أمجد ناصر، شاعر وكاتب وصحفي من الأردن
في أحد الاتفاقات، اللانهائية، بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية، برعاية القاهرة، أراد ياسر عرفات، في آخر لحظة، أن يحسِّن شروط الاتفاق، فامتنع عن التوقيع. كانت المنصّة جاهزة. الوفود الرسمية الفلسطينية والإسرائيلية والأميركية، فضلاً عن حسني مبارك وفريقه، تنتظر اللحظة غير التاريخية.
كانت الأوراق والأقلام على الطاولة، لكن الرجل الذي ينبغي أن يوقع هذه الأوراق المسمومة، بعدما سارع الإسرائيليون إلى توقيعها، تملَّص. هذا التكتيك العرفاتي، ذائع الصيت، أخرج، على ما يبدو، عراب التنازلات الفلسطينية، حسني مبارك، عن "طوره" فصرخ في وجه عرفات أمام ذهول الجميع: وقِّع يا كلب! طيَّرت وكالات الأنباء هذا الخبر (وقمت شخصياً بنشره نقلاً عن وكالة الصحافة الفرنسية) لكن أبو عمار بلع الإهانة، و"كظم" الغيظ (كان يردّد في مجالسه هذه الآية: والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس) فنفى، والخارجية المصرية، الخبر جملةً وتفصيلا. بعد سنين على تلك الحادثة، أخبرنا أحد أعضاء الوفد المرافق لعرفات أن الحادثة حقيقية، لكن مبارك لم يقل لعرفات: وقِّع يا كلب، بل يا ابن الكلب.
***
هل كانت تلك استشاطة غضب من مبارك، الذي أربكه عرفات أمام ضيوفه الإسرائيليين والأميركيين، وكاد يخلُّ بتعهداته لهم، أم أن ذلك هو سلوك النظام المصري "المعتاد" حيال الفلسطينيين الذين لم يعد لديهم، بعد خروجهم من بيروت، حائط يستندون إليه؟ ليس لدي الكثير من الوقائع لدعم هذا الزعم الأخير، ولكن المسار السياسي العام للنظام المصري حيال القضية الفلسطينية، منذ الانقلاب الساداتي على النهج الناصري، يؤكد أنه سلوك ليس بالضرورة بالشتم و التهزيء، وإنما بالضغط وانتزاع التنازلات. فالأمر لا يتعلق بمزاج حسني مبارك، الذي لا يفقد أعصابه إلا مع الفلسطينيين. إنه دور. وظيفة شغل يتقاضى عليه من واشنطن نحو ملياري دولار. آسف لمن يرى غير ذلك، ولكن هذا هو ثمن دور النظام المصري، لضبط مسار القضية الفلسطينية، ضمن مضمار لا تخرج عنه حتى لو اقتضى الأمر بناء.
يكفي أن نعرف أن القضية الفلسطينية من مهام المخابرات المصرية، وليست من مهام الخارجية. ولا الرئاسة. يعني: قضية أمنية. ويا ليتها قضية أمنية بالمعنى الاستراتيجي للكلمة. لا مشكلة لو كانت كذلك. لكنَّ توكيل عمر سليمان (أو سواه) بالقضية الفلسطينية لا يأتي على أرضية الوعي بأن القضية الفلسطينية قضية أمن قومي مصري.
فلسطين، بهذا المعنى، لا ينبغي أن تتراءى لمصر من باب الرابطة العربية، أو الإسلامية، فقط، بل، أولاً وقبل أي اعتبار آخر، من باب الخطر الاستراتيجي. معظم الذين غزوا مصر جاءوا من تلك الجغرافيا شديدة الأهمية بالنسبة لأمن مصر. ربما لا يولي النظام المصري هذا البعد، أو لا يعيه.
هل علينا، إذن، أن نقول له: اذهب وأقرأ جمال حمدان (من ضمن عشرات المؤرخين والمفكرين المصريين) الذي اعتبر الدور المصري على البوابة الشرقية حماية لمصر وشعبها، وليس لمجرد الدفاع عن فلسطين والفلسطينيين.
فليتوقف أشقاؤنا المصريون، والحال، عن تذكير الفلسطينيين، كلما دقَّ الكوز بالجرَّة، بالتضحيات التي قدموها لفلسطين. طبعا لا ينكر تلك التضحيات الكبيرة إلا كل أفّاك أثيم.. ولكن، في الوقت الذي كانت تقدم فيه مصر تلك التضحيات دفاعاً عن فلسطين، كانت تدافع، أيضاً، عن نفسها، وتحاول أن تؤمن مجالها الحيوي.
نقلا عن العربي الجديد