Thursday 4 December 2025
سياسة

حميدي: التراشق الحزبي يبرز أن الأحزاب تخلط بين التعبئة السياسية وبين التجييش

حميدي: التراشق الحزبي يبرز أن الأحزاب تخلط بين التعبئة السياسية وبين التجييش عبد الرفيع حميدي، الباحث في قضايا الشباب والسياسات العمومية
يقدّم‭ ‬الباحث‭ ‬في‭ ‬قضايا‭ ‬الشباب‭ ‬والسياسات‭ ‬العمومية‭  ‬عبد‭ ‬الرفيع‭ ‬حميدي،‭ ‬قراءة‭ ‬معمّقة‭ ‬في‭ ‬أسباب‭ ‬عودة‭ ‬خطاب‭ ‬الاتهامات‭ ‬والتجاذبات‭ ‬بين‭ ‬الأحزاب‭ ‬المغربية‭ ‬خلال‭ ‬الأشهر‭ ‬الأخيرة،‭ ‬معتبرًا‭ ‬أن‭ ‬الأمر‭ ‬يتجاوز‭ ‬الدينامية‭ ‬الديمقراطية‭ ‬إلى‭ ‬أزمة‭ ‬بنيوية‭ ‬داخل‭ ‬الحقل‭ ‬الحزبي،‭ ‬منبّهًا‭ ‬إلى‭ ‬مخاطر‭ ‬تفكك‭ ‬الانسجام‭ ‬داخل‭ ‬الأغلبية،‭ ‬وتراجع‭ ‬الوظيفة‭ ‬التشريعية‭ ‬للبرلمان،‭ ‬وتنامي‭ ‬فجوة‭ ‬الثقة‭ ‬بين‭ ‬المجتمع‭ ‬والنخب‭ ‬السياسية‭.‬
 
 
‬ما‭ ‬تقييمك‭ ‬لعودة‭ ‬لغة‭ ‬الاتهامات‭ ‬والتراشق‭ ‬الخطابي‭ ‬بين‭ ‬الأحزاب‭ ‬السياسية‭ ‬خلال‭ ‬الفترة‭ ‬الأخيرة؟‭ ‬وهل‭ ‬يعكس‭ ‬ذلك‭ ‬أزمة‭ ‬ثقة‭ ‬داخل‭ ‬الحقل‭ ‬السياسي،‭ ‬أم‭ ‬أنه‭ ‬جزء‭ ‬من‭ ‬دينامية‭ ‬التنافس‭ ‬الديمقراطي؟
عودة‭ ‬لغة‭ ‬الاتهامات‭ ‬خلال‭ ‬الفترة‭ ‬الأخيرة‭ ‬ليست‭ ‬حدثًا‭ ‬عابرًا،‭ ‬بل‭ ‬هي‭ ‬تعبير‭ ‬واضح‭ ‬عن‭ ‬هشاشة‭ ‬البنية‭ ‬الحزبية‭ ‬وضعف‭ ‬الثقافة‭ ‬التفاوضية‭ ‬داخل‭ ‬الحقل‭ ‬السياسي‭ ‬صحيح‭ ‬أن‭ ‬التنافس‭ ‬جزء‭ ‬من‭ ‬الدينامية‭ ‬الديمقراطية،‭ ‬لكن‭ ‬ما‭ ‬نشهده‭ ‬اليوم‭ ‬يتجاوز‭ ‬حدود‭ ‬التنافس‭ ‬المشروع‭ ‬ليدخل‭ ‬في‭ ‬منطق‭ ‬الاصطفاف‭ ‬العدمي‭ ‬الذي‭ ‬يعكس‭ ‬ثلاث‭ ‬أزمات‭ ‬بنيوية
