كيف يمنع الفساد المغرب من دخول نادي الدول الصاعدة!

كيف يمنع الفساد المغرب من دخول نادي الدول الصاعدة! مشكلات‭ ‬الفساد‭ ‬في‭ ‬المغرب‭ ‬ما‭ ‬زالت‭ ‬تثير‭ ‬مخاوف‭ ‬جدية‭ ‬على‭ ‬المستقبل
في‭ ‬عام‭ ‬1982،‭ ‬أعلن‭ ‬وزير‭ ‬المالية‭ ‬آنذاك،‭ ‬عبد‭ ‬اللطيف‭ ‬الجواهري‭ ‬(والي‭ ‬بنك‭ ‬المغرب‭ ‬حاليا)،‭ ‬في‭ ‬حوار‭ ‬مع‭ ‬صحيفة‭ ‬"لوماتان" (23 فبراير‭ ‬1982) أن‭ ‬"الفساد‭ ‬في‭ ‬المغرب‭ ‬ربح‭ ‬مساحات‭ ‬كبيرة،‭ ‬وأصبح‭ ‬راسخا‭ ‬في‭ ‬الأعراف‭ ‬والعادات‭ ‬[...]‭. ‬ويجب‭ ‬أن‭ ‬تستند‭ ‬مكافحته‭ ‬إلى‭ ‬إرادة‭ ‬سياسية‭ ‬تتخلل‭ ‬جميع‭ ‬مستويات‭ ‬التسلسل‭ ‬الهرمي"‭. ‬ والآن‭ ‬بعد‭ ‬مضي‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬41‭ ‬عاما،‭ ‬ما‭ ‬زال‭ ‬الفساد،‭ ‬حتى‭ ‬اليوم،‭ ‬يكشف‭ ‬عن‭ ‬الاختلال‭ ‬الذي‭ ‬يعتري‭ ‬البناء‭ ‬الاجتماعي‭ ‬بالمغرب،‭ ‬رغم‭ ‬أن‭ ‬الدولة‭ ‬أبدت‭ ‬حرصها‭ ‬على‭ ‬استخدام‭ ‬النظام‭ ‬القضائي‭ ‬والهيئات‭ ‬الرقابية‭ ‬بفعالية‭ ‬لدعم‭ ‬التدابير‭ ‬المتخذة‭ ‬وإعطائها‭ ‬معنى‭ ‬رادعا‭ ‬للفاسدين‭ ‬والمتعاطين‭ ‬للصوصية‭ ‬ونهب‭ ‬المال‭ ‬العام‭ ‬والاختلاس‭ ‬وخيانة‭ ‬الأمانة‭ ‬وسرقة‭ ‬المال‭ ‬العام‭.‬

فهل‭ ‬يكفي‭ ‬أن‭ ‬نطلق‭ ‬حملات‭ ‬موسمية‭ ‬لملاحقة‭ ‬(بعض)‭ ‬الفاسدين‭ ‬قضائيا‭ ‬لنعطي‭ ‬الدليل‭ ‬على‭ ‬طهارتنا‭ ‬من‭ ‬الفساد؟‭ ‬وهل‭ ‬يكفي‭ ‬أن‭ ‬ننظم‭ ‬حملات‭ ‬دعائية‭ ‬لنثبت‭ ‬لأنفسنا‭ ‬بأن‭ ‬الفساد‭ ‬لا‭ ‬قلاع‭ ‬له‭ ‬ولا‭ ‬حصون؟‭ ‬هل‭ ‬يكفي‭ ‬أن‭ ‬نزج‭ ‬ببعض‭ ‬المنتخبين‭ ‬الكبار‭ ‬(برلمانيون،‭ ‬رؤساء‭ ‬مجالس‭ ‬جماعية،‭ ‬رؤساء‭ ‬جهة،‭ ‬رؤساء‭ ‬مجالس‭ ‬عمالة‭.. ‬إلخ)،‭ ‬أو‭ ‬مدراء‭ ‬مؤسسات‭ ‬عمومية،‭ ‬في‭ ‬السجن،‭ ‬لنؤكد‭ ‬أن‭ ‬أن‭ ‬السجل‭ ‬العام‭ ‬نظيف‭ ‬ولا‭ ‬تشوبه‭ ‬شائبة؟