في عام 1982، أعلن وزير المالية آنذاك، عبد اللطيف الجواهري (والي بنك المغرب حاليا)، في حوار مع صحيفة "لوماتان" (23 فبراير 1982) أن "الفساد في المغرب ربح مساحات كبيرة، وأصبح راسخا في الأعراف والعادات [...]. ويجب أن تستند مكافحته إلى إرادة سياسية تتخلل جميع مستويات التسلسل الهرمي". والآن بعد مضي أكثر من 41 عاما، ما زال الفساد، حتى اليوم، يكشف عن الاختلال الذي يعتري البناء الاجتماعي بالمغرب، رغم أن الدولة أبدت حرصها على استخدام النظام القضائي والهيئات الرقابية بفعالية لدعم التدابير المتخذة وإعطائها معنى رادعا للفاسدين والمتعاطين للصوصية ونهب المال العام والاختلاس وخيانة الأمانة وسرقة المال العام.
فهل يكفي أن نطلق حملات موسمية لملاحقة (بعض) الفاسدين قضائيا لنعطي الدليل على طهارتنا من الفساد؟ وهل يكفي أن ننظم حملات دعائية لنثبت لأنفسنا بأن الفساد لا قلاع له ولا حصون؟ هل يكفي أن نزج ببعض المنتخبين الكبار (برلمانيون، رؤساء مجالس جماعية، رؤساء جهة، رؤساء مجالس عمالة.. إلخ)، أو مدراء مؤسسات عمومية، في السجن، لنؤكد أن أن السجل العام نظيف ولا تشوبه شائبة؟ هل يكفي أن نشد آذان بعض زعماء الأحزاب أو الوزراء السابقين لنقول إن لا أحد فوق القانون، وأن المؤسسة بالمرصاد للفساد وحراسه ورعاته والمتكسبين من انتشاره؟
بطبيعة الحال، لا يمكن لـ "السلطة القضائية" أن تنجح في مهمة مكافحة الفساد، إلا إذا كانت بالفعل خالية من الحلقات القابلة للتدخل غير المشروع، وخالية من نظام القفز على القواعد القانونية، وبعيدة عن تأثير دوائر القرار السياسي، أي لا ينبغي عليها أن تبني عملها على "نص تنظيمي يعطي الانطباع بأنه يعمل، ولكن لا ينوي واضعوه ولا المسؤولون عن إدارته تطبيقه بالفعل، أو لا يطبقونه إلا إذا كان يخدم مصلحتهم أو مصلحة الفئة التي يدافعون عنها"، كما يقول الفقيه القانوني الأمريكي ميكائيل رايسمان. وقد بينت التجربة الأخيرة كيف تعمل آلة مكافحة الفساد حاليا، إذ يبدو أنها تجنح نحو "الإظهار الدعائي"، بينما تؤكد الوقائع كلها أنها تتعمد إغفال إسقاط (بعض) الرؤوس الكبيرة المشتبه في تورطها في جرائم الفساد.
إن مشكلات الفساد في المغرب ما زالت تثير مخاوف جدية على المستقبل، كما كانت تثيرها في الماضي، ليس على المستوى القضائي أو التشريعي فحسب، بل هى مستوى الكثافة المتفاوتة التي أصبحت للفساد في الأجهزة والمؤسسات، سواء أكانت إدارية أم حزبية أم عمومية. ففي المغرب اليوم، هناك تسامح اجتماعي كبير جدًا مع الفساد، متأثرًا بشعور واسع النطاق بالإفلات من العقاب وعدم المساواة بين المواطنين أمام القانون. وصورة اليوم ليست بأفضل من صورة الأمس؛ ذلك أن جون ووتربري سبق وكتب أن "الفساد في المغرب يطفو بحرية ويتم التلاعب به وتوجيهه والتخطيط له والرغبة فيه"، بينما أثبت الفساد اليوم أنه يجيد إبرام تسويات مع النخبة السياسية، بل أيضا مع وجوه من الإدارة، ومع فئات من النخبة الاقتصادية، وذلك ببناء دعم شخصي للفاسدين، الأمر الذي يمكنهم من استغلال اقتصاد الدولة ومؤسساتها مقابل عمولات مهمة تسمح لهذه النخب بحماية مكاسبها ومصالحها، مما أسفر، في الوقت الراهن، عن بروز مزيج سام من النفوذ المطبوع بالفساد بعد وصول الفاسدين إلى مراكز السلطة، على مستوى التمثيلية البرلمانية، أو على مستوى التدبير الجماعي، بل على مستوى تدبير مجموعة من المؤسسات العمومية الحيوية.
