يعيش الإنسان اليوم في زمن تتداخل فيه الحقيقة مع ما يلمع فوق الشاشات. يتحرك في عالمين في آن واحد: عالم يخضع لقوانين الطبيعة، وآخر تحكمه إشارات لا تنتهي. يظن أنه يمسك زمام يومه، لكنه يكتشف كلما تقدم أن الخيط الذي يقوده أصبح أرفع مما كان، وأن حضوره وسط هذا السيل من المعلومات لم يعد بالصلابة التي كان يعرفها. وبين الرغبة في مواكبة العصر والخوف من فقدان الذات، يبرز سؤال صامت يتعاظم كل يوم: من يقود من؟ الإنسان أم التقنية؟
عبء الاتصال الدائم
لم يعد الإنسان يملك رفاهية الغياب. أصبح متصلا حتى وهو يبحث عن لحظة راحة. يرتفع صوته وسط ضجيج رقمي لا يهدأ، لكنه يشعر في أعماقه أنه أقل حضورا مما كان عليه من قبل.
تكمن المشكلة في هذا الامتزاج بين الحاجة والاعتماد. ما يبدأ كأداة مساعدة يتحول رويدا إلى عادة، ثم إلى ضرورة، ثم إلى جزء من بنية الوعي.
وهنا يتغير شيء عميق: يفقد الإنسان تلك المسافة الداخلية التي تسمح له بأن يراجع نفسه ويصوغ أفكاره بعيدا عن ضغط اللحظة.
تآكل الانتباه
صار الانتباه أثمن من الوقت.
تتنازع المنصات عقل الإنسان كما تتنازع الريح أوراقا خفيفة. يتنقل من معلومة إلى أخرى، ومن صورة إلى أخرى، حتى يفقد القدرة على التعمق في أي شيء.
تتنازع المنصات عقل الإنسان كما تتنازع الريح أوراقا خفيفة. يتنقل من معلومة إلى أخرى، ومن صورة إلى أخرى، حتى يفقد القدرة على التعمق في أي شيء.
لا يعود قادرا على الجلوس مع فكرة واحدة طويلا، لأن عالمه صار مبنيا على الإشارات السريعة.
وهكذا يولد إنسان جديد، يعرف الكثير من الأشياء السطحية، لكنه يجد صعوبة في بناء فكرة متماسكة أو رؤية كاملة.
تقل الكلمات في رأسه، وتقل المسافات التي كان يقضيها في التفكير، فتتضاءل معه قدرته على منح الأحداث معناها الحقيقي.
خيوط خفية تحرك الرغبات
قد يظن الإنسان أنه يختار ما يشاهده وما يتابعه وما يفضله، لكنه لا ينتبه إلى أن الخوارزميات ترسم له الطريق من خلف الستار.
تمنحه ما يشبه الحرية، لكنها حرية محددة بإطار غير مرئي، لا يفرض رأيه بالقوة، بل بالإغراء والتكرار.
لا شيء يدفع الإنسان إلى التساؤل أكثر من هذا:
لماذا تظهر له بعض الأفكار باستمرار؟
ولماذا تختفي أخرى وكأنها لم توجد؟
ومع مرور الوقت، ينسى أن العالم أوسع بكثير مما تتيحه له شاشته، ويتحول وعيه تدريجيا إلى مساحة ضيقة تسكنها الخيارات نفسها.
تضخم العالم الخارجي وانكماش الداخل
التقنية تمنح الإنسان قدرة هائلة على الوصول إلى كل شيء، لكنها في الوقت نفسه تسحب منه القدرة على العودة إلى نفسه.
تتوسع آفاقه الرقمية، بينما يضيق فضاؤه الداخلي.
كان الإنسان قديما يستند إلى صمته ليستعيد توازنه، أما اليوم فالصمت أصبح ترفا نادرا.
يغدو الإنسان محاطا بفيض لا يتوقف من الأفكار، حتى لا يعود يعرف أيها ينتمي إليه وأيها تسلل إليه وهو غافل.
إنه يعيش في عالم كبير من الخارج، صغير من الداخل.
تتوسع آفاقه الرقمية، بينما يضيق فضاؤه الداخلي.
كان الإنسان قديما يستند إلى صمته ليستعيد توازنه، أما اليوم فالصمت أصبح ترفا نادرا.
يغدو الإنسان محاطا بفيض لا يتوقف من الأفكار، حتى لا يعود يعرف أيها ينتمي إليه وأيها تسلل إليه وهو غافل.
إنه يعيش في عالم كبير من الخارج، صغير من الداخل.
هشاشة جديدة تتسلل إلى الروح
يتولد عن هذا كله شعور مبهم، يصعب تسميته لكنه حاضر في ملامح الناس وحركتهم وطريقة نظرهم إلى المستقبل.
شعور بأن شيئا ما يبتعد.
شيء يشبه الاتزان الذي كان يجعل الإنسان يعرف ما يريد دون أن يسأله أحد، ويمضي نحو هدفه دون أن ينتظر ما تعرضه عليه الشاشات.
هذه الهشاشة ليست ضعفا، بل نتيجة طبيعية لعالم يطلب من الإنسان أن يكون متيقظا دائما، ومتاحا دائما، ومتفاعلا دائما.
لكن الإنسان بطبيعته لا يستطيع أن يعيش في حالة استنفار مستمر من دون أن يفقد جزءا من صفائه.
شعور بأن شيئا ما يبتعد.
شيء يشبه الاتزان الذي كان يجعل الإنسان يعرف ما يريد دون أن يسأله أحد، ويمضي نحو هدفه دون أن ينتظر ما تعرضه عليه الشاشات.
هذه الهشاشة ليست ضعفا، بل نتيجة طبيعية لعالم يطلب من الإنسان أن يكون متيقظا دائما، ومتاحا دائما، ومتفاعلا دائما.
لكن الإنسان بطبيعته لا يستطيع أن يعيش في حالة استنفار مستمر من دون أن يفقد جزءا من صفائه.
ما الذي سنحمله معنا إلى الغد؟
في عالم تتسارع فيه الإشارات وتشتد فيه الاضواء، لم يعد السؤال عن موقفنا من التقنية، بل عن موقفنا من ذواتنا. فالقيمة الحقيقية لا تقاس بما نضيفه من أدوات، بل بما نحافظ عليه من وعي وسط هذا السيل المتدفق.
هل نستطيع صون تلك المساحة الداخلية التي لا تصل اليها الخوارزميات؟ وهل يقدر صوتنا العميق على الظهور في زمن يعلو فيه الضجيج المصنوع؟
هل نستطيع صون تلك المساحة الداخلية التي لا تصل اليها الخوارزميات؟ وهل يقدر صوتنا العميق على الظهور في زمن يعلو فيه الضجيج المصنوع؟
قد نمضي الى الغد محاطين بأجهزة أذكى وبيانات أدق، لكن ما سيحدد ملامح ذلك الغد هو قدرتنا على ان نظل أعمق من الصورة وأثبت من الضوء. فالقوة ليست في إمتلاك التقنية، بل في ألا نسمح لها أن تنتزع جوهرنا. فإذا خفت هذا الجوهر، خفت معه ما يبقى من الانسان في عالم لا يعرف التوقف.