ولكن لا العدد كان وفيراً، أو موازياً لعدد المثليين الرجال، ولا المبالغة الرجالية كانت حاضرة. أحدس من هذه الملاحظة وغيرها بأن المثلية الرجالية هي بوجه من أوجهها، رد موارب على تحرر المرأة وانطلاقتها الجنسية. ردٌّ على الفوضى الجنسية التي أحدثتها هذه الثورة، والاختلال العنيف الذي أدخلته، مثل كل ثورة، في التوازن القديم الذي قام بين الجنسين لآلاف من السنين؛ ردٌّ على انبثاق أنواع جديدة من النساء، مثل الرجال، تعبر عن رغبتها وتريد أن تلبيها على الدرجة نفسها التي كان عليها الرجال. ربما هذا ما يفسر أيضا الفوضى المتنامية في العلاقة بين الجنسين، التنقل المتواصل بين الجنسين، وأحيانا الاستقرار بينهما، في حالة من يسمون بالبايسكشويل (bisexuel). القصص التي تسمعها عن الهجرات العابرة للجنس، تعطيك لمحة أولية عما يمكن أن يسود من فوضى، بعد ثورتين: الثورة النسوية والثورة المثلية. عالم جديد على مخيلتنا، حتى لو كانت في غاية المعرفة والانفتاح... فكل هذه المنشطات الذهنية لا تزن شيئا مقابل ذاكراتك الإيروتيكية، المعجونة بآلاف السنوات من الصور والأحاسيس والسياقات.

إليكَ واحدة من تلك الوقائع المؤكدة على نوعية تلك الحمى الجنسية: في حي المثليين، دخلنا إلى بار يرتاده المثليون والمثليات، ولا يرفض الناس العاديين مثلنا. في الداخل، طبعاً، عدد المثليين طاغ على عدد المثليات. وعلى الخشبة المرتفعة قليلاً، رجل تلو الآخر، متنكر بزي نساء مغريات، على رأسه بيروكة ضخمة شبيهة بشعر نجمات الفيديو كليب، ثم الفستان المشقوق والقصير والرموش المثقلة بنفسها وبالمساحيق الخ. هذا الرجل المتنكر بزي امرأة يغني ويتدلع ويرقص على طريقة البلاي باك (play back)، موزعا كل أنواع الحركات المثيرة. أما الجمهور، المؤلف في غالبيته من زوجين من المثليين، فكان على درجة عالية من التفاعل مع هذه الإيحاءات الجنسية؛ بل كان يقف أمامي أحد الأزواج، يمسك بمؤخرة صاحبه كلما علت النجمة التي على الخشبة من نغمتها وإيحاءاتها الجنسية. على يميني، كان زوج من المثليات لا يختلف ردود فعله عن المثليين، من تعبيرات التفاعل مع الإثارة الجنسية الخارجة من ذاك الرجل المتنكر بدور نجمة مغرية. ما أصابني بأشد العجب: أن يثار رجل مثلي، أو امرأة مثلية، لرجل يلعب هذا الدور؟ ما الذي يحركهم على هذا الالتباس الجنسي؟

طرحتُ السؤال على مثليين، فكانت إجاباتهم متفاوتة متنوعة: أحدهم أسف من الفورة المثلية التي تعبر عنها تلك التنكرات، مثل من يتأسف على تجاوزات ميليشيات منتصرة تريد أن تأكل كل شيء، أن تحرق كل شيء، أن تدمر كل البديهيات الإيروتيكية. والآخر أفادني بأن المثلي، مثله مثل "العادي"، ما زال يحمل عقدة أوديب، التي تنطوي على عشق إيروتيكي للأم، فلا يتخلى عنها، ولو كان يرغب الرجال جنسياً.

أنا اختصر هنا الأقوال والإجابات، ولا أصف الحالات المتفرعة الأخرى من العلاقات الجنسية والتخيّلات، خصوصاً تلك التي يقيمها النوع الجديد من الأجناس الجنسية، مثل الترانسكشويل (transexuel)، أو  المتحولين جنسياً، أو "المخنثين" بتعبيراتنا الشعبية، الذين ولدوا بغير الجنس الذي في دواخلهم ورغباتهم الجنسية...

أنت هنا أمام مغارة جنسية جديدة، شديدة التنوع والتحول والجدّة، قليلة النظام والقانون، ولا يبدو أن لغيرها مستقبلاً. كندا مختبر إضافي للعلاقات الجنسية الآتية.

(عن جريدة "المدن" الإلكترونية اللبنانية)