‭ ‬هل‭ ‬يكفي‭ ‬أن‭ ‬نشد‭ ‬آذان‭ ‬بعض‭ ‬زعماء‭ ‬الأحزاب‭ ‬أو‭ ‬الوزراء‭ ‬السابقين‭ ‬لنقول‭ ‬إن‭ ‬لا‭ ‬أحد‭ ‬فوق‭ ‬القانون،‭ ‬وأن‭ ‬المؤسسة‭ ‬بالمرصاد‭ ‬للفساد‭ ‬وحراسه‭ ‬ورعاته‭ ‬والمتكسبين‭ ‬من‭ ‬انتشاره؟
 
بطبيعة‭ ‬الحال،‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬لـ‭ ‬"السلطة‭ ‬القضائية"‭ ‬أن‭ ‬تنجح‭ ‬في‭ ‬مهمة‭ ‬مكافحة‭ ‬الفساد،‭ ‬إلا‭ ‬إذا‭ ‬كانت‭ ‬بالفعل‭ ‬خالية‭ ‬من‭ ‬الحلقات‭ ‬القابلة‭ ‬للتدخل‭ ‬غير‭ ‬المشروع،‭ ‬وخالية‭ ‬من‭ ‬نظام‭ ‬القفز‭ ‬على‭ ‬القواعد‭ ‬القانونية،‭ ‬وبعيدة‭ ‬عن‭ ‬تأثير‭ ‬دوائر‭ ‬القرار‭ ‬السياسي،‭ ‬أي‭ ‬لا‭ ‬ينبغي‭ ‬عليها‭ ‬أن‭ ‬تبني‭ ‬عملها‭ ‬على‭ ‬"نص‭ ‬تنظيمي‭ ‬يعطي‭ ‬الانطباع‭ ‬بأنه‭ ‬يعمل،‭ ‬ولكن‭ ‬لا‭ ‬ينوي‭ ‬واضعوه‭ ‬ولا‭ ‬المسؤولون‭ ‬عن‭ ‬إدارته‭ ‬تطبيقه‭ ‬بالفعل،‭ ‬أو‭ ‬لا‭ ‬يطبقونه‭ ‬إلا‭ ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬يخدم‭ ‬مصلحتهم‭ ‬أو‭ ‬مصلحة‭ ‬الفئة‭ ‬التي‭ ‬يدافعون‭ ‬عنها"،‭ ‬كما‭ ‬يقول‭ ‬الفقيه‭ ‬القانوني‭ ‬الأمريكي‭ ‬ميكائيل‭ ‬رايسمان‭. ‬وقد‭ ‬بينت‭ ‬التجربة‭ ‬الأخيرة‭ ‬كيف‭ ‬تعمل‭ ‬آلة‭ ‬مكافحة‭ ‬الفساد‭ ‬حاليا،‭ ‬إذ‭ ‬يبدو‭ ‬أنها‭ ‬تجنح‭ ‬نحو‭ ‬"الإظهار‭ ‬الدعائي"،‭ ‬بينما‭ ‬تؤكد‭ ‬الوقائع‭ ‬كلها‭ ‬أنها‭ ‬تتعمد‭ ‬إغفال‭ ‬إسقاط‭ ‬(بعض)‭ ‬الرؤوس‭ ‬الكبيرة‭ ‬المشتبه‭ ‬في‭ ‬تورطها‭ ‬في‭ ‬جرائم‭ ‬الفساد‭.‬
 
إن‭ ‬مشكلات‭ ‬الفساد‭ ‬في‭ ‬المغرب‭ ‬ما‭ ‬زالت‭ ‬تثير‭ ‬مخاوف‭ ‬جدية‭ ‬على‭ ‬المستقبل،‭ ‬كما‭ ‬كانت‭ ‬تثيرها‭ ‬في‭ ‬الماضي،‭ ‬ليس‭ ‬على‭ ‬المستوى‭ ‬القضائي‭ ‬أو‭ ‬التشريعي‭ ‬فحسب،‭ ‬بل‭ ‬هى‭ ‬مستوى‭ ‬الكثافة‭ ‬المتفاوتة‭ ‬التي‭ ‬أصبحت‭ ‬للفساد‭ ‬في‭ ‬الأجهزة‭ ‬والمؤسسات،‭ ‬سواء‭ ‬أكانت‭ ‬إدارية‭ ‬أم‭ ‬حزبية‭ ‬أم‭ ‬عمومية‭. ‬ففي‭ ‬المغرب‭ ‬اليوم،‭ ‬هناك‭ ‬تسامح‭ ‬اجتماعي‭ ‬كبير‭ ‬جدًا‭ ‬مع‭ ‬الفساد،‭ ‬متأثرًا‭ ‬بشعور‭ ‬واسع‭ ‬النطاق‭ ‬بالإفلات‭ ‬من‭ ‬العقاب‭ ‬وعدم‭ ‬المساواة‭ ‬بين‭ ‬المواطنين‭ ‬أمام‭ ‬القانون‭. ‬وصورة‭ ‬اليوم‭ ‬ليست‭ ‬بأفضل‭ ‬من‭ ‬صورة‭ ‬الأمس؛‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬جون‭ ‬ووتربري‭ ‬سبق‭ ‬وكتب‭ ‬أن‭ ‬"الفساد‭ ‬في‭ ‬المغرب‭ ‬يطفو‭ ‬بحرية‭ ‬ويتم‭ ‬التلاعب‭ ‬به‭ ‬وتوجيهه‭ ‬والتخطيط‭ ‬له‭ ‬والرغبة‭ ‬فيه"،‭ ‬بينما‭ ‬أثبت‭ ‬الفساد‭ ‬اليوم‭ ‬أنه‭ ‬يجيد‭ ‬إبرام‭ ‬تسويات‭ ‬مع‭ ‬النخبة‭ ‬السياسية،‭ ‬بل‭ ‬أيضا‭ ‬مع‭ ‬وجوه‭ ‬من‭ ‬الإدارة،‭ ‬ومع‭ ‬فئات‭ ‬من‭ ‬النخبة‭ ‬الاقتصادية،‭ ‬وذلك‭ ‬ببناء‭ ‬دعم‭ ‬شخصي‭ ‬للفاسدين،‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬يمكنهم‭ ‬من‭ ‬استغلال‭ ‬اقتصاد‭ ‬الدولة‭ ‬ومؤسساتها‭ ‬مقابل‭ ‬عمولات‭ ‬مهمة‭ ‬تسمح‭ ‬لهذه‭ ‬النخب‭ ‬بحماية‭ ‬مكاسبها‭ ‬ومصالحها،‭ ‬مما‭ ‬أسفر،‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬الراهن،‭ ‬عن‭ ‬بروز‭ ‬مزيج‭ ‬سام‭ ‬من‭ ‬النفوذ‭ ‬المطبوع‭ ‬بالفساد‭ ‬بعد‭ ‬وصول‭ ‬الفاسدين‭ ‬إلى‭ ‬مراكز‭ ‬السلطة،‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬التمثيلية‭ ‬البرلمانية،‭ ‬أو‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬التدبير‭ ‬الجماعي،‭ ‬بل‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬تدبير‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬المؤسسات‭ ‬العمومية‭ ‬الحيوية‭.‬
 
