لا أحد يجادل في أن إيران استطاعت أن تصل بعد جهود مضنية إلى احتكار الحديث باسم الشيعة عبر العالم. ورغم أنها دستوريا دولة جعفرية أو اثنا عشرية المذهب؛ إلا أن الجمهورية الإسلامية تمكنت من إشاعة انطباع يكاد أن يكون صحيحا مائة بالمائة خاصة في العالم العربي بأنها حاملة مشعل الدفاع عن شيعة العالم أيا تكن مذاهبهم، زيديون كانوا أم إسماعيليون، ناهيك عن النصيريين العلويين في سوريا، الذين باتت راعيهم الأول.
وقد وصلت إيران إلى هذه المبتغى بفضل استثمارات كبيرة سياسيا وماليا وإعلاميا وجدت سندها القانوني في دستور البلاد، الذي يعتبر الدفاع عن المستضعفين في العالم واجبا مقدسا حسب منطوق البند 16 من المادة 3 من الدستور، الذي تم وضعه بعد انتصار الثورة الخمينية. والمستضعفون في القاموس الشيعي هم شيعة آل البيت الذين يروج الإعلام الإيراني أنهم كانوا عرضة للتنكيل بهم من مختلف الممالك والأنظمة السنية منذ عهد بني أمية.
وتنفيذا لمقتضيات هذا البند، وبحثا عن هوية الدولة، وعن مجال أوسع لنفوذها، ورغبة في إحياء الأمجاد الفارسية، ولو برداء ديني، عكفت السلطات الإيرانية منذ اختطاف رجال الدين للثورة ضد الشاه على ربط الاتصالات بكل التجمعات الشيعية في العالم العربي والإسلامي وفي باقي دول العالم، أينما كان بمستطاعها ذلك، مركزة بصفة خاصة على محيطها الجغرافي القريب، عاملة على توظيف هذا المعطى في تدعيم موقعها في المنطقة ليس كدولة مهمة فقط، وإنما كالدولة الأهم فيها.
ولذلك فإن من دان من هذه التجمعات وزعمائها بالولاء لقائد الثورة وقدم فروض الطاعة للولي الفقيه، وامتثل لتعليمات الحرس الثوري جرى دعمه وتقويته، كما حصل مع حزب الله في لبنان، الذي تأسس برعاية ودعم إيرانيين ليغدو الممثل الشرعي والناطق الرسمي باسم شيعة لبنان على حساب حركة أمل التي كانت زمن الإمام موسى الصدر تدعي هذا التمثيل، ومع الحوثيين في شمال اليمن رغم أنهم زيدية، إضافة إلى حزب الدعوة الإسلامية في العراق، الذي تم تمكينه من حكم بغداد حكما فرديا لمدة ثماني سنوات بواسطة السيد نوري المالكي، الذي اضطرت طهران إلى التخلي عنه مكرهة بعد سياساته الفاشلة والتمييزية التي استغلتها داعش للتمدد في المناطق السنية العراقية، وبعد أن عوضته بشخصية من ذات المنهل، وتمكنت من تحقيق اهتراق في كردستان عندما بادرت لمساعدتها في مواجهة داعش.
وقد خول هذا الأمر لقيادات إيرانية عسكرية بصفة خاصة الحديث دون خجل ودون مواربة عن مجال حيوي لإيران يصل إلى شواطئ البحر الأبيض المتوسط، مذكرة بأنها تمكنت من استنساخ تجربة الحرس الثوري وقوات التعبئة "الباسيج" في الكثير من المناطق والدول حسب تصريح منسوب للواء محمد علي جعفري قائد الحرس الثوري.
أما التنظيمات والشخصيات والمرجعيات الشيعية التي رفضت الانصياع لإيران، وتشبثت باستقلاليتها الفكرية ومراجعها التقليدية بعيدا عن ولاية الفقيه؛ بل وقامت أحيانا بالطعن في الأسس الشرعية والدينية لهذه الأخيرة فتم تحييدها أو تصفيتها. وفي مصير العديد من المراجع الشيعية في لبنـان والعـراق خير دليل على ذلك، ناهيك عن التحجيم، والتهميـش، والمتابعـة القضائية، التي طالـت
مراجع تقليـد بارزة داخـل إيران نفسهـا مثلما كان مصير آية الله العظمـى شريعة مداري الذي عـارض ولاية الفقيه زمن الإمام الخميني فتم اتهامه سنة 1983 بمؤامرة قلب نظام الحكم، وتم فرض الإقامة الجبرية عليه إلى أن توفي سنة 1986.