هذا الزواج بين الفئتين (السياسة والمال) هو ما أدى إلى تشويه التنمية، وإلى عرقلة العملية الديمقراطية، عوض بناء المؤسسات ودعم التنافسية النزيهة والشفافة. حيث اتخذ، بشكل عام، شكل اتفاق ضمني أو "تعاقد" للكسب غير المشروع يترسخ على مر الأعوام بشكل سري وتدريجي وتراكمي، ويتغذى على نفسه، وينتج قواعده وآلياته ووسطاءه، بعيدا عن تفاصيل النظام المؤسساتي الذي يقرن المسؤولية بالمحاسبة القانونية.
وإذا كان أي فساد لا يصبح قوة ضارية إلا إذا وجد البيئة الملائمة التي تتيح له السعي إلى الهيمنة على السلطة في كل تجلياتها التشريعية والتنفيذية والقضائية، فإن ما نعاينه حاليا هو أن الفساد ثقيل وهيكلي ومنظم، مما يعطل ويعرقل الرقابة السياسية والقانونية التي من المفترض أن تكافحه وتحد منه. إنه ليس هامشي أو قصير الأمد وتحت السيطرة، بل إن بعض أوجهه تُمارس بكل ثقة وهدوء (تعطيل المشاريع، تحويل الاعتمادات، اللاعدالة المجالية، سوء التدبير المالي، العقود المزورة، العقود الموجهة، سوء توزيع الثروة بنوايا مبيتة..إلخ). كما أن صفقات عمومية كبرى تفلت تدريجيًا من القيود القانونية وتخضع لـ "نظام مختلف" يساعد على ترويج الفساد المتكرر، ويغذي المكاسب غير المشروعة، ويشوه المنافسة الشريفة ويقوض مبدأ تكافؤ الفرص، ويزيد من إنفاق الدولة ويقلل من مواردها بشكل كبير. ويترتب عن مثل هذه الممارسات تراجع مجالات القانون لصالح ترتيبات الظل التي تتغذى على نفسها وتتغلغل في النسيج الاقتصادي والاجتماعي.
وينتهي اللجوء إلى الفساد، في نهاية المطاف، إلى إنتاج معايير تنافس تلك التي يميل القانون إلى فرضها، ويعكس امتداده أشكالا من التعايش بين احترام القانون وعدم الاعتراف الجزئي بآثاره، أي أنه يستدعي الالتزام بقواعد سلوكية خفية، وقيم غير معلنة أصبحت جزءا من الثقافة الاجتماعية بطريقة أو بأخرى.
من الواضح، إذن، أن الفساد في المغرب ينطوي على الكثير من المفارقات:
أولا: يتم التعبير عن رفضه واستنكاره في العلن، لكن يقع الاستسلام له في السلوك اليومي الفعلي، بل يتم تبرير استخدامه، وهو ما يؤثر بشكل عشوائي على جميع مجالات الحياة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والمؤسسية. وليس أدل على ذلك من أن مختلف التقارير والتحليلات والدراسات الاستقصائية، الوطنية والدولية على حد سواء، تشهد بوضوح على تفشي الفساد الذي يبدو أنه لا يستثني أي قطاع.
