Wednesday 18 June 2025
فن وثقافة

يوسف بن المكي يرصد سوسيولوجيا معالم الفضاء العمومي عند هابرماس

يوسف بن المكي يرصد سوسيولوجيا معالم الفضاء العمومي عند هابرماس المفكر يورغن هابرماس مع مشهد من فضاء ساحة عمومية بمدينة برلين

سنحاول في هذه المقالة التحليلية أن نرصد معالم الفضاء العمومي من منظور سوسيولوجي عند الفيلسوف وعالم اجتماع الألماني يورغن هابرماس، وذلك من خلال اتباع خطوات منهجية نظنها أصلح للمعالجة الأكاديمية وأقرب إلى الموضوعية وهي على الشكل الآتي:

مدخل نظري حول مفهوم الفضاء العمومي، مُعتمدين فيه على المقاربة السوسيولوجية لتحليل الواقع الاجتماعي، دون إغفال الخلفية الفلسفية التي تؤطر تصورنا الإبستمولوجي. مرورا عند ضبط الإشكالية المركزية للفضاء العمومي عند هابرماس، وقوفا عند المفاهيم السوسيولوجية في التحليل الهابرماسي، وتفكيك العلاقات السببية المؤطرة بإبستمولوجية العلوم الاجتماعية لمفهوم الفضاء العمومي وتشريح الأدوار والوظائف الجديدة لهذا الفضاء حسب هابرماس. وفي الأخير الخروج بخلاصات نقدية...

 

غني عن البيان أن نقول إن الحديث عن الفضاء العمومي من منظور سوسيولوجي هو حديث عن مجال تتنازع فيه مجموعة من الشرعيات ومن هذا النزاع نجد منظومة القيم التي تؤطر سلوكات الأفراد داخل المجال العمومي، إنه مجال تنشط فيه الإيديولوجيا باستحضار التصورات الاقتصادية للحداثة داخل الحياة المعاصرة، غير أن الفكرة الرئيسية التي تحدد فهمنا للمجال العمومي هي أنه  مجال يُخطط له ويستوعب كل ما يشترطه العمران كقيمة للعيش المشترك في الوجود البشري داخل كتلة أرضية معينة. وتُطرح دائما داخل هذا المجال استباقية الألفة الاجتماعية، ولعل من بين غايات المجال العمومي توسيع إمكانات التواصل مع الآخرين. ولذلك فداخل اللغة الفرنسية نتحدث عن الفضاء العمومي أما في اللغة الإنجليزية فنتحدث عن سوسيولوجية الفعل، وعن هذه العلاقة بين الأفراد داخل المجال/ الفضاء يبرز مفهوم أساسي في سوسيولوجيا الفضاء العمومي وهو مفهوم السلطة؛ سلطة المجتمع وسلطة المؤسسة وهي إشكالية يمكن التعبير عنها من خلال طرح السؤال: كيف تبنى العلاقات في المجال العمومي بين الفرد والسلطة؟ كيف يمكن أن تنشأ لدينا قناعات وأفكار حول المجال العمومي؟ وإلى أي حد يمكننا أن ننظم سلوكنا؛ بتلقائية تجعلنا نميز بين خصوصية السلوك في المجال الحميمي، والانتقال من المجال الحميمي إلى المجال العمومي؟

 

هذه الإشكالية سنحاول تأطيرها من خلال السؤال المركزي الذي نحن بصدد الاشتغال عليه وهو السؤال الذي حضر عند يورغن هابرماس واعتبر السؤال الرئيس في هذا المقام وهو: ما هو مقتضى التحليل السوسيولوجي للفضاء العمومي؟

 