ولم يكن بمقدور إيران أن تنتزع الريادة الشيعية وتوظف المذهب وطوائفه في سياق طموحاتها وأطماعها الخارجية لو لم تستغل بدهاء في هذا المجال أخطاء عدد من القادة العرب الذين توجد ببلدانهم تجمعات شيعية كبيرة تمثل أغلبية السكان، والذين عملوا على تهميش وتصفية قيادات روحية ومراجع تقليد شيعية كبيرة.
ولعل المثال الدامغ في هذا الإطار هو ما حصل لمراجع التقليد الشيعية زمن حكم حزب البعث وصدام حسين في العراق؛ الأمر الذي سهل انتقال الثقل الشيعي من مركز النجف العربية إلى مدينة قم الفارسية، وساعد في انحسار عدد مراجع التقليد العليا "آية الله العظمى" العربية لفائدة تزايد مراجع التقليد الفارسية وغيرها من الجنسيات الآسيوية، رغم أن التشيع في أصله عربي، وتطور من موقف سياسي في بداية الأمر إلى مذهب ديني متكامل على يد فقهاء وعلماء عرب قبل أن يدخل المجال دارسون من الفرس، والأقوام الإسلامية الأخرى.
إن تهميش التشيع العربي على يد أنظمة عربية فسح المجال واسعا أمام مرجعيات قم، وفي مقدمتها الإمام الخميني لتسجيل انتصار كاسح لفائدة الاثنا عشرية الأصولية المجتهدة على الإثنا عشرية الأخبارية بعد أن استطاعت الأولى تطوير نظرية النيابة العامة عن "الإمام الغائب" ونقلها إلى مرحلة ولاية الفقيه التي تقوم على أساس منطق كلامي جديد يحتم قيام الدولة في عصر الغيبة كضرورة اجتماعية، خلافا لما كان العديد من الشيوخ يرددونه عن أن كل راية تخرج قبل ظهور المهدي فهي راية ضلالة وصاحبها طاغوت.
ومما لا شك فيه، فإن نظرية ولاية الفقيه حلت إشكالية السلبية السياسية التي سقط الشيعة فيها نتيجة نظرية الانتظار. ولكن مكمن الخطورة فيها أنها لا تلقي بظلالها على نظام القيم داخل المجتمع الإيراني فحسب، وإنما تقيد تفاعلات نظامه السياسي وحركة مؤسساته أيضا من دون حتى اشتراط أن تتوفر في الإمام المعاصر شروط العصمة والنص والنسب العلوي الحسيني الشريف؛ الأمر الذي حول السلطة إلى ديكتاتورية مطلقة حيث كل السلطات تنبثق عن المرشد الأعلى وإليه تعود.
ورغم الهيمنة التي فرضتها ولاية الفقيه على المجتمع الإيراني باستيعابها للبعدين الديني والسياسي، فإنها ساهمت في تأجيج التفرقة داخله، ما جعل العديد من المفكرين والباحثين ومن داخل المؤسسة الدينية نفسها ينادون بالتغيير، والقيام بمحاولات جادة في هذا الاتجاه لعل أبرزها محاولات الرئيس الإصلاحي الأسبق محمد خاتمي الذي سعى أكثر من مرة إلى إلغاء المادة 110 من الدستور المتعلقة بصلاحيات المرشد الأعلى من خلال البرلمان، فضلا عن تبرم فئات شبابية واسعة من إطباق رجال الدين على المجتمع.
وقد تم التعبير عن هذا التبرم من خلال المظاهرات التي اندلعت في البلاد في أعقاب الانتخابات الرئاسية سنـة 2009، التي تم التزويـر فيها بشكل فاضح لفائدة فوز الرئيس السابـق محمـود أحمـدي نجاد بولاية ثانية. ولم يخجل اللواء محمد علي جعفري من التذكير مؤخرا بأن كتائب عاشوراء وكتائب الإمام علي ضمن الحرس الثوري كان لها الفضل في إجهاض "فتنة الإصلاحيين" سنة 2009.
