الأحد 24 نوفمبر 2024
كتاب الرأي

محمد وراضي: أو ليس الإرهاب العلماني مصدرا لمسمى الإرهاب الديني؟

محمد وراضي: أو ليس الإرهاب العلماني مصدرا لمسمى الإرهاب الديني؟

لن نلوك النظريات السياسية والفلسفية في مجال الاجتماع والاقتصاد والمال. لن نلوكها خارج الواقع التاريخي الصادم الذي تم إنجازه بالفعل، بحثا منا عن تسجيل إصابات قاتلة في مرمى ملعب كل من يخالفوننا الرأي. فالمجادلات الأيديولوجية، والتراشق بألفاظ وبعبارات فخمة، لم تعد تجدي وعوار الحكام العرب والمسلمين منشور كثياب رثة متسخة أمام أنظار العالم! هذا الذي كاد أن يحولنا إلى مجرد مجرمين سفاحين إرهابيين قتلة! وكأننا نعيش على هامش حضارة، كل همنا بخصوصها إنما هو العمل على تدميرها. إن شعوريا وإن لا شعوريا منا دون غيرنا، لأننا عاجزون عن إنتاج نظائر لها مثيرة للإعجاب، فأصبحنا هكذا مستهلكين نهمين متلذذين بثمار حضارة لم يكن لنا أي فضل يذكر في إنتاجها! حتى أخلاقياتنا لم ترق بعد إلى الأخلاق الآدمية! المقبولة في عصرنا الماثل!!!

فالقيم الكونية الكبرى في نظر الطرف الآخر المتحضر، لا نعدو أن نكون نحن حيالها سوى من يجدون متعتهم في وطئها دون معرفة منا بقيمتها! إننا بعبارة أخرى، لم نستفد من الغرب المتقدم غير الاستهلاك المادي، بينما المبادئ التي تقوم عليها حضارته الزاهية، أدرنا لها ظهورنا، وكأنها لا تعنينا في شيء! وحتى الذين يؤكدون بأنهم بها معنيون، وإليها ينتصرون، وبها يتشبثون، وعنها يدافعون حتى الرمق الأخير، لم يستطيعوا التخلص من عقالها باعتماد العقل نفسه، وكيف باعتماد ما اعتبره بعضهم صنو العقلانية وربيبها في النصوص الدينية النقلية!

لنضع أقدامنا على الأرض التاريخية، نقصد على ما نسميه بمصانع التاريخ، على اعتبار أنها مسرح للأحداث الإنسانية في الماضي البعيد والقريب. ثم نتساءل بخصوص ثلاث لحظات، عرفتها الشعوب العربية والإسلامية في العصر الحديث والمعاصر: لحظة سبقت سقوطها في يد الاستعمار. ولحظة فيها نزل بكامل ثقله عليها. ولحظة يقال إنها تمثل استعادة تمتعها باستقلالها وحريتها.

ولا أحد يخالفنا إن ادعينا بأن القوانين الوضعية لم يكن عليها اعتمادنا لتسيير شؤون دولنا من خلال قرون فقرون. ولا أحد يخالفنا إن نحن انتقدنا بكل شجاعة وبكل موضوعية، كيفية إجراء الأحكام الشرعية العملية على كافة تحركاتنا داخل ربوعنا. ولا أحد يخالفنا إن نحن طعنا طعنا شديدا في ممارسات دينية مشوهة لما ورد في الكتاب والسنة. يعني أنها تتناقض تمام التناقض مع الدين الحق. والتي أصر الحكام على استمرار العمل بها حتى الوقت الراهن بالذات! وإن أبدوا انتصارهم للعقل على حساب اعتبار النقل في معظمه عندهم فكرا ظلاميا تجاوزته الأحداث!

ولا أحد يخالفنا إن نحن ربطنا الزعامات السياسية بحواضنها الشعبية المتلهفة الرامية إلى التخلص من كل أشكال الهيمنة والهمجية. فنحن لا نسلم بزعامة الزعماء ولا بإخلاص نضال مناضلين بارزين، ولا بصدق جهاد مجاهدين، بعيدا عن تزكية وعن قناعات، وعن رضى الشعوب التي آزرتهم بقوة، ووفرت لهم من الدعم ما به استطاعوا الصمود والتصدي والظهور، إنما على أساس تعاقد غير مكتوب، هذا الذي نلخص فحواه باختصار شديد في الآتي:

أن يكون الزعماء والمناضلون والمجاهدون نوابا للشعب في الدفاع عن حقوقه، وحماية أرضه وصيانة هويته، ورفض أي تحرك سياسي وعقلاني فلسفي لتغيير هذه الهوية التي هم عليها مؤتمنون. أما إذا ما تبين أنهم غير مؤتمنين عليها بإخلاص في المقبل من سنوات النضال -وبناء الاستقلال جار على قدم وساق- فإنهم غير جديرين باحترام شعوبهم لغياب حفظ الأمانة والعهود عن تحركاتهم داخل الأوطان وخارجها!