أزمة‭ ‬ثقة‭ ‬داخل‭ ‬الحقل‭ ‬السياسي‭ ‬نفسه،‭ ‬فغياب‭ ‬تعاقدات‭ ‬سياسية‭ ‬مستقرة‭ ‬يجعل‭ ‬أي‭ ‬اختلاف‭ ‬بسيط‭ ‬يتحوّل‭ ‬إلى‭ ‬تراشق‭ ‬شخصي‭ ‬بدل‭ ‬صراع‭ ‬في‭ ‬الرؤى‭ ‬والسياسات‭ ‬
أزمة‭ ‬تواصل‭ ‬سياسي‭ ‬حيث‭ ‬تغلب‭ ‬الخطابات‭ ‬الشعبوية‭ ‬وردود‭ ‬الفعل‭ ‬الانفعالية‭ ‬على‭ ‬النقاش‭ ‬البرامجي‭ ‬الرصين،‭ ‬مما‭ ‬يفرغ‭ ‬الحياة‭ ‬السياسية‭ ‬من‭ ‬مضمونها‭ ‬
أزمة‭ ‬أدوار‭ ‬بعد‭ ‬توسع‭ ‬المساحات‭ ‬غير‭ ‬الحزبية،‭ ‬الرقمنة،‭ ‬الفاعلون‭ ‬الجدد،‭ ‬الاحتجاجات‭ ‬بدأت،‭ ‬بعض‭ ‬الأحزاب‭ ‬تشعر‭ ‬بضغط‭ ‬التراجع،‭ ‬فتلجأ‭ ‬إلى‭ ‬المزايدة‭ ‬والتصعيد‭ ‬بحثًا‭ ‬عن‭ ‬تموقع‭ ‬أو‭ ‬حضور‭ ‬مفقود‭ ‬
من‭ ‬هذا‭ ‬المنظور،‭ ‬ما‭ ‬يحدث‭ ‬ليس‭ ‬علامة‭ ‬صحة‭ ‬ديمقراطية،‭ ‬بل‭ ‬مؤشر‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬التنافس‭ ‬لم‭ ‬يستقر‭ ‬بعد‭ ‬داخل‭ ‬قواعد‭ ‬مؤسساتية‭ ‬واضحة
ويزداد‭ ‬المشهد‭ ‬تعقيدًا‭ ‬هذه‭ ‬السنة‭ ‬لكونها‭ ‬سنة‭ ‬انتخابية‭ ‬بامتياز،‭ ‬حيث‭ ‬تتحرك‭ ‬الحسابات‭ ‬والاستعدادات‭ ‬داخل‭ ‬الأغلبية‭ ‬والمعارضة،‭ ‬على‭ ‬حد‭ ‬سواء‭ ‬لذلك‭ ‬نرى‭ ‬حدة‭ ‬التراشق‭ ‬تتصاعد‭ ‬حتى‭ ‬داخل‭ ‬الأغلبية‭ ‬الحكومية‭ ‬نفسها‭.‬
حزب‭ ‬الاستقلال‭ ‬خرج،‭ ‬عبر‭ ‬أمينه‭ ‬العام‭ ‬نزار‭ ‬بركة،‭ ‬ليتحدث‭ ‬عن‭ ‬أن‭ ‬الغلاء‭ ‬يكوي‭ ‬جيوب‭ ‬الفقراء‭ ‬وهو‭ ‬خطاب‭ ‬يحمل‭ ‬رسائل‭ ‬سياسية‭ ‬داخلية‭ ‬أكثر‭ ‬مما‭ ‬يحمل‭ ‬مجرد‭ ‬توصيف‭ ‬اقتصادي
حزب‭ ‬الأصالة‭ ‬والمعاصرة‭ ‬دخل‭ ‬بدوره‭ ‬في‭ ‬سجالات‭ ‬حادة‭ ‬عبر‭ ‬برلمانيه‭ ‬هشام‭ ‬المهاجري،‭ ‬الذي‭ ‬وجّه‭ ‬انتقادات‭ ‬مباشرة‭ ‬لوزير‭ ‬الصحة‭ ‬المحسوب‭ ‬على‭ ‬حزب‭ ‬التجمع‭ ‬الوطني‭ ‬للأحرار
