قال لي جمال البنا «المتوفَّى في 2013» الشقيق الأصغر لحسن البنا، وكنت أعرفه لسنواتٍ طويلةٍ، وتربطنا مودةٌ: إنَّ حسن لم يُصدر كتابًا في حياته عن الشاعر مسلم بن الوليد المعروف بـ «صريع الغواني». فقلتُ له: إنَّ معي نسخةً مُصورةً. فأكد ثانيةً أنه لم يكتب، ولم يقترب من هذا الشاعر.
وهكذا من النادر أن نجد ذكْرًا ولو عابرًا في أدبيات الإخوان عن إقدام حسن البنا على تقديم ديوان «صريع الغواني» بعد تأسيسه لجماعة الإخوان المسلمين، لأنهم يروْن في مؤسِّسهم وإمامهم ومُرشدهم الأوَّل أنه لا يمكنُ أن يذهب نحو شاعرٍ اهتم بشكلٍ أساسيٍّ بالتغزُّل في النساء والخمْر، حتى أطلق عليه «صريع الغواني»، ولا شك أنهم نجحوا في الإخفاءِ والكذب حتى على الرجل الذي قدم الكتاب، والإنكار والحذفِ والشطب والردم والمحو، وهذا دأبُهم في الإقصاء مع الذين معهم ومنهم، أو مع من يختلف معهم في الفكر والمذهب، وقد فعلوا ذلك كثيرًا خلال مسيرتهم وسيرتهم، التي لا تتسمُ بالصدق أو الموضوعية، إذْ شعارها اكذبْ واكسبْ، وراوغْ وناورْ حتى تتمكن، ولا يهم من سيُضار.. وقد مارسوا الإقصاء نفسه مع سيد قطب، إذ استطاعوا أن يُغلِّبوا الجانبَ الدينيَّ على الجانبِ الأدبيِّ في كتبه، رغم أنه بالإحصاء نجد أن كتب سيد قطب الأدبية تفوقُ حصرًا الكتب الدينية، كأنهم يروْن تأليفَ الكتب الأدبية جريمةً أخلاقيةً أو من فعل المُوبقات، ينبغي ألا تقترنَ بالبنا وقطب، وأنهم يعتذرون نيابةً عنهما بشطبها وإغفال ذكرها وعدم الإشارة إليها، أو الإنكار الكُلي لما قدماه من إسهامٍ أدبيٍّ حتى ولو كان من وجهة نظر الدرس النقدي ضعيفًا، ولا يرقى لما قدمه أقرانهما المجايلون لهما من كتَّابٍ وشعراء.
لكن الإخوان دائمًا ما ينسوْن أنه لا أحدَ يستطيعُ أن يجبرَ التاريخَ على النسيان والحذف، أو يُكرهه على أن يشطبَ ما لا يريدونه، رغم امتلاكهم المالَ والنفوذَ في مواقع كثيرةٍ، ولكن الإخوان الشاطبين الحاذفين المُكْرِهِين على النفي نجحوا بنسبٍ كثيرةٍ في عملهم هذا.
فلم يكُن اختيار حسن البنا لديوان «صريع الغواني» اعتباطًا أو محض مصادفة، وإنما جاء عن اقتناعٍ وإيمانٍ بالمُنجزِ الشعريِّ، الذي تركه هذا الشاعر العباسيُّ، وقبل أن يهتم به شخصيًّا كأول مصريٍّ يُقدم على الاحتفاء والاحتفال بإرث مسلم بن الوليد الشعريِّ قبل حسن علوان الذي قدم تحقيقًا آخرَ عام 1949 في مصر، كان قد اهتم به من العرب الأقدمين أبو تمَّام، والجاحظ، وابن قُتيبة، والمُبَرِّد، وابن المعتز، وابن عبد ربه، والقالي، وغيرهم حيث أوردوا مقاطعَ من شعره في بعض كتبهم، لكن حسن البنا نشر ديوانه كاملا في أول اتصالٍ عملي وعلمي له بالأدب، ولكنه نشْرٌ معيوبٌ لم يرق إلى ما سبقه أو ما لحقه في دراسة «صريع الغواني»، إذ لم يجتهد علميًّا في التقديم، واكتفى بالنقل من كتاب الأغاني واعتبرها مقدمة تصرَّف فيها، ولم يُقدِّم لشعر الشاعر أو عصره وحياته والمعاصرين له ومن اهتموا بشعره، حتى إنه لم يذهبْ إلى دار الكتب المصرية؛ ليطَّلع على نُسخ الديوان المحفُوظة وهى أكملُ وأتمُّ وأصحُّ من نسخة الهند، التي طُبعت في مومباي، وجاءت شروحه تعليميةً مدرسيةً، لا تعدو كونها تعريفاتٍ بسيطةً، كأنه يُقدم ديوانًا لتلاميذ مدرسته التي كان يعملُ بها، وليس عملا أدبيًّا كما يفعل مجايلوه من المشتغلين بالتحقيقِ الأدبيِّ.