ونوع طينة نواب الشعوب على عهد الاستعمار -والعمل متواصل بقوانين وضعية مفروضة مستوردة- سوف تتضح فور رحيله أكثر من ذي قبل، وقد يزداد وضوحها كلما مرت سنوات أو عقود على عمل أولئك النواب -والاستعمار راحل عن بلداننا- خاصة وأنه طالما أبدت الأيام للشعوب ما كانت تجهله عن حقيقة زعيم لقب ببطل الأمة، أو بمحررها، أو بالمجاهد الأكبر!!! مع أن الحقيقة تؤكد لنا أن لا مجاهد أكبر من الشعب نفسه في أي بلد عربي أو مسلم!!!           

وريثما تمر شهور الاحتفال بالحرية والاستقلال -وامتداح الزعماء والقادة يخترق عنان السماء- ينقشع الضباب المكثف أمام من يتوقعون الخروج من ضيق الأزمات إلى انفراجها! نعني من الظلم إلى الإنصاف والعدل. ومن التفاوت في كل شيء إلى المساواة التي هي من ضمن مبادئ الدين السالم من إضافات ومن نواقص تشوه جوانب من جوانبه، إن لن  لم تمتد إلى تشويهه في معظمه! لكن هذه المساواة داسها الزعماء والقادة وكبار المناضلين والمجاهدين بالأقدام! إنما كيف تم لهم دوسها كما تدوس الخيول بحوافرها ميادين القتال! أو بأي معنى من المعاني حصل دوس تلك المساواة التي لم يسلم من ممارسة دوسها بشراسة وكبرياء أي قائد من قادة العرب والمسلمين؟

نسجل للتاريخ، وللأجيال الفتية الغضة الشابة الحالية، كيف أن نظرة حكام ما بعد الاستعمار إلى شعوبهم أغرق ما تكون في الدونية! وهذه النظرة الدونية، عززتها زعامات سياسية من خلال تهارشها لاحتواء ما يمكن احتواؤه من جاه ونفوذ ومال وممتلكات عقارية وأراضي فلاحية شاسعة! بحيث إننا سجلنا بخصوصها طغيان النرجسية التي لم تترك لها مجالا للالتفات إلى الحواضن التي مهدت لها بالأمس القريب، مختلف السبل، عسى أن تجدها بعد التحرر من الاستعمار، لسانا باسمها تتحدث. حتى السلفيون الذين شكلوا خميرة العمل الوطني التحرري في أكثر من بلد عربي وإسلامي، تهالكوا على المغانم التي تتقدمها المناصب المغرية كالوزارات، وتوابعها حيث تتوفر الرواتب المنتظمة المسيلة للعاب!

وهنا نناشد كافة العلمانيين الطاعنين في السن، وكافة العلمانيين الذين هم من أقراننا، وكافة العلمانيين الذين هم بمثابة أبنائنا وتلامذتنا وإخوتنا وأصدقائنا. نناشدهم بالله وبالإسلام وبالعروبة، وبكافة اللهجات الموروثة عن الأجداد، أن يدلونا بصدق وإخلاص ونزاهة وموضوعية، على زعيم واحد أو على قائد تحرر من انبهاره بالعلمانية التي فرضت عليه وعلينا كلنا! أو نناشد بعبارة أخرى كافة الأحرار في العالم العربي والإسلامي، نناشدهم أن يدلونا على حاكم واحد قرر استفتاء مواطني بلده للإجابة عن هذين السؤالين: أي نظام تريدون بعد التخلص من الاستعمار: نظام إسلامي؟ أم نظام علماني؟

وإن نحن انتهينا من مناشدة كافة أطراف العالم، وإن لم تكن لهذه الأطراف أية صلة لا بعروبتنا ولا بديننا، ما وجدنا حرا منصفا حياديا يدلنا على قائد بعينه لم يقع ضحية التبعية العمياء للنظام الذي أرسى دعائمه الاستعمار قبل جلائه عن مستعمراته السابقة، مما يعني أن رحيله جسدي لا روحي أو فلسفي معنوي. فكان الانطلاق -ورحيله قد تحقق- مما يشبه الصفر. فلا استقلال ولا حرية ولا كرامة! ولا شورى ولا ديمقراطية! وإنما هو تسلط واستبداد وطغيان، وجبروت، من الطبيعي أن يخلف وراءه ظهور معارضين، مستنكرين، متبرمين من واقع تتنافى مجرياته مع ما ضحت الشعوب من أجله بكل غال ونفيس!    