في‭ ‬المقابل،‭ ‬لم‭ ‬يتردد‭ ‬الفريق‭ ‬البرلماني‭ ‬للأحرار‭ ‬في‭ ‬انتقاد‭ ‬وزير‭ ‬العدل‭ ‬عبد‭ ‬اللطيف‭ ‬وهبي،‭ ‬الذي‭ ‬ينتمي‭ ‬بدوره‭ ‬للأصالة‭ ‬والمعاصرة،‭ ‬إلى‭ ‬درجة‭ ‬جعلته‭ ‬يصرح‭ ‬داخل‭ ‬البرلمان‭ ‬أنا‭ ‬وحدي‭ ‬اللي‭ ‬بقى‭ ‬فالأغلبية‭ ‬
أما‭ ‬في‭ ‬المعارضة،‭ ‬فإن‭ ‬المشهد‭ ‬لا‭ ‬يقل‭ ‬اضطراب‭ ‬أحزاب‭ ‬متنافرة‭ ‬إيديولوجيًا‭ ‬لم‭ ‬تستطع‭ ‬أن‭ ‬تنسق‭ ‬فيما‭ ‬بينها‭ ‬لوضع‭ ‬ملتمس‭ ‬رقابة،‭ ‬فيما‭ ‬توجد‭ ‬أحزاب‭ ‬أخرى‭ ‬بلا‭ ‬تمثيلية‭ ‬مجتمعية‭ ‬أو‭ ‬سياسية‭ ‬حقيقية‭ ‬تكتفي‭ ‬بالضجيج‭ ‬اللفظي‭ ‬لتعويض‭ ‬ضعف‭ ‬امتدادها
كل‭ ‬هذه‭ ‬العناصر‭ ‬تجعل‭ ‬عودة‭ ‬خطاب‭ ‬الاتهامات‭ ‬اليوم‭ ‬نتاجًا‭ ‬لتقاطع‭ ‬عوامل‭ ‬انتخابية‭ ‬وحزبية‭ ‬وهيكلية،‭ ‬لا‭ ‬مجرد‭ ‬حادث‭ ‬لغوي‭ ‬أو‭ ‬ظرفي‭.‬
 
إلى‭ ‬أي‭ ‬حد‭ ‬تؤثر‭ ‬هذه‭ ‬الاتهامات‭ ‬المتبادلة‭ ‬بين‭ ‬مكونات‭ ‬الأغلبية‭ ‬والمعارضة‭ ‬على‭ ‬نجاعة‭ ‬العمل‭ ‬الحكومي‭ ‬والتشريعي،‭ ‬وعلى‭ ‬صورة‭ ‬المؤسسات‭ ‬السياسية‭ ‬لدى‭ ‬المواطنين؟‭.
‬الاحتقان‭ ‬الخطابي‭ ‬بين‭ ‬مكونات‭ ‬الأغلبية‭ ‬والمعارضة‭ ‬لا‭ ‬يبقى‭ ‬حبيس‭ ‬البلاغات‭ ‬والتصريحات،‭ ‬بل‭ ‬ينعكس‭ ‬مباشرة‭ ‬على‭ ‬فعالية‭ ‬المؤسسات‭ ‬ويترك‭ ‬ثلاثة‭ ‬آثار‭ ‬سلبية‭ ‬جوهرية:
أولًا‭:‬‭‬ على‭ ‬العمل‭ ‬الحكومي،‭ ‬حين‭ ‬تتحول‭ ‬العلاقة‭ ‬داخل‭ ‬الأغلبية‭ ‬نفسها‭ ‬أو‭ ‬بينها‭ ‬وبين‭ ‬المعارضة‭ ‬إلى‭ ‬تبادل‭ ‬اتهامات،‭ ‬يصبح‭ ‬تدبير‭ ‬الملفات‭ ‬الكبرى‭ ‬رهينًا‭ ‬بالخلفيات‭ ‬والحسابات‭ ‬بدل‭ ‬منطق‭ ‬السياسات‭ ‬العمومية‭.‬
