الجمعة 29 مارس 2024
كتاب الرأي

عبد الوحيد خوجة: وتاريخنا مر على الرصيف

عبد الوحيد خوجة: وتاريخنا مر على الرصيف

يفرض عليك تمثال وضعته سلطات مدينة "كاين" بمنطقة النورماندي أمام متحف الحرب العالمية الثانية أن تعيد النظر كرتين في تاريخ فرنسا.

المعلمة تمثل جنديا أمريكيا من المارينز في موقف حميمي مع ممرضة فرنسية تلبس ثيابا يغطي بالكاد ركبتها.

داخل المتحف سيدة في الخمسين من عمرها تعيد بشكل لا يكل ولا يمل وبسرد روائي جميل مستعملة صوتا يجعلك تنخرط بتلقائية في عملية إنزال القوات الأمريكية على شواطئ النورماندي لحظة بلحظة بكامل زخمها الإنساني وعظمة اللحظة التاريخية.

لا شيء هنا يعلو فوق فرنسا، حاربت النازين ببطولة ناذرة.. لا حديث لسيدة إطلاقا عن فرنسا التي احتلت أو وضعت تحت حمايتها أمما وأقواما في إفريقيا وآسيا وغيرها.

ضحية قتلت ضحيتها، غريب أمر هذا التاريخ بخداعه ومكره وعماه المطلق.. فرنسا الضحية التي يمارس عليها النازيون حربا عسكرية وعرقية فظيعة، تمارس هي نفسها حروبا ليست أقل من الأولى على شعوب أخرى. أثار انتباهي في لحظة ما ونحن نتابع مع المجموعة تفاصيل ودقائق الغزو الألماني والمقاومة الفرنسية كيف أوقفتنا السيدة عند مجسم المحرقة. قالت في ما فعله الألمان باليهود ما لم تقله عن أماكن أخرى. هنا توقفت كثيرا وتذكرت صورة الضحية التي تقتل ضحيتها. حضرني للتو مشهد الشهيد الفلسطيني محمد الدرة وهو يتلقى الرصاص الحي في زاوية، وأبوه يحاول أن يحميه بجسده. قد يكون من رماه بالرصاص قد فقد أباه أو أمه أو هما معا في معسكرات التقتيل في بولونيا.

تحت قوس النصر بغادة الإليزي أجمل شوارع باريس. تذكرت قول طالب أزهري نزل ضيفا على باريس. قال بعفوية أهل النيل "إذا كان لابد أن يكون للعالم عاصمة فهي باريس. وإذا كان لابد أن يكون -أستغفر الله- للجنة عاصمة فلن تكون إلا باريس". وقف الجميع لإلقاء نظرة على الجندي المجهول. شعلة متقدة لا يطالها النسيان. تعايش بين الحرب والسلم، الحرب للتذكير بفظاعتها والسلم لتعايش الفرنسيين بكافة أصولهم ولغاتهم ومشاربهم المتعددة. الجندي المجهول قد يكون أسود اللون أو أبيضها، قد يكون فرنسي المنشأ أو إفريقيا، لكنه وجد نفسه يحارب جانب فرنسي آخر ضد الغزو النازي. كم كان جميلا ومؤثرا أن تعزف الجوقة العسكرية النشيد الوطني المغربي بشكل راق وجميل، قال صاحبي وهو يبحث عن مكان يقربه من الشعلة من ينظم الحفل؟ قلت البرلمان الفرنسي بمجلسيه على شرف البرلمان المغربي بمجلسيه، قال: قلما يشهد هذا المكان مثل هذه التظاهرات التي نظمها قدماء المحاربين يأتون من كل فج عميق تقديسا لتاريخهم ولبلدهم. وضعنا الإكليل على وقع الموسيقى وكأن الجندي المجهول هو جندي معلوم قد يكون من قرى الأطلسي أو هضاب الشاوية أو الشواطئ الأطلسية أو من أعماق كلميم.

في الحافلة ونحن نجوب شواطئ النورماندي في جو بارد وسماء مغطاة بسحب كثيفة، كانت السيدة تحكي عن تاريخ الشواطئ بنفس النبرة، بنفس النبش في التفاصيل، صفقنا في نهاية الجولة بحرارة متناهية. لم نكن نعرف لمن نصفق؟ هل لتاريخ فرنسا أم لطريقة السرد الجميلة الراقية.. المهم أننا أعجبنا بالسيدة أيما إعجاب.

جاءتني في لحظة تمرد فكري صورة من كلفناهم بالحفاظ عن تاريخنا.. لا أحد يكلم الناس بهذه القدرة على الإقناع والجذب.. قال أحد الخطباء أننا نملك في المغرب ما يمكن أن يحكى للأجانب عن تاريخنا وحروبنا ومقاومتنا، لكننا نفتقر لمن يحكيه بهذا الشكل الجذاب.

كابورغ مدينة نبتت على الشاطئ كزهر جميل. هدوء لا يكسره إلا انكسار الموج على الشاطئ. شوارع مقفرة إلا من بعض هواة الركض. قال النادل أن المدينة تعيش صخبها شهرا واحدا في السنة يأتيها السواح من كل الأصقاع للاستمتاع بجوها المعتدل وبشواطئها الجميلة.

تنسيك المدينة فظاعة الحروب. أسائل نفسي هل فعلا عرفت هذه المناطق حربا منذ ستين عاما.. كل شيء معد لنسيان ما وقع.. وكل شيء مقرر للتمعن فيما وقع.

صباح اليوم الموالي تلطفت بلطائف الحيل على حد قول الإمام حامد الغزالي، وقررت أن أغادر المدينة إلى باريس وحدي، بدا لي بشكل مستفز تمثال الجندي الأمريكي والممرضة الفرنسية لينبهني إلى تعانق الحرب والسلم وأن الحب لا يستسلم إلا لصوت العاطفة رغم قساوة الحروب.

في القطار صمت يذكر بالمعابد. وضعت سماعة آلة التسجيل في أذني، غفوت للحظات، أيقظني صوت الشاعر الأبدي محمود درويش:

"مر الخريف ولم أنتبه

مر كل الخريف

وتاريخنا مر على الرصيف ولم ننتبه...".