ثانيا: تثير نتائج التقارير والاستطلاعات المختلفة حول انتشار الفساد في المغرب من جهة، وقوة الخطاب السياسي الذي من المفترض أن يكافحه، من جهة أخرى، عددا من التساؤلات، يمكن أن نطرحها مع محمد الطوزي وبياتريس هيبو في مقال لهما بعنوان "مكافحة الفساد في المغرب/ نحو تعددية الصيغ الحكومية): كيف نفسر الحلقات المختلفة لمكافحة الفساد التي أصبحت الآن مرئية بل تكاد تكون روتينية؟ هل هناك حقاً قطيعة مبرمجة مع الماضي؟ هل هناك نقطة تحول حقيقية في معالجة هذه "الآفة"؟ هل نحن أمام مجرد مشهد مسرحي، أم بصدد استخدام هذا المشهد من قبل السلطة لا تزال قائمة على البيع والشراء والفساد؟
ثالثا: إذا كان الخطاب السياسي المناهض للفساد قويا، فما السر وراء عملية التكيف، التي تجري على قدم وساق، مع الإنتاج اليومي لدعاماته الاجتماعية المتعددة التي غالبًا ما تكون على هامش القانون؟ وبمعنى آخر، ما هو السر في انفصال الرفض السياسي القائم على ربط المسؤولية بالمحاسبة، والقبول الاجتماعي الذي تتطور فيه إمكانيات القيام بما لا يسمح به القانون؟
لقد دأبت منظمات وطنية ودولية على وضع الأصبع على الجرح، لأن الفساد في المغرب مرض قديم، والمؤشرات المقلقة تثبت ذلك. وآخرها مؤشر "مُدركات الفساد" لعام 2023 (CPI). الذي أظهر أن المغرب حصل على 38 نقطة من أصل 100 في مؤشر إدراك الفساد، محتلا الرتبة 97 على المستوى الدولي. كما أن دراسات أخرى كشفت نتائج مثيرة للقلق بالنسبة للمغرب، وسجلت تفشي التداخل بين الشخصيات العامة والمصالح الاقتصادية الخاصة التي تستخدم سلطاتها للتهرب من الضوابط، والحصول على استثناءات، واكتساب قوة سوقية دون أي منافسة، والتهرب من الضرائب، إلخ. كما أشارت إلى مستوى عال من التسامح الاجتماعي والسلوك الفاسد من جانب اللاعبين المعنيين، وضعف الآليات المؤسسية لمكافحته، وضعف الوقاية وانعدام الردع على المدى الطويل.. إلخ، فضلا عن انخفاض معدل احتمال فرض العقوبات. وهنا يقع التساؤل حول الحاجة الملحة للرد السياسي والحلول التي يجب إيجادها، علما أنه لا مناص الآن من قياس عواقب الفساد البعيدة المدى على النسيج الاجتماعي أو على توزيع عوامل الإنتاج أو على جودة عملية صنع القرار العام.
لقد وقّع المغرب على الاتفاقية الأممية لمكافحة الفساد في 9 دجنبر 2003 ونُشرت في الجريدة الرسمية في 17 يناير 2008. وبتوقيعه على الاتفاقية، فإن المغرب يقر، حسب ما جاء في ديباجة الاتفاقية، بأنه يشعر بالقلق "إزاء خطورة المشاكل التي يطرحها الفساد، وما يشكله من تهديد لاستقرار المجتمعات وأمنها، وتقويض المؤسسات والقيم الديمقراطية والقيم الأخلاقية والعدالة، وتعريض التنمية المستدامة وسيادة القانون للخطر". والآن، بعد مرور 16 سنة على دخول الاتفاقية حيز التفعيل، تغير الفساد بشكل كبير، وأولى دستور 2011 مكانة مرموقة للأخلاق العامة (الحكامة العامة، شفافية الانتخابات، التشاور مع الجهات الفاعلة في المجتمع المدني في وضع السياسات العامة وتنفيذها وتنفيذها وتقييمها، حق المواطنين في تقديم اقتراحات تشريعية، الحق في تقديم ملتمسات إلى السلطات العمومية، الحق في الوصول إلى المعلومات، مكافحة تضارب المصالح واستغلال النفوذ، الشفافية والكفاءة في إجراءات التعيين نشر جميع تقارير المجلس الأعلى للحسابات وباقي مجالس الحكامة.. إلخ)، فهل نستطيع القول إن المغرب نجح في بناء إطار مؤسسي لإدارة الشؤون العامة بشفافية؟ خل خرجنا من مرحلة النوايا الحسنة إلى مرحلة تفعيل الالتزام الذي تم إبداؤه على مستوى سياسي رفيع؟ هل وضعنا أساسا قانونيا وتنظيميا قويا لتلبية شروط استعادة الثقة والتغلب على اللامبالاة ومكافحة الإفلات من العقاب الذي يشجع الفساد؟.
تفاصيل أوفى تجدونها في العدد الجديد من أسبوعية " الوطن الآن"