هذا‭ ‬الوضع‭ ‬يخلق‭ ‬حالة‭ ‬من‭ ‬التشكيك‭ ‬المتبادل‭ ‬تؤدي‭ ‬إلى‭ ‬غياب‭ ‬الانسجام‭ ‬في‭ ‬اتخاذ‭ ‬القرار‭ ‬وبطء‭ ‬في‭ ‬تنزيل‭ ‬الإصلاحات،‭ ‬وتعرض‭ ‬مشاريع‭ ‬حيوية‭ ‬للتجاذب‭ ‬بدل‭ ‬النقاش‭ ‬المؤسساتي‭.‬
والأخطر‭ ‬أنه‭ ‬داخل‭ ‬الأغلبية‭ ‬نفسها‭ ‬يظهر‭ ‬تفاوت‭ ‬واضح‭ ‬في‭ ‬الخطاب‭ ‬،‭ ‬منطق‭ ‬هذا‭ ‬مقترح‭ ‬من‭ ‬فريقي‭ ‬البرلماني‭ ‬مقابل‭ ‬هذا‭ ‬من‭ ‬حزبي،‭ ‬يعكس‭ ‬أن‭ ‬الأغلبية‭ ‬حذِرة‭ ‬أكثر‭ ‬مما‭ ‬هي‭ ‬منسجمة‭ ‬وأن‭ ‬فكرة‭ ‬التضامن‭ ‬الحكومي‭ ‬تكاد‭ ‬تكون‭ ‬غائبة،‭ ‬فكل‭ ‬حزب‭ ‬يسعى‭ ‬إلى‭ ‬تأمين‭ ‬موقعه‭ ‬الانتخابي‭ ‬بدل‭ ‬الدفاع‭ ‬الجماعي‭ ‬عن‭ ‬الحصيلة‭ ‬الحكومية‭.‬
وتكشف عن ذلك محطات اجتماعيه كبرى كحراك اساتذة التعاقد واحتجاج الطلبة الأطباء واحتجاجات جيل زاد عن هشاشة واضحة داخل الأغلبية في إدارة الأزمات بل وعن غياب صوت حكومي موحد قادر على احتواء التوتر وهو مايطرح سؤال مشروعا لدى الرأي العام هل الحكومة تصغي فعليا لنبض الشارع أم تحولت إلي مجرد أداة دستورية شكلية.
 
ثانيا‭:‬‭‬ على‭ ‬العمل‭ ‬التشريعي،‭ ‬البرلمان‭ ‬يفقد‭ ‬جزءًا‭ ‬مهمًا‭ ‬من‭ ‬وظيفته‭ ‬الدستورية‭ ‬عندما‭ ‬يتحوّل‭ ‬النقاش‭ ‬داخله‭ ‬إلى‭ ‬ردود‭ ‬أفعال‭ ‬مرتبطة‭ ‬بتصريحات‭  ‬أو‭ ‬سجالات‭ ‬إعلامية،‭ ‬بدل‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬نقاشًا‭ ‬مؤطرًا‭ ‬بالملفات‭ ‬والقوانين‭ ‬والبرامج‭ ‬وفي‭ ‬ظل‭ ‬هذا‭ ‬الاستقطاب‭ ‬الحاد،‭ ‬تصبح‭ ‬الجلسات‭ ‬أقرب‭ ‬إلى‭ ‬استعراضات‭ ‬سياسية‭ ‬هدفها‭ ‬تثبيت‭ ‬المواقع‭ ‬والتموقعات‭ ‬والدفاع‭ ‬عن‭ ‬المصالح‭ ‬والتشريع‭ ‬على‭ ‬المقاس،‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬كونها‭ ‬فضاءً‭ ‬تشريعيًا‭ ‬لإنتاج‭ ‬حلول‭. ‬