هذا‭ ‬الزواج‭ ‬بين‭ ‬الفئتين‭ ‬(السياسة‭ ‬والمال)‭ ‬هو‭ ‬ما‭ ‬أدى‭ ‬إلى‭ ‬تشويه‭ ‬التنمية،‭ ‬وإلى‭ ‬عرقلة‭ ‬العملية‭ ‬الديمقراطية،‭ ‬عوض‭ ‬بناء‭ ‬المؤسسات‭ ‬ودعم‭ ‬التنافسية‭ ‬النزيهة‭ ‬والشفافة‭. ‬حيث‭ ‬اتخذ،‭ ‬بشكل‭ ‬عام،‭ ‬شكل‭ ‬اتفاق‭ ‬ضمني‭ ‬أو‭ ‬"تعاقد"‭ ‬للكسب‭ ‬غير‭ ‬المشروع‭ ‬يترسخ‭ ‬على‭ ‬مر‭ ‬الأعوام‭ ‬بشكل‭ ‬سري‭ ‬وتدريجي‭ ‬وتراكمي،‭ ‬ويتغذى‭ ‬على‭ ‬نفسه،‭ ‬وينتج‭ ‬قواعده‭ ‬وآلياته‭ ‬ووسطاءه،‭ ‬بعيدا‭ ‬عن‭ ‬تفاصيل‭ ‬النظام‭ ‬المؤسساتي‭ ‬الذي‭ ‬يقرن‭ ‬المسؤولية‭ ‬بالمحاسبة‭ ‬القانونية‭. ‬
 
وإذا‭ ‬كان‭ ‬أي‭ ‬فساد‭ ‬لا‭ ‬يصبح‭ ‬قوة‭ ‬ضارية‭ ‬إلا‭ ‬إذا‭ ‬وجد‭ ‬البيئة‭ ‬الملائمة‭ ‬التي‭ ‬تتيح‭ ‬له‭ ‬السعي‭ ‬إلى‭ ‬الهيمنة‭ ‬على‭ ‬السلطة‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬تجلياتها‭ ‬التشريعية‭ ‬والتنفيذية‭ ‬والقضائية،‭ ‬فإن‭ ‬ما‭ ‬نعاينه‭ ‬حاليا‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬الفساد‭ ‬ثقيل‭ ‬وهيكلي‭ ‬ومنظم،‭ ‬مما‭ ‬يعطل‭ ‬ويعرقل‭ ‬الرقابة‭ ‬السياسية‭ ‬والقانونية‭ ‬التي‭ ‬من‭ ‬المفترض‭ ‬أن‭ ‬تكافحه‭ ‬وتحد‭ ‬منه‭. ‬إنه‭ ‬ليس‭ ‬هامشي‭ ‬أو‭ ‬قصير‭ ‬الأمد‭ ‬وتحت‭ ‬السيطرة،‭ ‬بل‭ ‬إن‭ ‬بعض‭ ‬أوجهه‭ ‬تُمارس‭ ‬بكل‭ ‬ثقة‭ ‬وهدوء‭ ‬(تعطيل‭ ‬المشاريع،‭ ‬تحويل‭ ‬الاعتمادات،‭ ‬اللاعدالة‭ ‬المجالية،‭ ‬سوء‭ ‬التدبير‭ ‬المالي،‭ ‬العقود‭ ‬المزورة،‭ ‬العقود‭ ‬الموجهة،‭ ‬سوء‭ ‬توزيع‭ ‬الثروة‭ ‬بنوايا‭ ‬مبيتة‭..‬إلخ)‭. ‬كما‭ ‬أن‭ ‬صفقات‭ ‬عمومية‭ ‬كبرى‭ ‬تفلت‭ ‬تدريجيًا‭ ‬من‭ ‬القيود‭ ‬القانونية‭ ‬وتخضع‭ ‬لـ‭ ‬"نظام‭ ‬مختلف"‭ ‬يساعد‭ ‬على‭ ‬ترويج‭ ‬الفساد‭ ‬المتكرر،‭ ‬ويغذي‭ ‬المكاسب‭ ‬غير‭ ‬المشروعة،‭ ‬ويشوه‭ ‬المنافسة‭ ‬الشريفة‭ ‬ويقوض‭ ‬مبدأ‭ ‬تكافؤ‭ ‬الفرص،‭ ‬ويزيد‭ ‬من‭ ‬إنفاق‭ ‬الدولة‭ ‬ويقلل‭ ‬من‭ ‬مواردها‭ ‬بشكل‭ ‬كبير‭. ‬ويترتب‭ ‬عن‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬الممارسات‭ ‬تراجع‭ ‬مجالات‭ ‬القانون‭ ‬لصالح‭ ‬ترتيبات‭ ‬الظل‭ ‬التي‭ ‬تتغذى‭ ‬على‭ ‬نفسها‭ ‬وتتغلغل‭ ‬في‭ ‬النسيج‭ ‬الاقتصادي‭ ‬والاجتماعي‭. ‬
 
وينتهي‭ ‬اللجوء‭ ‬إلى‭ ‬الفساد،‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬المطاف،‭ ‬إلى‭ ‬إنتاج‭ ‬معايير‭ ‬تنافس‭ ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬يميل‭ ‬القانون‭ ‬إلى‭ ‬فرضها،‭ ‬ويعكس‭ ‬امتداده‭ ‬أشكالا‭ ‬من‭ ‬التعايش‭ ‬بين‭ ‬احترام‭ ‬القانون‭ ‬وعدم‭ ‬الاعتراف‭ ‬الجزئي‭ ‬بآثاره،‭ ‬أي‭ ‬أنه‭ ‬يستدعي‭ ‬الالتزام‭ ‬بقواعد‭ ‬سلوكية‭ ‬خفية،‭ ‬وقيم‭ ‬غير‭ ‬معلنة‭ ‬أصبحت‭ ‬جزءا‭ ‬من‭ ‬الثقافة‭ ‬الاجتماعية‭ ‬بطريقة‭ ‬أو‭ ‬بأخرى‭.‬
 
من‭ ‬الواضح،‭ ‬إذن،‭ ‬أن‭ ‬الفساد‭ ‬في‭ ‬المغرب‭ ‬ينطوي‭ ‬على‭ ‬الكثير‭  ‬من‭ ‬المفارقات:‭ ‬
 
أولا:‭ ‬يتم‭ ‬التعبير‭ ‬عن‭ ‬رفضه‭ ‬واستنكاره‭ ‬في‭ ‬العلن،‭   ‬لكن‭ ‬يقع‭ ‬الاستسلام‭ ‬له‭ ‬في‭ ‬السلوك‭ ‬اليومي‭ ‬الفعلي،‭ ‬بل‭ ‬يتم‭ ‬تبرير‭ ‬استخدامه،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يؤثر‭ ‬بشكل‭ ‬عشوائي‭ ‬على‭ ‬جميع‭ ‬مجالات‭ ‬الحياة‭ ‬الاقتصادية‭ ‬والسياسية‭ ‬والاجتماعية‭ ‬والمؤسسية‭. ‬وليس‭ ‬أدل‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬مختلف‭ ‬التقارير‭ ‬والتحليلات‭ ‬والدراسات‭ ‬الاستقصائية،‭ ‬الوطنية‭ ‬والدولية‭ ‬على‭ ‬حد‭ ‬سواء،‭ ‬تشهد‭ ‬بوضوح‭ ‬على‭ ‬تفشي‭ ‬الفساد‭ ‬الذي‭ ‬يبدو‭ ‬أنه‭ ‬لا‭ ‬يستثني‭ ‬أي‭ ‬قطاع‭. ‬

