قرار الأمم المتحدة بوقف خدمة المينورسو في مُخيّمات تندوف، حيث مُخيمات إقامة قيادة البوليساريو وميليشياتها، دليل آخر على عزم الأمم المتحدة توفيرَ شروط سَرَيان قرار مجلس الأمن فيها، الخاص بالنزاع حول الصحراء المغربية، نحو هدفه، وخلال الأشهر العشرة من سنة 2026...وذلك معناه أن تيندوف لا حاجة لها بالمينورسو وساكنتها مَدعوة لمغادرتها...
الدليل الآخرَ على جدِّية الأمم المتحدة، في تنزيل قرار مجلس الأمن، هو إصدار الترجمة الرسمية لذلك القرار، والتي نصَّت على الأطراف الأربعة المعنية بمفاوضات حلِّ النزاع، بإقرار الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية... وهي الترجمة التي قطعَت مع مُحاولات تأويل نصِّ قرار مجلس الأمن بحصر النِّزاع بين طرفيْن فقط، هما المغرب والبوليساريو، وإبعاد الجزائر، وهي "الكلُّ في الكل" في منازعة حقِّ المَغرب في صحرائه... وبذلك يكون أمام مبعوث الأمم المتحدة للنزاع السيد ديميستورا كُنَّاش تحمُّلات واضحٍ لمباشرة مفاوضات الحل... لديْه أطرافُها ولديْه قاعدتها ولديْه مَجالها الزمني... "كناشٌ" بَلورته الإرادة الدولية...
الجزائر تستمر ترَدِّد لغة َما قبل 2007... تاريخ دخول مبادرة الحكم الذاتي مُختبر البحث الدولي عن حلٍّ سلمي واقعي، عادلٍ ودائمٍ لنزاع الصحراء... ومُقترح الحكم الذاتي هو اليوم قرار دولي... له أسبابُ نزوله من تطورات النزاع نفسه، ولكن له أيضا سيّاقٌ دولي يحمله وقد وجد فيه مَعبَرًا مَتينًا وموصِلا إلى إخماد مَوقد توَتُّرٍ ومُشاحنات وتشنجات بين الجزائر والمغرب، دام نصف قرن وفي منطقة حسّاسة في الوضع الدولي، مؤثرة على الأبيض المتوسط وعلى شمال إفريقيا... وهو نزاع توارى إلى خلف أوليات الصراع الدولي حاليا، وأضحى شاذا فيه ومُزعِجًا له فحسب...
المغرب بادل الأمم المتحدة جدِّيتها، وقد سارع إلى تحيين مُقترحه، بعد 18 سنة من إطلاقه، بسَبْر آراء الأحزاب السياسية، الممثَّلة في البرلمان، بمبادرة من الملك محمد السادس، وهو ما يُملِئ المُقترح المغربي بالتعبير عن الإرادة الوطنية المغربية وبمنحه قوة المشاركة الشعبية في صياغته... هذا، وقد سرى في المغرب انشغال وطني بمسار حل النزاع، ويلمس ذلك من خلال اجتماعات المشاورات السياسية في كُبْرَيَات المدن الصحراوية، كما يلمس ذلك من خلال تكاثر الندوات التي انْتَظمت لتوضيح ومناقشة واقتراح تصورات لتنزيل الحكم الذاتي، في الجامعات ومراكز التفكير وفي المنتديات الحزبية...
البوليساريو تردد ما تردده الجزائر... لَغْوُ ما قبل 2007، من نوع المطالبة بالاستفتاء... والحالُ أن الأمم المتحدة هي التي أقرَّت باستحالة إجراء الاستفتاء، على لسان جيمس بيكر مبعوث الأمين العام، سنة 2003، ومن يومها وهي تبحث عن حلٍّ سياسي آخر ونوعي... وقد اقتنعت بمقترح الحكم الذاتي...
لن يطول بالبوليساريو تِرْداد ما هو أضحى على الطرَّة وما لا أحد في الفضاء الدولي يُصغي إليه وبالأحرى أن يتجاوب معه... هي تلعب فقط خارج الملعب، وخارج الوقت الرسمي وفي هوامش الملعب الرسمي، وبكرة رَثّة وغير مُعتمدَة من الأمم المتحدة، الراعي الرسمي للحل الواقعي، العادل والدائم للنزاع...
