هل كان حسن البنا مُولعًا بالنساء، ومُحبًّا لهن بإفراطٍ، وصريعَ هواهن؟
وهل كان مُولعًا أيضًا بالخمر سرًّا؟ أم هناك ما هُو مخفيٌّ، وغامضٌ، وباطني، ومخبوءٌ لم يُكشفْ، ولم يُهتك سترُه بعد؟
هل تماهى مع الشَّاعر الذي أحبَّه، وسهر على تقديم شعره، أم أنه أقدمَ على هذا العمل في النصف الأول من ثلاثينيات القرن العشرين من قبيل المُنجز الأدبيِّ فقط، وإيمانه بشِعْر الخلاعةِ والمُجُون والتشبُّبِ بالنساء؟ هل لم يكُن مُستوعبًا للديوان الذي قرأه ونقَّحهُ وصحَّحهُ وعلَّق عليه، رغم أنَّه كان وقتذاك رئيسًا لجمعية الإخوان المؤسسين التي أنشأها عام 1928؟
لستُ في عداءٍ معه، وليس ثمة ثأرٌ بيني وبين أحدٍ من الإخوان أو بين غيرهم من الخلْقِ، فقط أحاولُ أن أقرأ التاريخَ المسكُوتَ عنه في سيرةِ ومسيرةِ حياة حسن البنا الذي يحبُّ أتباعُه أن يُلصقوا به صفات لا أراها فيه أبدا مثل: الإمام، البنَّاء، الرجل القرآني، المُؤسِّس، المُرشد «التي صارت وظيفةً لا حالا أو فعلا يُصاحبُ من هم مرشدون حقًّا».
من المؤكَّد أنَّ هناك شيئًا خفيًّا، ستكشفه الأيام يومًا يجيب لي عن سؤال: لماذا ذهب حسن أفندي أحمد عبد الرحمن البنا الساعاتي إلى الشَّاعر العباسي مسلم بن الوليد الشهير بـ «صريع الغواني» ليكونَ أوَّلَ عملٍ له في الاشتغالِ بالأدب؟ وهذا الديوان الذي نشر أول مرة عام 1875 بتحقيق دي خويه في مدينة ليدن الهولندية، تُعد نشرة حسن البنا من أوائل النشرات في مصر والوطن العربيِّ التي اعتنت بإرث هذا الشَّاعر العباسي.
أرى أنَّ كُلا يذهبُ إلى شبيهه، ولا شكَّ أن حسن البنا وجد نفسه في شعْر وحياة «صريع الغواني» الملأى بالغواني، والجواري، والحرائر، والخمر، والكؤوس، والتغزُّل بمحاسن النساء، ما كان باديا منها أو خافيا، وإلا ما تكبَّد عناء البحثِ والدراسةِ والشَّرحِ والتعليق.. هي إذن مكابدةُ العاشق للشعر والشاعر وما بينهما من حياة ضاجة بالخمر والنساء في أيام هارون الرشيد الذي يُقال إنَّه هو من أطلق لقب «صريع الغواني» على مسلم بن الوليد، الذي كان يكرهُ هذا اللقب، والذي صار مُلازمًا له طُوال التاريخ، حتى صار اللقب أشهرَ من الاسم.
مثلي لا يستنكرُ عملا كهذا، ولا يعيبُ على حسن البنا فعله، لكن ما يُثيرني أمران: الأول هُو إقدامُ حسن البنا على فعلٍ كهذا ليس شائنًا من وجهة شاعرٍ مثلي، ولكن لأن حسن البنا كان قد مرَّت سنواتٌ على تأسيسه للإخوان المسلمين، وذهب مباشرةً إلى «صريع الغواني»، ولم يذهب مثلا إلى حسَّان بن ثابت الملقَّب بـ «شاعر الرسول». والثَّاني: هو لماذا يُنعِمُ الإخوانُ في إخفاءِ عمل حسن البنا هذا، وعدم إعادة ذكره، أو طبعه، أو نشره على الناس، كأنَّهم يخجلون من صنيعِ مؤسِّسهم، ويروْنه سقطةً أخلاقيةً لا يجُوزُ لمؤسِّس وأولِ مُرشدٍ أن يفعلها.
فصريع الغواني الذي كان تلميذًا لبشَّار بن برد هو القائل:
"أديرى عَلى الراحِ ساقِيَةَ الخَمرِ
وَلا تَسأَليني وَاسأَلي الكَأسَ عَن أَمري".
وهو القائل أيضًا:
"وما العيشُ إلا أن ترُوحَ مع الصِّبا
وتغدو صريعَ الكأسِ والأعينِ النجلِ".