ثانيا:‭ ‬تثير‭ ‬نتائج‭  ‬التقارير‭ ‬والاستطلاعات‭ ‬المختلفة‭ ‬حول‭ ‬انتشار‭ ‬الفساد‭ ‬في‭ ‬المغرب‭ ‬من‭ ‬جهة،‭ ‬وقوة‭ ‬الخطاب‭ ‬السياسي‭ ‬الذي‭ ‬من‭ ‬المفترض‭ ‬أن‭ ‬يكافحه،‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬أخرى،‭ ‬عددا‭ ‬من‭ ‬التساؤلات،‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬نطرحها‭ ‬مع‭ ‬محمد‭ ‬الطوزي‭ ‬وبياتريس‭ ‬هيبو‭ ‬في‭ ‬مقال‭ ‬لهما‭ ‬بعنوان‭ ‬"مكافحة‭ ‬الفساد‭ ‬في‭ ‬المغرب/‭ ‬نحو‭ ‬تعددية‭ ‬الصيغ‭ ‬الحكومية):‭ ‬كيف‭ ‬نفسر‭ ‬الحلقات‭ ‬المختلفة‭ ‬لمكافحة‭ ‬الفساد‭ ‬التي‭ ‬أصبحت‭ ‬الآن‭ ‬مرئية‭ ‬بل‭ ‬تكاد‭ ‬تكون‭ ‬روتينية؟‭ ‬هل‭ ‬هناك‭ ‬حقاً‭ ‬قطيعة‭ ‬مبرمجة‭ ‬مع‭ ‬الماضي؟‭ ‬هل‭ ‬هناك‭ ‬نقطة‭ ‬تحول‭ ‬حقيقية‭ ‬في‭ ‬معالجة‭ ‬هذه‭ ‬"الآفة"؟‭ ‬هل‭ ‬نحن‭ ‬أمام‭ ‬مجرد‭ ‬مشهد‭ ‬مسرحي،‭ ‬أم‭ ‬بصدد‭ ‬استخدام‭ ‬هذا‭ ‬المشهد‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬السلطة‭ ‬لا‭ ‬تزال‭ ‬قائمة‭ ‬على‭ ‬البيع‭ ‬والشراء‭ ‬والفساد؟

ثالثا:‭ ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬الخطاب‭ ‬السياسي‭ ‬المناهض‭ ‬للفساد‭ ‬قويا،‭ ‬فما‭ ‬السر‭ ‬وراء‭ ‬عملية‭ ‬التكيف،‭ ‬التي‭ ‬تجري‭ ‬على‭ ‬قدم‭ ‬وساق،‭ ‬مع‭ ‬الإنتاج‭ ‬اليومي‭ ‬لدعاماته‭ ‬الاجتماعية‭ ‬المتعددة‭ ‬التي‭ ‬غالبًا‭ ‬ما‭ ‬تكون‭ ‬على‭ ‬هامش‭ ‬القانون؟‭ ‬وبمعنى‭ ‬آخر،‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬السر‭ ‬في‭ ‬انفصال‭ ‬الرفض‭ ‬السياسي‭ ‬القائم‭ ‬على‭ ‬ربط‭ ‬المسؤولية‭ ‬بالمحاسبة،‭ ‬والقبول‭ ‬الاجتماعي‭ ‬الذي‭ ‬تتطور‭ ‬فيه‭ ‬إمكانيات‭ ‬القيام‭ ‬بما‭ ‬لا‭ ‬يسمح‭ ‬به‭ ‬القانون؟
 
