الأربعاء 24 إبريل 2024
منبر أنفاس

زهير اسليماني: "الصورة تحاكي غياب الأشياء أكثر مما تحاكي حضورها"      

زهير اسليماني: "الصورة تحاكي غياب الأشياء أكثر مما تحاكي حضورها"       زهير اسليماني

 تذكرت صورتها وهي تقف شامخة بلباسها الأبيض، الذي لم ينل من نصاعته ما تراكم عليه من ألوان..  تذكرت نفسي وأنا أقف جنبها كعصفور ضعيف أعياه التحليق فحط في أمان كفها، فتمثلت لي شجرة جذورها في الأرض وفروعها في السماء..

قمت إلى الرف مسرعا، بعدما تذكرت تلك الصورة، بحث عنها في كل كتبي، ورقة ورقة، وبين أغراضي المتراكمة هنا وهناك، أين يمكن أن أكون قد وضعتها، وإذا ما ضيعتها فأين ومتى وكيف..!

أخرجت ألبوم الصور الخاص بي، فيه كل ما له قيمة رمزية أو مادية عندي.. أعثر على كل شيء ولا أعثر على الصورة، أين عساها تكون!

لن يهدأ لي بال، ولن يحلو لي مضجع حتى أجد صورتها، من من المعارف والأصدقاء قد يحتفظ بمثل هذه الصورة! من يا إلهي! فلأرقد الآن وغدا أبدأ رحلة البحث.. عن الصورة، التي بدأ يحيرني ضياعها!

.. لم أشعر بنفسي صباحا، إلا وأنا أتلفن أحد أصدقاء الطفولة، الذي اندهش من اتصالي في هذا الوقت، اندهش أكثر من موضوع الاتصال: "أصورة توقظك باكرا وتفعل بك كل هذا، وتجعلك تثير الرعب في الناس يا أخي..،!" "إنها صورة ليست كباقي الصور، إنها لـ.." "بالله عليك أنت عد لتنام، يبدو أنك لم تستيقظ بعد، لقد توقف عندك التاريخ، فالصور أصبحت أرخص من التراب، الكل يصور الكل.. وأنت تبحث عن صورة من عهد أفلاطون" "وأنا لا أريد من الصور كلها إلا تلك..".

لا أعرف كيف ومن قطع منا الاتصال، جرتني خطاي نحو المدرسة التي أمضيت فيها مرحلة الطفولة، قلت مع نفسي لعل أرشيف المدرسة ما يزال يحتفظ بتلك الصورة، ولما سألت المسؤولة عن الأرشيف أطلقت ضحكة مدوية، وأفادتني ضمنيا بأنني أحمق أو معتوه أو متفرغ تمام التفرغ لأعود للبحث عن صورة التقطت قبل أزيد من عقدين، قائلة "تلك صورة حتى لو بقيت لبليت ومزقناها تمزيقا.. وحتى لو كانت ستعيدك للطفولة فعلا ما كنت لتفعل بنفسك وبنا ما تفعل الآن.. آسفة لدي ما أقوم به..".

لم يساورني أي تكاسل في التوجه إلى المديرية الإقليمية، مصلحة التوثيق والأرشفة، أذن لي السيد رئيس المصلحة بالدخول، ولما قصصت عليه رؤياي، لم يجد بدا من السخرية مني، بل ظنني ألعب وأتصابى وأجزي الوقت به، فنهرني كما فعل معي المدير ذلك اليوم الأول الذي أدخل فيه المدرسة.. وأمسكت الأستاذة يدي بيدها الدافئة، قائلة لا تخف إنه رجل طيب وإنها طريقته في الترحيب بالتلاميذ الجدد، حتى يتذكروه دائما.. "إن كنت تريد أن تلهو فليس هنا يا أستاذ، ثم لما لا تذهب عند السيد الوزير وتسمعه قصتك، لعله يصدر قرارا بالجريدة الرسمية أو قانونا بإيجاد صورة سعادتك..".

امتطيت أول قطار متجه نحو العاصمة، لوحت لأول سيارة أجرة، وتوجهت نحو ديوان السيد الوزير بباب الحد، شرحت للكاتب العام مبتغاي، ضحك حتى ظهرت نواجده، "أتريد أن تقيم حكومة ولا تقعدها من أجل صورة! فيها سعادتك، ونحن الذين نعمل ليل نهار على طمس تلك الصورة.."

غادرت على مضض لأن مثله لو كانوا يفهمون ما كنت اليوم في بحث مضن عن تلك الصورة..

عدت من بحثي بخفي حنين، عدت إلى ذاكرتي، واكتفيت بها، أستاذتي نجاة بيننا وسط الصورة تحنو علينا بظلها الوارف، وتنشر بابتسامتها المحتشمة جوا من الحياء والإحترام، ونحن كالعصافير، بين أغصانها أو كالصيصان تحت أجنحتها.. من تقترب منه يدها لهو المحظوظ، فلا يتوانى في لثمها وتقبيلها..

ومنذ حز تلميذ وجه أستاذته بسكين، توقفت عن البحث عن تلك الصورة..!