لكن المعارضين في مختلف الدول التي تعنينا، لم يثيروا المشكل الجوهري العويص الذي أثرناه نحن، بل اطمأنوا وانصاعوا إلى النظام العلماني الذي سلموا بأنه الوحيد القادر على تحقيق التقدم والرقي والازدهار. فكان أن تمحورت معارضتهم حول نضال جديد، هدفه تحقيق التحرر الثاني من طغيان ذوي القربى هذه المرة، لا من طغيان الغرباء الذين ولوا الأدبار، وجروا خلفهم الأذيال والويل والثبور. مما تولد عنه اللجوء الاضطراري إلى الوسائل الآتية:           

1- وسيلة العمل الديمقراطي في حدود الليبرالية العلمانية للوصول إلى السلطة التي عبرها ومن خلالها يتم تغيير الواقع المتعفن. وهذه الوسيلة وقع اختيار العلمانيين والإسلاميين عليها في الآن ذاته. مما يعني أن وجود إسلاميين في السلطة لا يتجاوز كونهم سلموا بالعمل في إطار نظام علماني طالما صبوا جام غضبهم عليه! كان ذلك قبل وصولهم إلى مناصب وزارية وإلى أخرى تشبهها ككتاب دولة وكمدراء الدواوين!

2- وسيلة تحويل الليبرالية عن طريق الديمقراطية العلمانية ذاتها إلى اشتراكية معتدلة.

3- وسيلة الانقلابات العسكرية لتغيير الأنظمة الاستبدادية الطاغية.

4- وسيلة القيام بحرب عصابات شعبية للتحرر من دكتاتوريات حاكم هنا، وحاكم هناك.   

مما يعني أن الإرهاب العلماني الدولي الذي لم يتوقف، أنتج بفعل طغيانه جماعات ثائرة لم تجد أمامها غير حمل السلاح في وجه الطغاة! بعد أن أعيتها الوقفات الاحتجاجية والإضرابات والمظاهرات والتوسلات التي هي أشبه ما تكون بالتقرب إلى السادات الهالكين من ذوي الأضرحة والقباب! فكان أن عمت المنظمات السرية جل دول العالم الرأسمالي والاشتراكي بدرجة أقل. هذه المنظمات توصف رسميا بكونها إرهابية. مواجهتها بالعمل على إبادتها واجب كل دولة دولة، مع حصولها على مدد خارجي، مصدره إما المعسكر الشرقي، وإما المعسكر الغربي، بحيث تكون الدول العربية والإسلامية تحديدا عرضة لإرهاب الاستعمار، ثم عرضة لإرهاب من تسلموا من يده كافة السلطات، ثم عرضة لإرهاب الجماعات الناجم عن الإرهابين المتقدمين! والحال أن الجماعات العلمانية التي قادت العنف المسلح، لم تكن تنعت لدى اليسار العربي بكونها إرهابية! وإنما تعرف بكونها تمثل الثوار المناضلين لصالح الشعوب! بينما ينعت نفس اليسار العربي والإسلامي جماعات إسلامية مسلحة الآن بكونها إرهابية! فسبحان مبدل الأحوال!!!

حينها -أي حين انتشار جماعات مسلحة علمانية- اعتقد السادرون في غيهم المتواصل -وهم على ما يبدو بالواقع جاهلون- أن الرماد الذي يشاهدونه بأم الأعين ليست تحته أية نار ملتهبة! بينما الإحساس بظلم الأقارب الذين اؤتمنوا على تطلعات الجماهير دون أن يوفوا بعهودهم في حفظ الهوية التي شاركوا في طمسها وتشويهها، إلى حد أنهم -وهم يعانقون النظام العلماني- يؤمنون بصلاحية بعض الدين، وبعدم صلاحية بعضه الآخر! إنهم يؤمنون -أو مضطرون- للإيمان بأحكام دينية تتعلق بالأسرة، في حين أنهم رافضون لتفعيل الأحكام العامة التي بها يتم تنظيم دولة إسلامية. مع العلم بأن الدين بمثابة دستور على أساسه قامت الإمبراطورية الإسلامية الكبرى في البداية. ثم إنه على أساسه قامت الدول المستقلة لاحقا عن تلك الإمبراطورية التي شهد العالم ولادتها في ظرف وجيز.

وقد ظن الكثيرون -والدكتاتوريون على رأس الحكم في البلدان العربية والإسلامية، يمارسون كل أنواع الإرهاب والظلم على المواطنين- أن من ينظرون إليهم من خلال اللباس التقليدي الذي يرتدونه، لم يضربوا بسهمهم في السياسة والاقتصاد والاجتماع. غير أن حضورهم في ساحة النضال والمقاومة والجهاد لم ينقطع قط! فصح أنهم مرشدون موجهون لجيل من الجماعات التي تزعمت المناداة بالعودة إلى الأصول والمنابع.