لعل التعاطي للظاهرة الاجتماعية من منظور سوسيولوجي يتطلب استدعاء الإطارات النظرية والمفاهيمية التي تؤدي بنا إلى إعادة قراءة الواقع عبر التفاعل معه، فمرحلة البناء المفاهيمي مرحلة أساسية وهي مرحلة قراءة النظريات التي أطرت فهم الموضوع في سياقات معينة، ولذلك فتحليل الفضاء العمومي يستدعي مفاهيم مجاورة له، وهابرماس نفسه يتحدث عن مسرحة الفعل الاجتماعي لضمان التشكل المادي للسلوك الاجتماعي باستحضار جغرافية العلاقات بين معضلات تمثل مجالياً في درجات مختلفة وهو ما يُعرف في ميدان السوسيولوجيا بالنظرية المجالية، غير أن ما يهمنا في دراسة تصور هابرماس للمجال العمومي هو متغيرات هذا المجال، فالنسيج الاجتماعي مثلا في 10 سنوات الأخيرة وبالضبط داخل المدن الكبيرة والمتوسطة ضم أفرادا لكن لم يتم إدماجهم في المشهد اليومي لهذه المدن، ولذلك فالتأسيس السوسيولوجي يستدعي مجموعة من المفاهيم لعل أبينها مفهوم "المخيال السوسيولوجي"  وهو تطبيق الفكر التخيلي في طرح الأسئلة الاجتماعية والإجابة عنها، فكل شخص يستخدم المخيال الاجتماعي ينبغي أن يفكر فيه بعيدا عن أي نزعة ذاتية مرتبطة بواقعه الخاص عبر استحضار عناصر أخرى من خارج الواقع؛ وهنا يمكن أن نستعين بدراسة دوركايم للانتحار لتحديد العلاقات المحتملة عبر استحضار العناصر الخارجة عن الواقع، نظرا لاحتمالية وجود عناصر أخرى غير تلك التي نتوصل لها عبر البداهة، إذ هناك تفسيرات أخرى تتجاوز البداهات فلا وجود لحتمية تؤطر الظواهر الاجتماعية لذلك ينبغي توسيع النظر فيما يطرح نفسه كبداهة داخل السلوكات الاجتماعية، بمعنى ينبغي تجنب البداهة في تفسير الظواهر الاجتماعية؛ وعلاقته بالفضاء العمومي تنبني على الانتقال من المجال الحميمي المنبثق من الأسرة وما يؤطرها إلى الفضاء العمومي المبني على الحجاج العقلاني، والحق أن المخيال الاجتماعي لا يمكن عزله عن مفهوم "البنية الاجتماعية" التي تتمثل في الكيفية التي ينتظم بها الأفراد داخل المجتمع والسلوكات التي تطبع العلاقات القائمة بينهم (إنها تعاقد واتفاق بين الأفراد على الحد الأدنى من ضرورات العيش المشترك) أو السواء الاجتماعي وهذا يسقطنا مباشرة في مفهوم ثالث يجسد الفعل السوسيولوجي للفضاء العمومي وهو "البناء الاجتماعي" الذي يعني تلك الأفكار والممارسات التي يتفق عليها جماعة من الناس ويحافظون على وجودها باعتبارها أمرا مسلما به. والحال أنه بالنسبة لهابرماس فإن البناء الاجتماعي هو معطى تم التسليم به من خلال إنتاج سلوكات اجتماعية وبناء حس عاطفي بين أفراد المجتمع. هذا الحس يتطلب فعلا تواصليا لذلك نستحضر مفهوم "التواصل" وهو كفاية، والكفاية هي نظام ثابت من المبادئ المولدة والتي تُمكن كل واحد منا من إنتاج عدد لا نهائي من الجمل ذات المعنى في لغته، كما تمكنه من التعرف التلقائي على الجمل، على اعتبار أنها تنتمي إلى هذه اللغة، حتى وإن كان غير قادر على معرفة لماذا، وغير قادر على تقديم تفسير لذلك. لكن كل هذه المفاهيم تصب في مفهوم لا يقل أهمية عنها وقد حضر في التحليل السوسيولوجي الهابرماسي وهو مفهوم "الرأي العام" إذ يلخصه هابرماس في منطلقين أساسيين: المنطلق الأول تجسده فئة تمثل التنوير وتمتلك آليات النقاش العقلاني بل تمتلك حتى شروطه المادية وهي فئة البورجوازية المؤهلة بذكائها وحسها الأخلاقي على احترام مسألة العمومية، تستعمل عقلها داخل فئة كبيرة ينتظر منها تزكية القرارات المتخذة، والمنطلق الثاني تمثله فئة شعبية واسعة يتشكل لديها رأي عام استنادا إلى مؤسسات مثل الأحزاب السياسية والبرلمان.

 

إن هذه المفاهيم لا تأخذ قيمتها إلا من خلال العلاقة القائمة بينها ؛ فالشرط الأساسي هو بناء العلاقة بين المفاهيم تبعا للمرجعية الحداثية للمجتمع التي تنتظم لتحصيل الألفة الاجتماعية وفق منظور سلمي للعلاقات بين الأفراد. لذلك فالمجال العمومي البورجوازي يمكن أن نفهمه، بالدرجة الأولى، على أنه تجمع لفئة خاصة من الناس على شكل جمهور، تطالب بمجال مقنن ومنظم من قبل السلطة، ليوجهونه مباشرة، ضد السلطة نفسها، حتى يتسنى لهم مناقشتها حول القواعد العامة للتبادل، حول ميدان تبادل البضائع والعمل الاجتماعي. وهو مجال يظل خاصا، بالأساس، لكن أهميته أصبحت ذات طبيعة عمومية. إنه مدخل يؤمن بفكرة جوهرية تكشف عن صعوبة تشكيل رأي عام اعتمادا على العامة فقط، لأن أفكارها سطحية وبسيطة وتنم عن وجهة نظر عفوية مألوفة، مثل تلك التي تروج لها وسائل الإعلام التي تعتبر وسائط في الفضاء العمومي.