لم يذكر حسن البنا كلمةً واحدةً عن منهجٍ للتحقيق، ولا لماذا اختار صريع الغواني من بين شعراء كثيرين درسهم وقت أن كان طالبًا في كلية دار العلوم، وما الذي جذبه في شعره، بمعنى أنه ترك طبعة الهند كما هي مع إضافاتٍ قليلة، ولكن يُحمد له أنَّ له سبقًا وإن كان دُون المستوى علميًّا وأكاديميًّا، رغم أنه لم يكن طريَّ العود أو مراهقًا أو مبتدئًا، وعمله هذا يشير إلى أن الرجل لا يحب البحثَ العميقَ، وليس جادًا في العلم، وليس لديه استعدادٌ للتقصِّي وجمع المادة العلمية، ولا الذهاب نحو الدراسات السابقة، أو المقارنات، إذ يحب الاعتماد على الغير، حيث أكمل صنيعه اثنان، متعللا أنه مشغولٌ بجماعة الإخوان المسلمين، ولم يعد لديه وقتٌ ينفقه على «مسلم» وأن جُل وقته صار لـ «المسلمين»، وكان حريًّا به أن يشطبَ اسمه من على الكتاب.
فمن يرجع إلى طبعة سامي الدهان عضو المجمع العلمي العربي بدمشق لديوان «صريع الغواني»، وهى مطبوعةٌ في دار المعارف بمصر، وكان قد انتهى منها عام 1957، ومتاحةٌ على الإنترنت، يدرك أن ما فعله حسن البنا هو عملٌ بدائيٌّ، لا يليق حتى بتلميذٍ في الثانوي.
لماذا ذهب حسن البنا إلى «صريع الغواني» تحديدًا دون غيره من الشعراء؟ لا أحد لديه إجابة مُحددة أو مقاربة، لأنني لم أعثر على زميلٍ مجايلٍ للبنا يقدِّم الإجابة، لكنني أصرُّ وأومنُ دومًا أنني أذهب إلى من يُشبهني ولو في شيءٍ واحدٍ، وليس في كل الأشياء، ولا أقرأ إلا ما أريدُ وأبتغى وأحبُّ، ولا أكتبُ إلا عمَّن أومنُ به وأقتنعُ بإنجازه، ولا أحتفي بأحدٍ لم يؤثِّرْ فيًّ، أو لم يتركْ في رُوحي مكانا فسيحًا، ومن يختار علما ليدرسه أو يحقق كتابا له، أو إرثا تركه، لابد أن هناك إعجابًا خفيًّا بهذا العلم وعالمه، دعنا الآن من التشابه والتماثل والاقتناع والإيمان أو اشتراك الصفات بين الباحثِ والمبحُوث، أو بين الدارس والمدرُوس.
«صريع الغواني» كان كلفا بالهوى، يتبعه في كل مكانٍ، وزير نساء كما تشير إلى ذلك رواياتُ كتاب الأغاني عنه، وكانت تأتيه الجواري إلى بيته كما يقول دعبل بن على الخزاعي، فيرسلُ غلامه في بيع أشيائه، لينفقَ على ذلك حتَّى باع منديله حين أعسر ذات مرة. ويذكر سامي الدهان أن صريع الغواني «كان مُتيَّمًا يغريه الجمال بالفتنة والهوى، وكان يهيمُ بالخمرة والمرأة»، كما تنقل لنا كتبُ التراث أن «صريع الغواني» عاش على المنح والهدايا والأعطيات والأموال التي نالها ويصعب إحصاؤها وحصرها لقاء قصائده في المدح.
سيبقى أمر إقبال البنا على «صريع الغواني» لغزا، كألغازٍ كثيرةٍ لم تفك في تاريخ الإخوان.