ألم يكن يُدركُ أن مسلم بن الوليد «208 هجرية- 823 ميلادية»، شاعرٌ كوفيٌّ مُتغزِّلٌ بالنساء، وعاش في زمن أبى تمام في العصر العباسي، وتولَّع بالمُجُون والغزل والمراسلة، وكانت له جارية يُحبُّها حُبًّا جمًّا، ويشربُ الخمر؟
هل قدَّم للمصريين والعرب ديوان «صريع الغواني» دُون إدراكٍ للأسباب التي جعلته يختارُ هذا الشاعر تحديدًا موضعًا للدراسة والشَّرح؟
من المؤكَّد عندي أنه كان يعرف جيدًا ما هو مقدم عليه، بدليل أنَّ الباحثين والدارسين من الأكاديميين الذين درسوا "صريع الغواني" بعد حسن البنا دراسةً علميةً أكاديميةً تتسمُ بالصرامةِ والضبطِ قد أثنوا على نشرة البنا ومنهم: الدكتور سامي الدهان محقق ديوان مسلم بن الوليد، حيث ذكر في تقديمه للكتاب في نشرته التي صدرت عن دار المعارف بمصر عام 1970: «... ولكننا نرى في عمله عليه وسعيه وراء نشره، حبًا بالشاعر وحدبًا عليه، وتعلقًا بالشعر الصحيح الجزل الفصيح، خدمةً للناطقين بالضاد والمسلمين».
"صريع الغواني" الذي قيل عنه إنه كان أبخل الناس، وكان من الشُّعراء المدَّاحين، وإنه أفسد الشعر العربي؛ لأنه جاء بالبديع، الذي سار فيه بعد ذلك تلميذه أبو تمام.
و"صريع الغواني" حسبما تقول المعاجم العربية: الصّريعُ هو الذي صَرَعَه غيْرُه فهو في مَعْنى اسمِ المفعولِ، وهو المجنُون، الهالك، المطرُوح على الأرض لا حراك فيه. والغواني هنّ الغانيات، واحدتُها الغانِيَةُ، والغانيةُ من النساء: الشابَّةُ المُتَزَوّجة وجمعُها غَوانٍ، والغانية التي غَنِيَتْ بحُسْنِها وجَمالِها عن الحَلْي، وقيلَ هي التي تُطْلَب ولا تَطْلُبُ. وصريع الغواني هو المُحبُّ للنساء بإفراطٍ.
لم يكن حسن البنا الذي تخرج من كلية دار العلوم عام 1927 كسيد قطب الذي تخرج من الكلية نفسها يكتب الشعر، مع أن الأخير لم يفلح فيما كتب من شعرٍ أو روايةٍ، وما لاقاه من إعراضٍ الوسط الأدبيِّ عن الاهتمام بما كتب جعله أو دفعه إلى الذهاب بقوةٍ أقصى، وتطرفٍ أقسى نحو حياته الجديدة السَّادرة في تشدُّدها وإقصائها لكل من لم يسر في نهجه الإخواني.
«ديوان صريع الغوانى» الذي تولاه حسن البنا بالنشر والدراسة، طبعه محمد أحمد رمضان المدني صاحب مكتبة المعاهد العلمية في الصنادقية بالقاهرة.. والديوان الذي جاء في اثنتين وثمانين صفحة كان يطلب وقتذاك من مكتبة العلامية بجوار الأزهر بمصر، وقد كتب حسن البنا ترجمةً ملخصة للشاعر مسلم بن الوليد من كتاب الأغاني للأصفهاني، ومما جاء فيها: "كان مسلم بن الوليد شاعرًا حسنَ النمط، جيدَ القول في الشَّراب، وكثيرٌ من الرواة يُقرنه بأبي نواس في هذا المعنى".
كما يُقدم حسن البنا في تقديمه للكتاب شعرًا لـ «صريع الغواني»:
"إِن كُنتِ تَسقينَ غَيرَ الراحِ فَاِسقيني
كَأساً أَلَذُّ بِها مَن فيكِ تَشفيني
عَيناكِ راحي وَريحاني حَديثُكِ لي
وَلَونُ خَدَّيكِ لَونُ الوَردِ يَكفيني
إِذا نَهانِيَ عَن شُربِ الطَلا حَرَجٌ
فَخَمرُ عَينِكِ يُغنيني وَيُجزيني
لَولا عَلاماتُ شَيبٍ لَو أَتَت وَعَظَت
لَقَد صَحَوتُ وَلَكِن سَوفَ تَأتيني
أَرضى الشَبابَ فَإِنَّ أَهلَك فَعَن قَدَرٍ
وَإِن بَقَيتُ فَإِنَّ الشَيبَ يُسليني".
وفي نهاية الكتاب نقرأ في نشرة حسن البنا لديوان صريع الغواني: "الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، تم طبع ديوان صريع الغواني، وقد قام بتصحيح بعض أصوله قبل تقديمه للطبع الأستاذ الجليل حسن أفندي أحمد البنا المدرس بالمدارس الأميرية ورئيس جمعية الإخوان المسلمين، وقد حالت أشغاله دون تصحيحه أثناء الطبع، فصحح منه الملازم الأولى والثانية والرابعة الأستاذ الجليل الحسيب النسيب السيد كمال الدين الأدهمي الحسيني، والثالثة والخامسة صححها الأستاذ محمد الحكيم المحرر بجريدة البلاغ أثناء الطبع على النسخة المطبوعة فى الهند مدينة «...........» سنة 1303 هجرية، لم أستطع قراءة اسم المدينة لوجود طمسٍ من قِدَمِ النسخة التي بحوزتي، وهى أصح من النسخة المطبوعة في لندن والحمد لله أولا وأخيرا".
(للحديث بقية)