 

يتخذ الفضاء العمومي هنا طابعا مؤسساتيا أكثر منه عقلانيا، فإذا كان الرأي العام ضمن الفئة الأولى يتخذ من النقاش العقلاني أساسا لبنائه، فإنه في الفئة الثانية يتخذ من معيار الأغلبية أساسا لذلك. وعن طريق النقاش البرلماني تستوعب الحكومة مطالب الرأي العام وتدرس إمكانات مراعاتها. إنه مدخل شكل تصورا عن رأي عام يستبعد العقلانية لصالح الوسائط المؤسساتية، التي بإمكانها التعبير عن توجهات الرأي من خلال البرلمان مثلا الذي يختزل الإرادة الجماعية، ويفصح عن انشغالات الرأي العام، أو الأحزاب السياسية سواء كانت حاكمة أو معارضة، حيث تترجم إرادة الأحزاب، إرادة المواطنين الذين صوتوا لصالح الحزب واقتنعوا ببرنامجه، وبالتالي فمن يمتلك الأغلبية البرلمانية يصبح الممثل الأكبر للرأي العام.

 

من هذه المنطلقات ومن خلال التحليل السوسيولوجي للفضاء العمومي يخلص هابرماس إلى نقطة في غاية الأهمية، وهي فهم التحول في الوظيفة السياسية للمجال العمومي، حيث أوضح هابرماس أن الإرادة الشعبية لا تقوى على التعبير عن إرادتها وبالتالي رأيها دون اللجوء إلى وسيط، ومن ثمة تتقلص أدوارها السياسية وتتراجع أهميتها نتيجة اعتمادها المستمر على عنصر خارجي يحل محلها، ليصبح الرأي العام، رأيا للوسيط بالدرجة الأولى، فيتحكم بالتالي في آليات الفعل السياسي.

 

لقد انتقلت هنا الوظيفة التي كان من المفترض أن تسند إلى الشعب، إلى مؤسسات أخرى، فالأحزاب السياسية والجمعيات والنقابات والمدارس ووسائل الإعلام تابعة للدولة وموجهة من قبلها، بل إن الدولة تدمج هذه المؤسسات في إيديولوجيتها وتجعل منها آليات لضبط توازناتها السلطوية، لذلك نجدها توظف المدرسة ووسائل الإعلام ودور العبادة لجذب جمهور مستكين يقبل قراراتها دون إخضاعها لمحك النقد والعقل، فتحول المجال العمومي مع بروز هذه الوسائط من ميدان يحرص على مقاومة سلطة الدولة عن طريق الاستعمال العمومي للاستدلال العقلي، إلى ميدان يحافظ على سيطرة الدولة ويهيئ لها الظروف والشروط التي تستحكم في رأي غير عام.

 

بناء على خلفية هذا التحليل السوسيولوجي للفضاء العمومي نصل مع هابرماس إلى إمكانية اعتبار أن تشكيل الفضاء العمومي يقوم على ثلاث أسس تبني هذا الصرح الاجتماعي:

- الأساس الأول: استحضار البعد الثقافي في المحاججة، فأن نمارس الحجاج يتطلب الأمر وجود مشترك ثقافي يكون محل اتفاق يعطي للمحاججة إمكانية الوجود.

- الأساس الثاني: أساس المناقشات الحجاجية القائمة على علوية العقل وحسمه في النقاشات والاتفاقات، فإذا كانت السياسة تفرقنا فإن مصلحة عيشنا المشترك تجمعنا وبالتالي عقلنة العلاقات في ما ينظم القاعدة الاجتماعية.

- الأساس الثالث: يقوم على النخبة القادرة على توطين خطاب حجاجي  Leadership

 

عن هذه الأسس المترابطة فيما بينها تجعلنا نشكل مساحة للمجال العمومي، لكن السؤال الذي نطرحه هنا لماذا توجد مساحة المجال العمومي؟

 

إن أصل مساحة المجال العمومي بكل مرافقها هو تحصيل اللحمة الاجتماعية واستيعاب كل ما يمكن أن يكون في الجماعة؛ فالمجال العمومي هو فرصة لإبراز الأفكار التي تسعى لتحصيل الاجتماع "المصلحة العامة"، وحتى التناظر والحوار والمحاججة الهدف منه هو تحصيل المصلحة العامة. غير أننا يلزمنا كثير من الحذر في استعمال كلمة المصلحة العامة، فقد تكون "خدعة" لأن فيها من المثالية ما يجعلنا نصدق أنه ليصلح المجتمع يجب أن تحظى فئة ما بامتيازات تند عن القاعدة.

 

وبقول مجمل شكل مفهوم الفضاء العمومي أرضية خصبة للسوسيولوجية التي حللته بمعطيات واقعية مؤطرة بخلفية إبستمولوجية جعلته مفهوما بارزا في التحليل السوسيولوجي، وما يمكن إعطاؤه في النهاية كتركيب نقدي نقول إنه  نظرا لصراع الشرعيات داخل المجال العمومي يمكن استعمال الديمقراطية وحقوق الإنسان لتأصيل الوجود الاجتماعي؛ لأن كل فرد يبني علاقاته مع الآخرين على طموحات خاصة. فالمجال العمومي فضاء تنشط فيه المنافسة في إطار علاقات السلطة التي تحكم باسم الشعب. إنه يتشكل من أفراد خاصين يشتغلون وفق إرادة المشاركة في النقاش العمومي وبناء على المصلحة المشتركة بغاية البحث عن التوافق أو الاتفاق عبر التفاوض المبني على الحجاج العقلاني...