وكيف‭ ‬له‭ ‬ذلك‭ ‬وبعض‭ ‬البرلمانيين‭ ‬لا‭ ‬يحسنون‭ ‬القراءة‭ ‬والكتابة‭ ‬فبالأحرى‭ ‬التشريع‭ ‬الذي‭ ‬يرهن‭ ‬شعب‭ ‬بأكمله‭ ‬ومستقبل‭ ‬أمة‭.  ‬
هذا‭ ‬المناخ‭ ‬المتوتر‭ ‬يجعل‭ ‬الحوار‭ ‬البرامجي‭ ‬يغيب‭ ‬تدريجيًا،‭ ‬وتضعف‭ ‬معه‭ ‬القدرة‭ ‬على‭ ‬بلورة‭ ‬نصوص‭ ‬تشريعية‭ ‬قوية‭ ‬ومبنية‭ ‬على‭ ‬توافقات‭ ‬عقلانية‭ ‬والنتيجة‭ ‬أن‭ ‬المؤسسة‭ ‬التشريعية،‭ ‬التي‭ ‬يفترض‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬إطارًا‭ ‬للتفكير‭ ‬العمومي‭ ‬وصياغة‭ ‬السياسات،‭ ‬تتحوّل‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬اللحظات‭ ‬إلى‭ ‬ساحة‭ ‬سجال‭ ‬تُهدر‭ ‬فيها‭ ‬الطاقة‭ ‬والزمن‭ ‬السياسي‭ ‬بدل‭ ‬استثمارها‭ ‬في‭ ‬التشريع‭ ‬والرقابة.
 
ثالثًا‭:‬ على‭ ‬صورة‭ ‬المؤسسات‭ ‬لدى‭ ‬المواطنين،في‭ ‬نظر‭ ‬الشارع،‭ ‬يبدو‭ ‬السياسيون‭ ‬اليوم‭ ‬منشغلين‭ ‬أكثر‭ ‬بتبادل‭ ‬الردود‭ ‬والاتهامات‭ ‬مما‭ ‬هم‭ ‬منشغلون‭ ‬بصياغة‭ ‬الحلول‭ ‬هذا‭ ‬الانطباع‭ ‬يغذي‭ ‬فجوة‭ ‬متنامية‭ ‬بين‭ ‬المواطن‭ ‬والحياة‭ ‬السياسية،‭ ‬ويزيد‭ ‬منسوب‭ ‬العزوف‭ ‬وفقدان‭ ‬الثقة‭ ‬في‭ ‬جدوى‭ ‬المؤسسات‭.‬
ومع‭ ‬التسارع‭ ‬الرقمي‭ ‬وانتشار‭ ‬المحتوى‭ ‬في‭ ‬شبكات‭ ‬التواصل،‭ ‬تتحول‭ ‬هذه‭ ‬المشاهد‭ ‬سريعًا‭ ‬إلى‭ ‬محتوى‭ ‬فيروسي‭ ‬يعيد‭ ‬إنتاج‭ ‬الصورة‭ ‬نفسها‭ ‬"مؤسسات‭ ‬مشدودة‭ ‬إلى‭ ‬صراعات‭ ‬الفاعلين‭ ‬السياسيين‭ ‬بدل‭ ‬انشغالها‭ ‬بأولويات‭ ‬المجتمع"،‭ ‬وهكذا‭ ‬تتكرس‭ ‬في‭ ‬الوعي‭ ‬العام‭ ‬فكرة‭ ‬مفادها‭ ‬أن‭ ‬السياسة‭ ‬باتت‭ ‬لعبة‭ ‬مواقع،‭ ‬لا‭ ‬فضاءً‭ ‬عموميًا‭ ‬لحل‭ ‬الأزمات‭ ‬والتفكير‭ ‬في‭ ‬المستقبل‭.‬
 