لقد‭ ‬دأبت‭ ‬منظمات‭ ‬وطنية‭ ‬ودولية‭ ‬على‭ ‬وضع‭ ‬الأصبع‭ ‬على‭ ‬الجرح،‭ ‬لأن‭ ‬الفساد‭ ‬في‭ ‬المغرب‭ ‬مرض‭ ‬قديم،‭ ‬والمؤشرات‭ ‬المقلقة‭ ‬تثبت‭ ‬ذلك‭. ‬وآخرها‭ ‬مؤشر‭ ‬"مُدركات‭ ‬الفساد"‭ ‬لعام ‭ ‬2023 (CPI). الذي‭ ‬أظهر‭ ‬أن‭ ‬المغرب‭ ‬حصل‭ ‬على‭ ‬38‭ ‬نقطة‭ ‬من‭ ‬أصل‭ ‬100‭ ‬في‭ ‬مؤشر‭ ‬إدراك‭ ‬الفساد،‭ ‬محتلا‭ ‬الرتبة‭ ‬97‭ ‬على‭ ‬المستوى‭ ‬الدولي‭. ‬كما‭ ‬أن‭ ‬دراسات‭ ‬أخرى‭ ‬كشفت‭ ‬نتائج‭ ‬مثيرة‭ ‬للقلق‭ ‬بالنسبة‭ ‬للمغرب،‭ ‬وسجلت‭ ‬تفشي‭ ‬التداخل‭ ‬بين‭ ‬الشخصيات‭ ‬العامة‭ ‬والمصالح‭ ‬الاقتصادية‭ ‬الخاصة‭ ‬التي‭ ‬تستخدم‭ ‬سلطاتها‭ ‬للتهرب‭ ‬من‭ ‬الضوابط،‭ ‬والحصول‭ ‬على‭ ‬استثناءات،‭ ‬واكتساب‭ ‬قوة‭ ‬سوقية‭ ‬دون‭ ‬أي‭ ‬منافسة،‭ ‬والتهرب‭ ‬من‭ ‬الضرائب،‭ ‬إلخ‭. ‬كما‭ ‬أشارت‭ ‬إلى‭ ‬مستوى‭ ‬عال‭ ‬من‭ ‬التسامح‭ ‬الاجتماعي‭ ‬والسلوك‭ ‬الفاسد‭ ‬من‭ ‬جانب‭ ‬اللاعبين‭ ‬المعنيين،‭ ‬وضعف‭ ‬الآليات‭ ‬المؤسسية‭ ‬لمكافحته،‭ ‬وضعف‭ ‬الوقاية‭ ‬وانعدام‭ ‬الردع‭ ‬على‭ ‬المدى‭ ‬الطويل‭.. ‬إلخ،‭ ‬فضلا‭ ‬عن‭ ‬انخفاض‭ ‬معدل‭ ‬احتمال‭ ‬فرض‭ ‬العقوبات‭. ‬وهنا‭ ‬يقع‭ ‬التساؤل‭ ‬حول‭ ‬الحاجة‭ ‬الملحة‭ ‬للرد‭ ‬السياسي‭ ‬والحلول‭ ‬التي‭ ‬يجب‭ ‬إيجادها،‭ ‬علما‭ ‬أنه‭ ‬لا‭ ‬مناص‭ ‬الآن‭ ‬من‭ ‬قياس‭ ‬عواقب‭ ‬الفساد‭ ‬البعيدة‭ ‬المدى‭ ‬على‭ ‬النسيج‭ ‬الاجتماعي‭ ‬أو‭ ‬على‭ ‬توزيع‭ ‬عوامل‭ ‬الإنتاج‭ ‬أو‭ ‬على‭ ‬جودة‭ ‬عملية‭ ‬صنع‭ ‬القرار‭ ‬العام‭. ‬
 
لقد‭ ‬وقّع‭ ‬المغرب‭ ‬على‭ ‬الاتفاقية‭ ‬الأممية‭ ‬لمكافحة‭ ‬الفساد‭ ‬في‭ ‬9‭ ‬دجنبر‭ ‬2003‭ ‬ونُشرت‭ ‬في‭ ‬الجريدة‭ ‬الرسمية‭ ‬في‭ ‬17‭ ‬يناير‭ 2008‬. ‬وبتوقيعه‭ ‬على‭ ‬الاتفاقية،‭ ‬فإن‭ ‬المغرب‭ ‬يقر،‭ ‬حسب‭ ‬ما‭ ‬جاء‭ ‬في‭ ‬ديباجة‭ ‬الاتفاقية،‭ ‬بأنه‭ ‬يشعر‭ ‬بالقلق‭ ‬"إزاء‭ ‬خطورة‭ ‬المشاكل‭ ‬التي‭ ‬يطرحها‭ ‬الفساد،‭ ‬وما‭ ‬يشكله‭ ‬من‭ ‬تهديد‭ ‬لاستقرار‭ ‬المجتمعات‭ ‬وأمنها،‭ ‬وتقويض‭ ‬المؤسسات‭ ‬والقيم‭ ‬الديمقراطية‭ ‬والقيم‭ ‬الأخلاقية‭ ‬والعدالة،‭ ‬وتعريض‭ ‬التنمية‭ ‬المستدامة‭ ‬وسيادة‭ ‬القانون‭ ‬للخطر"‭. ‬والآن،‭ ‬بعد‭ ‬مرور‭ ‬16‭ ‬سنة‭ ‬على‭ ‬دخول‭ ‬الاتفاقية‭ ‬حيز‭ ‬التفعيل،‭ ‬تغير‭ ‬الفساد‭ ‬بشكل‭ ‬كبير،‭ ‬وأولى‭ ‬دستور‭ ‬2011‭ ‬مكانة‭ ‬مرموقة‭ ‬للأخلاق‭ ‬العامة‭ ‬(الحكامة‭ ‬العامة،‭ ‬شفافية‭ ‬الانتخابات،‭ ‬التشاور‭ ‬مع‭ ‬الجهات‭ ‬الفاعلة‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭ ‬المدني‭ ‬في‭ ‬وضع‭ ‬السياسات‭ ‬العامة‭ ‬وتنفيذها‭ ‬وتنفيذها‭ ‬وتقييمها،‭ ‬حق‭ ‬المواطنين‭ ‬في‭ ‬تقديم‭ ‬اقتراحات‭ ‬تشريعية،‭ ‬الحق‭ ‬في‭ ‬تقديم‭ ‬ملتمسات‭ ‬إلى‭ ‬السلطات‭ ‬العمومية،‭ ‬الحق‭ ‬في‭ ‬الوصول‭ ‬إلى‭ ‬المعلومات،‭  ‬مكافحة‭ ‬تضارب‭ ‬المصالح‭ ‬واستغلال‭ ‬النفوذ،‭ ‬الشفافية‭ ‬والكفاءة‭ ‬في‭ ‬إجراءات‭ ‬التعيين‭  ‬نشر‭ ‬جميع‭ ‬تقارير‭ ‬المجلس‭ ‬الأعلى‭ ‬للحسابات‭ ‬وباقي‭ ‬مجالس‭ ‬الحكامة‭.. ‬إلخ)،‭ ‬فهل‭ ‬نستطيع‭ ‬القول‭ ‬إن‭ ‬المغرب‭ ‬نجح‭ ‬في‭ ‬بناء‭ ‬إطار‭ ‬مؤسسي‭ ‬لإدارة‭ ‬الشؤون‭ ‬العامة‭ ‬بشفافية؟‭ ‬خل‭ ‬خرجنا‭ ‬من‭ ‬مرحلة‭ ‬النوايا‭ ‬الحسنة‭  ‬إلى‭ ‬مرحلة‭ ‬تفعيل‭ ‬الالتزام‭ ‬الذي‭ ‬تم‭ ‬إبداؤه‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬سياسي‭ ‬رفيع؟‭ ‬هل‭ ‬وضعنا‭ ‬أساسا‭ ‬قانونيا‭ ‬وتنظيميا‭ ‬قويا‭ ‬لتلبية‭ ‬شروط‭ ‬استعادة‭ ‬الثقة‭ ‬والتغلب‭ ‬على‭ ‬اللامبالاة‭ ‬ومكافحة‭ ‬الإفلات‭ ‬من‭ ‬العقاب‭ ‬الذي‭ ‬يشجع‭ ‬الفساد؟.
تفاصيل أوفى تجدونها في العدد الجديد من أسبوعية " الوطن الآن"
رابط العدد هنا