الجمعة 22 نوفمبر 2024
كتاب الرأي

محمد خير: كوكب الحكام السابقين

محمد خير: كوكب الحكام السابقين

في رائعة أنطوان إكزوبري "الأمير الصغير"، يزور الأمير كوكباً صغيراً جداً ليس فيه إلا ملك فخور يجلس وقد امتد معطفه الملكي ليغطي الكوكب كله، وما إن يرى الأمير حتى يبادره قائلاً: أنت من رعيتي، وحين يأمره بالجلوس، يضطر لسحب جزء من معطفه كي يجد الأمير مكاناً للجلوس.

أما في "كوكب الأشياء الضائعة" لمارك ستراند، فثمة كوكب تذهب إليه الحيوانات التي انقرضت على الأرض، والأكواب والأرانب وكل الأشياء التي يخفيها السحرة، والأًصوات التي لم يسمعها أحد، والناس المفقودون والجنود المجهولون.

إن أمكن تخيل كوكب بالنمط نفسه، في المخيلة السياسية العربية، فقد لا يكون سوى كوكب للحكام والرؤساء السابقين واللاحقين، منه يأتون ليحكموا شعوباً ترى أنها لا ذنب لها في ما يجري لها، وأن هؤلاء الحكام والرؤساء والزعماء ليسوا نتاجاً عنها ولا أبناء شرعيين لثقافتها، وإنما -تلك الشعوب- هي ضحية الاضطهاد المتواصل والمؤامرة المستديمة من سكان ذلك الكوكب المتخيل.

لم يكن الفيديو الذي بثه موقع "دوت مصر" لبعض من طلاب الجامعات المصرية، يعجزون عن الإجابة عن أبسط الأسئلة، إلا مناسبة جديدة لإنعاش تلك المخيّلة وإيقاظ اتهاماتها القديمة الجديدة. فأولئك الطلبة -في نظرها- لا يتحملون أي ذنب في ضحالتهم وجهلهم، بل إنهم "نتاج الأنظمة السابقة التي قامت بتجهيل المصريين".

بقليل من الانتباه يمكن ملاحظة الخطأ المنطقي الواضح في العبارة السابقة. إذ أن تلك الأنظمة المتهمة نفسها، هي مصرية بدورها، ومن ثم لا يمكن فصلها بعبارة مانعة عن عموم المصريين، إلا بتخيّل أنها ليست نتاج المصريين أنفسهم، وإنما جاءت إليهم تباعاً من ذلك الكوكب المتخيل.

يمكن بتوسيع الرؤية بعض الشيء ملاحظة أن المنظور نفسه يشيع في سوريا وفي العراق وفي تونس وغيرها. فنظام صدّام أو المالكي في العراق، أو الأسدين الأب والابن في سوريا، أو بن علي في تونس، هي الأنظمة التي "قهرت السوريين والعراقيين والتونسيين"، على الرغم من أنها أيضاً أنظمة عراقية وسورية وتونسية. لكن، ولأن تلك الشعوب ترى نفسها بريئة من حكامها ومؤسساتها وجيوشها ورجال أمنها ومؤسساتها وصحافتها وتاريخها الحديث وكل ما تسبب في ما وصلت إليه، فإنها بالتبعية مسكينة و"لا تستحق" ما جرى لها.

ويبدو أن من صفات كوكب الحكام السابقين، أنه لا يؤثر في طبيعته تغيّر الأنظمة نفسها، لا اتجاهاتها ولا أيديولوجياتها ولا شعاراتها. فالبقعة المصرية -مثلاً- على الكوكب، ما زالت تورد الحكام المستبدين منذ كانوا ملكيين أو قوميين أو انفتاحيين أو إخوان أو عسكريين. كلهم "استبدوا" بالمصريين الذين بلغ من سوء حظهم أن الكوكب لم يتعمد معاقبتهم بالاستبداد فقط، بل أيضا بالتجهيل المتعمد والإفقار المتعمد وكل الأشياء السيئة المتعمدة.

وصحيح أنه يصعب تصور الهيئة التي كان يتم "التجهيل" عبرها، هل كان رؤساء الجمهورية المتعاقبون يطلبون من وزرائهم بياناً شهرياً أو سنوياً بخطة التجهيل وعدد من تم تجهيلهم؟ إلا أن ذلك المشهد، على غرابته، لا يختلف عن مشهد أكثر هيمنة في الوعي العام، عن مؤامرة الدول الكبرى على الإسلام، ورغبة قلاع الغرب الصليبي في دفع بسطاء المسلمين إلى المجون والانحلال.

لقد تمرد "الربيع العربي" على بعض مبعوثي كوكب الحكام الشرير، فقط ليكتشف الناس أن ثمة كوكباً آخر أصغر قليلاً، يورّد إليهم المعارضة، وكوكباً ثالثاً يورّد النخبة. وهكذا أضيف إلى مفهوم "إن مصيبتنا في حكامنا"، مفهوم آخر هو "مصيبتنا في معارضتنا"، وكذلك "مصيبتنا في نخبتنا". أما "نحن" فلا ذنب لنا، وسنُبقي القوس مفتوحا إلى حين اكتشاف كواكب أخرى. 

(عن جريدة "المدن" الإلكترونية اللبنانية)