ما‭ ‬هي‭ ‬مسؤولية‭ ‬الأحزاب‭ ‬السياسية‭ ‬في‭ ‬الحد‭ ‬من‭ ‬الاحتقان‭ ‬السياسي‭ ‬وإعادة‭ ‬الاعتبار‭ ‬للنقاش‭ ‬العمومي‭ ‬الرصين؟‭ ‬وما‭ ‬المقترحات‭ ‬العملية‭ ‬التي‭ ‬ترى‭ ‬أنها‭ ‬كفيلة‭ ‬بإعادة‭ ‬بناء‭ ‬الثقة‭ ‬بين‭ ‬الفاعلين‭ ‬السياسيين‭ ‬وبين‭ ‬هؤلاء‭ ‬والمجتمع؟
‬الأحزاب‭ ‬تتحمّل‭ ‬جزءًا‭ ‬وافيًا‭ ‬من‭ ‬مسؤولية‭ ‬حالة‭ ‬الاحتقان‭ ‬السياسي‭ ‬الراهنة،‭ ‬لأنها‭ ‬كثيرًا‭ ‬ما‭ ‬تخلط‭ ‬بين‭ ‬التعبئة‭ ‬السياسية‭ ‬والتجييش،‭ ‬وبين‭ ‬الاختلاف‭ ‬المشروع‭ ‬والمزايدة،‭ ‬وبين‭ ‬النقد‭ ‬البنّاء‭ ‬وخطاب‭ ‬التبخيس‭. ‬هذا‭ ‬الخلط‭ ‬يجعل‭ ‬الفعل‭ ‬الحزبي‭ ‬ينزاح‭ ‬عن‭ ‬وظائفه‭ ‬الأصلية‭ ‬في‭ ‬التأطير‭ ‬والاقتراح،‭ ‬ويتحوّل‭ ‬في‭ ‬لحظات‭ ‬الأزمات‭ ‬إلى‭ ‬مصدر‭ ‬توتر‭ ‬إضافي‭ ‬بدل‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬آلية‭ ‬للتوازن
ولإعادة‭ ‬الاعتبار‭ ‬للنقاش‭ ‬العمومي‭ ‬وإعادة‭ ‬بناء‭ ‬الثقة‭ ‬بين‭ ‬الفاعلين‭ ‬السياسيين‭ ‬والمواطنين‭.‬
هناك‭ ‬أربعة‭ ‬مسارات‭ ‬عملية‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تشكّل‭ ‬مدخلًا‭ ‬حقيقيًا‭ ‬لتصحيح‭ ‬الاتجاه.
أولا‭ :‬ترسيخ‭ ‬ثقافة‭ ‬التنافس‭ ‬البرامجي،‭ ‬إذ‭ ‬على‭ ‬الأحزاب‭ ‬أن‭ ‬تنتقل‭ ‬من‭ ‬منطق‭ ‬الخطب‭ ‬القصيرة‭ ‬ولغة‭ ‬الشعارات‭ ‬السريعة‭ ‬إلى‭ ‬منطق‭ ‬البدائل‭ ‬المبنية‭ ‬على‭ ‬أرقام‭ ‬ومعطيات‭ ‬ودراسات‭. ‬فالتنافس‭ ‬السياسي‭ ‬الحقيقي‭ ‬لا‭ ‬يُقاس‭ ‬بحدة‭ ‬التصريحات‭ ‬بل‭ ‬بقدرة‭ ‬كل‭ ‬طرف‭ ‬على‭ ‬تقديم‭ ‬حلول‭ ‬واقعية‭ ‬ومقاربات‭ ‬متمايزة‭.‬