ولنتذكر من بين ما يجب علينا تذكره، منظمة الباسك الإسبانية، والجيش الإيرلندي السري، والحركة الثورية التي أدت إلى الإطاحة بنظام باتستا في كوبا. ولنتذكر ما يمكن أن ينال من روجوا لصور شي غيفارا أو كتاب "رأس المال" لكارل ماركس على عهد الحروب الباردة من عقوبات! لكننا اليوم أمام صور لشي غيفارا تحمل على الملابس الخارجية للنساء والأطفال والرجال! فإن كان تداول صوره في السر بالأمس القريب، فإن تداول صور أسامة بن لادن في الوقت الراهن، فرضته وسائل الإعلام المرئية والمكتوبة على القراء والمشاهدين. مع الإصرار على وصفه بالإرهابي الخطير الذي امتدت مخططاته إلى ضرب أمريكا في العمق! بحيث إننا لا نستغرب من امتدادات أفكار القاعدة وفلسفتها إلى كل اتجاه! فيكون علينا -إن نحن رغبنا في إصدار الأحكام على هذه الامتدادات مجسدة في مسمياتها- أن ننطلق من الإرهاب العلماني في أبشع صوره: إرهاب الدول الاستكبارية الذي لم يتوقف لغاية الساعة! وإنما مفعوله ما زال يسري عبر الاعتداءات المفضوحة والمقيتة على شعوب الشرق الأوسط وعلى أفغانستان الأبية الشجاعة! مرة بواسطة جحافيل من جيش مزود بأعتى أسلحة الدمار الشامل! ومرة بإلقاء أطنان من القنابل الحارقة على من يعتقد بأنهم أعداء النظام الأمريكي المتجبر! بحيث إن من يتم إحراقهم بأنواع القنابل الفتاكة التي تحملها طائرات خاصة بدون ربان، لا يرقى إلى مستواهم واحد ممن تم إعدامه حرقا إلى الحد الذي قامت فيه الدنيا ولم تقعد! بخلاف المئات ممن تم لليهود وللأمريكان في نفس المنطقة إحراقهم بدون ما شفقة ولا رحمة!!!

ثم إن هناك إلى جانب إرهاب الدول المتقدم -والذي لم نوضح سوى بعض جزئياته- إرهاب قادة العرب والمسلمين، الذي تظاهر الغرب بأنه جاد في القضاء عليه! إنما كيف يقضي عليه، وقد تدخل مرارا وتكرارا لحماية أنظمة طاغية في مختلف الدول! ولنتذكر الجزائر التي انزعج الغرب لفوز الإسلاميين فيها بمقاعد انتخابية تشكل حينها في بداية التسعينيات أغلبية ساحقة! كما انزعج مما حدث في مالي، ولم يهدأ باله إلا بعد تمكين الدكتاتور من العودة إلى السلطة! ثم انزعج لما حدث في مصر! وأبى أن يسميه انقلابا بأي ثمن، بحيث أصبحت لديه المعايير والقيم الكونية -وفي طليعتها الديمقراطية والحرية والكرامة- مجرد تلاعب بالألفاظ وذر للرماد في العيون!

دون أن ننسى دور الأحزاب العلمانية المتحالفة مع الطرفين المذكورين قبله، بحيث إن الحكام في تحالفهم مع هذه الأحزاب، أصدروا قانونا يقضي بعدم مشروعية أي حزب يقوم على أساس ديني! بينما مشروعية الحكام أنفسهم في مهب الريح! انطلاقا من التحليل الذي ارتأينا أن يترسخ مدلوله في قلوب وفي عقول الجماهير من المحيط إلى الخليج!!!  

هكذا نضع بين يدي المهتمين بشؤون شعوبنا نبراسا باعتماد ما يرسله من أنوار، يمكن تجنب الأحكام الجائرة على الأحداث، كما يمكن تجنب سيل من الفتاوى التي لا تسمن ولا تغني من جوع!!! فيكون الحل المتوقع قبول الجماهير العربية والإسلامية به، هو إلغاء مختلف العراقيل التي تحول دون قيام أحزاب إسلامية، والتي تسمح فقط بقيام أحزاب علمانية! مما يعطي انطباعا صارخا بطغيان العلمانية والعلمانيين، طغيانا لولاه، ما قامت جماعات علمانية وإسلامية بتحركات تنغص الأجواء التي كان من الممكن أن تظل سالمة من مختلف التعفنات، لولا طغيان الحكام وإصرارهم حتى الآن على النظرة الدونية إلى الشعوب، وكأن وجودها مجرد عدم لا يصح اعتباره ولا إعطاء أية قيمة له!