لا مفر للبوليساريو من الذهاب إلى نهاية لُعبَتِها بوَهم إنشاء دوَيْلة في الصحراء المغربية... ليس من مسار مفتوح لها حاليا، عدا عن انضباطها للقرار الدولي والانخراط في مفاوضات تنزيل الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية... ولو بَعد عِنادٍ ومُمَاطلةٍ ومُحاوَلة التمَلُّص...
حركات انفصالية عديدة، مماثلة للبوليساريو، في العالم، وخلال سنوات مَضت وحتى هذه السنة، انتهت إلى وَضع سلاحها وتحوُّلها إلى أحزابٍ سياسية وانْخراطها في البِنيات السياسية لبلدانها، سواء كفاعل داخلي أو كمدبِّر لحكم ذاتي في الإقليم موضوع النزاع... والبوليزاريو ذاهبة إلى نفس التحوُّل ونفسُ المآل...
حزب العمال الكردِستاني، أعلَن في فاتح مَارس من السنة الجارية حلَّ نفسه وتسليم سلاحه والاندماج في الحياة السياسية التركية، بعد حواليْ خمسون سنة من الكفاح المسلح للانفصال بإقليم كردستان تركيا... وقد كان حركةً مسلحة بآلاف من المقاتلين ولها مواقع عسكرية في شمال العراق، وتقوم على عُصبَة كردية ممزوجة بتوابل ثورية... وهي خصائص لا تملك البوليساريو مماثل لها، لا في نسيجها الاجتماعي ولا في تأطيرها الايديولوجي...
حركات انفصالية أو متمردة عديدة في العالم، انتهت إلى العمل السياسي بعد تغيير توجهاتها، رغم ممارستها للعنف المسلح لسنوات... من نوع القوات المسلحة الثورية في كولومبيا والتي قضت حوالي خمسين سنة في التمرد ضد الحكومة الكولومبية، منذ أن تأسست سنة 1964، وإلى 2016، حين عقدت اتفاق سلام وشكلت حزبا سياسيا لتنْدَمِج في الحياة السياسية الكولومبية...
وهي نفس حالة الجيش الجمهوري الإيرلندي الذي كان يهدف إلى توحيد إيرلاندا، وكافح عسكريا حوالي 30 سنة ضد الجيش البريطاني، إلى أن وضع سلاحه وشكل حزبا سياسيا هو "شين فين" ليشارك في الانتخابات ويحرز على مَواقع في الحكومة... ذلك ما سلكته جبهة الفارابوندو مارتي في السلفادور سنة 1992، بعد سنوات من الصراع المسلح ضد القوات الحكومية... وأيضا ذلك ما نهجته جبهة مورو الإسلامية في سنة 2012، والتي عارضت عسكريا الحكومة الفيليبينية منذ 1984... وتلك، عينات وحسب من حركات أنهكتها ممارسة العنف المسلح، وقد كانت لها قناعة عميقة، انفصالية أو سياسية، فوضعت سلاحها واندمجت في البنيات السياسية الداخلية في بلدانها...
حالة البوليساريو أيْسَر في ما هي لا بد مقبلة عليه، قناعة أو كرْها... لأنها حركة وُلِدَت في "أنبوب"... مُفتَعَلَة ومُرَكبَة على قياس عداء جزائري للمغرب... وستنكشف للعالم حين تخضع لاختبار "تحديد هويتها البشرية"، خلال عبورها إلى الوطن المغربي، تنزيلا للحكم الذاتي... في تقديرات فحص أصول سكان تيندوف، لا تتجاوز نسبة ذوي الأصول المغربية 30 في المئة... يعيش بينهم موريتانيون وماليون وجماعات أخرى ساقتها إلى المخيمات الحاجات الحياتية في منطقة صحراوية جَردَاء وجافة، فضلا على استقطابات حركات إرهابية وعصابات إجرام متعدد "التخصصات"، تعج بها المنطقة، جنوب الجزائر...
ولعل ذلك الانكشاف هو ما يُخيف قيادات البوليساريو، المستفيدة من عائدات "وَضعها الثوري"، لأنها ستفقد مِظلَّة الممثل الوحيد "للشعب الصحراوي"، وهي تنْدَمِج في الفضاء الصحراوي المغربي الحقيقي، وسط أغلبية سكان الأقاليم الصحراوية المغربية، والتي ملأت مغربية الصحراء بوجودها وبجهودها وصمودها في وجه عواصف الشعارات وغبار الوَهم الانفصالي...
ساعة الحقيقة دقَّت... وضياؤها يخترق الوهم الانفصالي... ولا حُضن أمام البوليساريو أرحب ولا أدفأ من الوطن... لمن استعاد أو استنشق النَّفَس الوطني...