وحين‭ ‬يصبح‭ ‬النقاش‭ ‬صراع‭ ‬برامج‭ ‬لا‭ ‬صراع‭ ‬مواقف‭ ‬ظرفية،‭ ‬تستعيد‭ ‬السياسة‭ ‬معناها‭ ‬ووظيفتها،‭ ‬ويجد‭ ‬المواطن‭ ‬أمامه‭ ‬نقاشًا‭ ‬عموميًا‭ ‬راشدًا‭ ‬يفهم‭ ‬بفضله‭ ‬اتجاهات‭ ‬الأحزاب‭ ‬واختياراتها‭ ‬بدل‭ ‬الاكتفاء‭ ‬بمتابعة‭ ‬سجالات‭ ‬لا‭ ‬تنتج‭ ‬حلولًا‭.‬
 
ثانيا‭:‬‭‬ تجديد‭ ‬الوساطة‭ ‬السياسية،‭ ‬تحتاج‭ ‬الأحزاب‭ ‬اليوم‭ ‬إلى‭ ‬إعادة‭ ‬هيكلة‭ ‬أدوارها‭ ‬كوسيط‭ ‬أساسي‭ ‬بين‭ ‬الدولة‭ ‬والمجتمع،‭ ‬بما‭ ‬يعيد‭ ‬لها‭ ‬مكانتها‭ ‬الطبيعية‭ ‬داخل‭ ‬منظومة‭ ‬الوساطة‭ ‬ويتحقق‭ ‬ذلك‭ ‬عبر‭ ‬ثلاثة‭ ‬مسارات‭ ‬متكاملة
تفعيل‭ ‬التنظيمات‭ ‬الموازية،‭ ‬خصوصًا‭ ‬تنظيمات‭ ‬الشباب‭ ‬والنساء‭ ‬والمهنيين‭ ‬والهيئات‭ ‬القطاعية،‭ ‬حتى‭ ‬تستعيد‭ ‬الأحزاب‭ ‬قدرتها‭ ‬على‭ ‬إنتاج‭ ‬النخب‭ ‬وتجديد‭ ‬خطابها‭ ‬من‭ ‬داخل‭ ‬المجتمع‭ ‬لا‭ ‬من‭ ‬خارجه‭.‬الانفتاح‭ ‬على‭ ‬الخبراء‭ ‬والباحثين‭ ‬لإغناء‭ ‬النقاش‭ ‬العمومي‭ ‬بمعطيات‭ ‬ودراسات‭ ‬علمية‭ ‬بدل‭ ‬ردود‭ ‬الفعل‭ ‬السريعة،‭ ‬مما‭ ‬يرفع‭ ‬من‭ ‬جودة‭ ‬المقترحات‭ ‬والسياسات
إعادة‭ ‬بناء‭ ‬قنوات‭ ‬الإصغاء‭ ‬للمواطنين‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬العودة‭ ‬إلى‭ ‬التواصل‭ ‬الميداني،‭ ‬والاستماع‭ ‬المباشر‭ ‬لنبض‭ ‬الفئات‭ ‬والجهات،‭ ‬بدل‭ ‬الاكتفاء‭ ‬بقياسات‭ ‬الرأي‭ ‬الافتراضي‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تعكس‭ ‬دائمًا‭ ‬الواقع‭ ‬الاجتماعي‭.‬
إن‭ ‬تفعيل‭ ‬هذه‭ ‬الدينامية‭ ‬من‭ ‬شأنه‭ ‬إعادة‭ ‬وصل‭ ‬ما‭ ‬انقطع‭ ‬بين‭ ‬المجتمع‭ ‬وفاعليه‭ ‬السياسيين،‭ ‬وإعادة‭ ‬الاعتبار‭ ‬للدور‭ ‬الوسيط‭ ‬للأحزاب‭ ‬باعتبارها‭ ‬حلقة‭ ‬حيوية‭ ‬في‭ ‬دورة‭ ‬الثقة‭ ‬والديمقراطية.