ورغم نكسة تلك الانتفاضة، فإنها تشي بأن تيارات مدنية وأخرى دينية أكثر اعتدالا تعتمل داخل المجتمع الإيراني لبلورة رأي عام مناهض للسلطة المطلقة لولاية الفقيه التي تضرب الديمقراطية والحرية في مقتل. وبديهي أن يكون المجتمع الإيراني المعروف بتنوعه العرقي والإثني والديني وبحيويته قد تأثر بمجريات الربيع العربي على غرار تأثر قياداته السياسية والعسكرية التي رغم تهليلها لهذا الربيع في البداية عندما اندلع في محيط إيران الذي تراه معاديا لها ومتآمرا عليها، سرعان ما بدأت تتوجس من تبعاته؛ لاسيما بعد أن اشتعلت النيران في تلابيب هلالها الشيعي الشرق أوسطي، وفي واسطة عقده سوريا، مما شكل تهديدا جديا لكل استثماراتها على مدى العقود الماضية.
ولذلك، رغم الصوت الصاخب، وما تقوم به من تدخلات في الشؤون الداخلية للعديد من الدول العربية، وعلى عكس ما تريد أن توحي به، فإن إيران توجد في موقف دفاعي الآن، لأن هلالها العتيد مهدد جديا بالانفراط. والفرصة مواتية حاليا للعمل من أجل إعادتها إلى حدودها الطبيعية، ولجم تغلغلها في أوساط الشيعة العرب، بل والتأثير في داخل أوساط مجتمعها نفسه الغاضب والناقم بسبب تردي الوضع الاقتصادي، وخاصة فئة الشباب التي كما يقول أنطوان بصبوص في كتابه باللغة الفرنسية "التسونامي العربي" تشعر بالحسرة والغيرة عند إجراء المقارنة بين المدن الإيرانية البئيسة ونظيرتها العربية على الشاطئ الآخر من الخليج.
ولتحقيق ذلك، فالمطلوب اتخاذ مجموعة إجراءات سياسية ودينية وفكرية واقتصادية واجتماعية وإعلامية متكاملة بعضها يمكن أن يعطي مردودا عاجلا على المدى المنظور، والبعض الآخر يتطلب نفسا طويلا، فضلا عن إدماجه في استراتيجية شاملة على المدى البعيد، وذلك كما يلي:
1/ لا ينبغي أن تقتصر مطالبة إيران بإبداء نوايا حسن الجوار والرغبة في التعاون المفيد لها ولجيرانها العرب من خلال تصريحات مسؤوليها فقط. فالتجارب أثبتت أن معظم هذه التصريحات هي للاستهلاك الإعلامي، وتتناقض فيما بينها. إن أول خطوة يجـب على إيران القيام بها هي إلغاء البند 16 من المادة 3 من الدستور وكافة النصوص القانونية المنبثقة عنه، والتي تبيح أو تشجع على التدخل في شؤون الغير، وتجعل منه واجبا دستوريا ودينيا أيضا.
2/ التركيز على إبراز النفس الطائفي في الدستور الإيراني نفسه الذي لا يعترف في مادته 13 سوى بالزراديشت واليهود والمسيحيين كأقليات دينية، فيما يقر فقط باحترام المذاهب الإسلامية الأخرى وذلك بعد أن ينصص على المذهب الجعفري الاثنا عشري مذهبا رسميا للدولة غير قابل للتغيير إلى الأبد (المادة 12).
3/ محاربة الشعور المبالغ فيه بالتمييز الذي تربى داخل أوساط الشيعة العرب، والتركيز على إذكاء روح المواطنة فيهم بدل تركهم يحتمون وراء الانتماءات الدنيا، وذلك من خلال دمجهم في كافة المؤسسات، وإسناد مسؤوليات وطنية لهم ولو بالتدريج في سياق ترسيخ جسور الثقة بين كافة مكونات الشعوب.