 
ثالثًا‭:‬ اعتماد‭ ‬ميثاق‭ ‬أخلاقي‭ ‬للتواصل‭ ‬السياسي،‭ ‬من‭ ‬الضروري‭ ‬اليوم‭ ‬اعتماد‭ ‬ميثاق‭ ‬أخلاقي‭ ‬ملزم‭ ‬يضبط‭ ‬آليات‭ ‬التواصل‭ ‬السياسي‭ ‬داخل‭ ‬البرلمان‭ ‬وخارجه،‭ ‬ويضع‭ ‬حدودًا‭ ‬واضحة‭ ‬لخطاب‭ ‬التبخيس‭ ‬والتحريض‭ ‬ويربط‭ ‬المسؤولية‭ ‬بـالمحاسبة‭ ‬الخطابية‭ ‬تمامًا‭ ‬كما‭ ‬نربطها‭ ‬بالمحاسبة‭ ‬المالية‭ ‬والتنظيمية‭ ‬فالمشهد‭ ‬السياسي‭ ‬لا‭ ‬يستقيم‭ ‬ما‭ ‬دام‭ ‬الخطاب‭ ‬منفلتًا‭ ‬من‭ ‬الضوابط‭ ‬وما‭ ‬دامت‭ ‬الكلمات‭ ‬تُستعمل‭ ‬كسلاح‭ ‬سياسي‭ ‬بدل‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬أداة‭ ‬توضيح‭ ‬وبناء‭. ‬وهنا‭ ‬أستغرب‭ ‬كيف‭ ‬لأمين‭ ‬عام‭ ‬لحزب‭ ‬سياسي‭ ‬أن‭ ‬ينقلب‭ ‬من‭ ‬فاعل‭ ‬سياسي‭ ‬يبحث‭ ‬عن‭ ‬حلول‭ ‬مجتمعية‭ ‬سياسية‭ ‬وٱقتصادية‭ ‬إلى‭ ‬تيكتوكر‭ ‬جالس،‭ ‬قائم،‭ ‬نائم،‭ ‬في‭ ‬الوسائط‭ ‬الإجتماعية‭ ‬ينشر‭ ‬الشعبوية‭ ‬المقيتة‭ ‬التي‭ ‬تقتل‭ ‬الخطاب‭ ‬السياسي‭ ‬الرصين‭. ‬
فجودة‭ ‬الحياة‭ ‬السياسية‭ ‬تبدأ‭ ‬من‭ ‬جودة‭ ‬الخطاب‭ ‬لأنه‭ ‬البوابة‭ ‬الأولى‭ ‬التي‭ ‬تعبر‭ ‬منها‭ ‬الثقة‭ ‬أو‭ ‬يتسرب‭ ‬منها‭ ‬الشك‭ ‬فإذا‭ ‬رُفع‭ ‬منسوب‭ ‬الرصانة،‭ ‬وانخفضت‭ ‬حرارة‭ ‬السجالات،‭ ‬أمكن‭ ‬للسياسة‭ ‬أن‭ ‬تستعيد‭ ‬احترامها‭ ‬ومكانتها‭ ‬لدى‭ ‬المواطنين
رابعا‭:‬‭ ‬تقوية‭ ‬التنسيق‭ ‬داخل‭ ‬الأغلبية‭ ‬واحترام‭ ‬أدوار‭ ‬المعارضة،‭ ‬حين‭ ‬تكون‭ ‬الأغلبية‭ ‬منسجمة‭ ‬في‭ ‬رؤيتها‭ ‬وأولوياتها،‭ ‬وحين‭ ‬تكون‭ ‬المعارضة‭ ‬قوية‭ ‬ومؤسسية‭ ‬وتقوم‭ ‬بوظيفتها‭ ‬الدستورية‭ ‬بوضوح،‭ ‬يتحوّل‭ ‬النقاش‭ ‬السياسي‭ ‬إلى‭ ‬فضاء‭ ‬أكثر‭ ‬مهنية‭ ‬وأقل‭ ‬عرضة‭ ‬للانزلاق‭ ‬نحو‭ ‬الاتهامات‭ ‬والتجاذبات‭ ‬الشخصية‭.‬
فالصراع‭ ‬السياسي،‭ ‬حين‭ ‬يُؤطر‭ ‬بالقانون‭ ‬والعُرف‭ ‬البرلماني‭ ‬والسياسي،‭ ‬لا‭ ‬يكون‭ ‬مصدر‭ ‬توتر‭ ‬أو‭ ‬احتقان‭ ‬بل‭ ‬رافعة‭ ‬للتطوير‭ ‬والابتكار‭ ‬في‭ ‬السياسات‭ ‬العمومية،‭ ‬ويصبح‭ ‬أداة‭ ‬لتعزيز‭ ‬التوازن‭ ‬بين‭ ‬الأطراف‭ ‬المختلفة‭ ‬بدل‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬ساحة‭ ‬لتصفية‭ ‬الحسابات‭.