4/ العمل في مجال التربية والتعليـم والتكوين الديني والفقهي من أجـل تصعيـد مراجع تقليـد دينية "آيات الله العظمى" من أوساط الشيعة العرب أنفسهم بدل أن يظل هؤلاء في مستوى الوكلاء للمراجع الفارسية وغيرها. ألم يكن من المفيد ربط التواصل مع المرجع الديني آية الله محمود الحسني الصرخي في كربلاء، الذي تؤيده صراحة هيئة العلماء المسلمين السنية بالعراق على أساس أنه تصدى للهيمنة الأمريكية بعد الاحتلال، ويتصدى اليوم للهيمنة الإيرانية، ما جعل رئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي يعتبره من دواعش الشيعة.
ومن المستحسن في هذا السياق الاسترشاد بأبرز جوانب التجربة التي كانت قد بدأت على خجل في البحرين مع الشيخ سليمان المدني رحمه الله رغم محدوديتها في الزمان والمكان، والتي ربما كانت ستشكل لبنة أولى يمكن الاقتداء بها في عمل ضخم كهذا.
إن خطوة كهذه يمكن أن تساعد في إضفاء نوع من الشفافية على أهم مصدر تمويل ذاتي لدى الشيعة وهو الخمس الذي دائما ما تتوجس قيادات دول الخليج من حجمه ومجالات صرفه، خاصة بعد رصد تمويل حركات معارضة لها منه.
والواجب أن يتم ذلك بالتوازي مع إحياء المرجعيات المرتبطة يالمدارس الأخبارية، التي عملت عبر التاريخ على:
* تسفيه تدخل الاجتهاد الفقهي الشيعي في السياسة بالتأكيد على أن أصول الأحكام ثلاثة فقط هي الكتاب والسنة النبوية وأقوال الأئمة.
*ضمان صورة نقية عن الفقهاء تنزههم عن الشبهات التي تلتصق بهم من دوافع المتغيرات السياسية.
* المحافظة على الأصالة النظرية الشيعية وفقا للنصوص المنقولة عن الأئمة أنفسهم الذين كانوا يعطون المثل في حث الأتباع على البعد عن المعترك السياسي؛ بل وقبل أحدهم (الإمام الحسن بن علي، الإمام الثاني) أن يتنازل عن المطالبة بالسلطة حقنا للدماء، فيما ارتضى آخر منهم (الإمام علي الرضا، الإمام الثامن) أن يكون وليا لعهد الخليفة المأمون، وانزوى ثالث في محرابه الفقهي بعيدا عن أتون السياسة (الإمام جعفر الصادق، الإمام السادس).
* التركيـز على عـدم مشروعيـة الاجتهـاد بأي شكل من الأشكال مقابـل النصـوص والمرويات الموروثة عن الأئمة الذين لم يدع أي أحد منهم العصمة.
ومعلوم أنه رغم طغيان الجعفرية الأصولية على امتداد القرن العشرين، فإن عددا من المتابعين يتحدثون عن وجود بقايا جعفرية أخبارية في العديد من قرى العراق وإيران والبحرين وشرق المملكة العربية السعودية أيضا، ما يعني أن هنالك إمكانية ولو صغيرة في إحياء هذه المدرسة.
لقد حاكت إيران سياستها الخارجية مستلهمة الصبر والأناة والمهارة الفائقة التي تتميز بها صناعة السجاد الإيراني. ولا شك أن على العرب الراغبين في لجم أي خطر محتمل من إيران واحتواء تطلعاتها الإقليمية التي لا تخفيها أن يبادروا لاستلهام ذات الخصال في سياساتهم تجاهها.
إن التطورات الجارية في المنطقة أبانت أن الدبلوماسية الإيرانية البارعة في الاستحواذ على الأوراق لا تجيد استخدامها في الوقت المناسب، وربما بددت بعضها دون أي استفادة منها او استفادت قليلا منها. ويعود ذلك إلى أن السياسة الخارجية الإيرانية مبرمجة من أجل استلاب الداخل وحرف أنظاره عن مشاكله الداخلية وتحدياته الحقيقية وأبرزها احتكار السلطة السياسية على أسس ثيوقراطية. فهل يعرف العرب كيف يوظفون ثغرة كهذه؟