Wednesday 3 December 2025
كتاب الرأي

سعيد يقطين: أنا بورغواطي.. جنون الهوية

سعيد يقطين: أنا بورغواطي.. جنون الهوية سعيد يقطين
لو سمعتَ من يقول: أنا بورغواطي، وأفتخر، وهو يعلل هويته وانتماءه البورغواطي الذي جعله محل الافتخار، بسبب كونهم أولا موريين، وأنهم ثانيا، قاوموا الأمويين، وثالثا لهم قرآن «معظّم» بلغتهم، وقلتَ له على سبيل المعارضة: أنا أموي وأفتخر، مفسرا ذلك بكون الأمويين أنشأوا دولة وحضارة وكان دورهم طليعيا في الحضارة العربية الإسلامية، وفي الغرب أيضا، ولأنهم تركوا آثارا مادية وثقافية ما تزال قائمة، وأن جزءا من نمط حياتهم وثقافتهم له حضور في الحياة اليومية المغربية، لكنتَ أنت وإياه على حد سواء، رغم البون بين الثرى والثريا وبين البورغواطيين والأمويين، والموريين والمغاربة، وموقع كل منهما في التاريخ.

إن إعلان الهوية والانتماء، بهذا الشكل، لا يكون سوى حذلقة يائسة لتشكيل هوية سردية متخيلة، يدعيها المتأولون للتاريخ وهم يجسدونها في شخص، أو حركة سياسية. وهذا تعبير على أن عندهم مشكل هوية. إن كل من يبحث عن ذاته في التاريخ، وينتقي منه ما يخدم أهواءه، ويسعى من خلال ذلك إلى تشكيل هوية وهمية تجُبُّ ما بعدها، لا حاضر له ولا مستقبل. إن الزعم بأننا نجهل تاريخنا حق أريد به باطل. فنحن لا نعرف تاريخنا المعاصر واليومي بله القديم.

أثار السجال حول بورغواطة نقاشا ينطلق من الحاضر لينتقل إلى الماضي، الذي يدعو إليه ذو نزوع عرقي ضد كل ما هو عربي وإسلامي. يتدخل أحدهم، مساندا، ليقول، إن النقاش حول بورغواطة لا علاقة له بالدين، وعلينا أن نقوم به علميا. وهذا منطق سليم، ولكنه يخفي كون أساسَ النقاش عرقي لدى من يدعي العلمية، وكل من يسير في اتجاهه. وهذا لا يحتاج إلى بيان. فالقول إن بورغواطة تمثله لأنها ضد العرب لا يخفي عرقيته ولا علميته في التعامل مع التاريخ.

إن الدراسة العلمية ليس محلها وسائل التواصل الشعبي، لذلك كانت إثارة هذا السجال العقيم غطاء على افتعال صراع بين العروبة والإسلام من منظور عرقي، وهو ليس جديدا، ولا علاقة له بالعلم ولا بالمعرفة التاريخية. وما يبين ذلك هو التعامل مع الوثائق التاريخية. إنه، أولا، تعامل انتهازي وتأويلي وتضليلي. فكل المصادر المعتمدة في الحديث عن بورغواطة عربية. تُنتقد هذه الوثائق بدعوى أن أصحابها عرب، وأنهم متأخرون زمانيا. يفرض الموقف العلمي عدم التعامل معها، والبحث عن غيرها مما يقدم المادة «الصحيحة». وثانيا، يتم الارتكاز على ما تقدمه هذه الوثائق المرفوضة، فيما يرون أنها تخدم تصورهم، فيكون التأول، وتجنب ما يسيء إلى ما يدافعون عنه. وحتى هذه الوثائق تقرأ محرفة دون الانتباه إلى التصحيفات. فميسرة تم نعته بالحقير في كل النصوص، ولكن المؤرخ يقرِؤه «الخفير»، ولا يستحيي؟ وثالثا، يتم اختزال الشواهد فتوجه إلى نقيض ما تتضمنه. يقرأ ما ورد عن إلياس بأنه كان «مسلما» و»عفيفا»، لأنه لم يفهم معنى «أظهر» الإسلام والعفاف من باب التقية: «لقد عهد إلى ابنه إلياس بديانته، وأمره ألا «يُظهِر» ذلك إلا إذا قوي أمره، وحينئذ يدعو إلى مذهبه ويقتل من خالفه فيه من قومه». ولا علاقة لذلك برحلة يونس إلى الشرق، فصالح سبقه إليه.

سبق للبورغواطي المعاصر تناول القضية منذ عامين، وعاد في أواخر 2025. لا ريب أنه بعد البحث المضني في المخطوطات في مكتبات العالم، وبعد عثوره ليس فقط على النص غير الموجود للقرآن الموري، ولكن أيضا على الأحاديث الصحيحة، التي لا يطعن فيها صاحب «البخاري»، ولا يشكك في علومه وأفكاره زميله العقلاني العلماني، ليعلن أنه بورغواطي، وأن البورغواطية تمثله، مستندا في ذلك إلى أن صالحا مقاوم أولا، و»خليفة المؤمنين» ثانيا، ومصلح ومفكر ثالثا. وهو في كل هذا يراه يمثل القيم السامية المورية المناقضة للمشرقية المنحطة. لا نختلف في أن صالحا كان متمردا، وكان عنده طموح تأسيس إمارة. والتمرد والطموح مشروع لكل من يقاوم بحق الظلم والفساد. وعاصرته إمارات أخرى لم يدع أي منها ما انتحله البورغواطي. لكن أن يعتبر خليفة ومصلحا فهذا تأويل لا يقبله أي منطق سليم. إنه مشعوذ (السحر) ودجال (التنجيم) ومتبنٍ للتقية، ولا علاقة له بالديمقراطية، وهو يورث السلطة لأبنائه. لقد استخف عقول العامة فأطاعوه، وادعى النبوة بعد اطلاعه على بعض الهرطقات المشرقية (مقلد بليد). وفي هذا الادعاء كذب على الرسول (صلى الله عليه وسلم)، واستغل حديثه محرفا إياه إلى: «لا: نبيٌّ بعدي»، بزعمه أن اسمه «لآ»، وأنه النبي المقصود، برفعه الياء في نبي. ويبدو دجله في ادعاء أنه «صالح» المؤمنين المذكور في القرآن، وأنه المهدي المنتظر…

إن الحديث العلمي لا يقتنص من المادة التاريخية ما يرضي مدعيه، ويتجنب الخوض فيما يُعريه. أين هي الأخلاق المورية التي يضمها قرآن بورغواطة، الذي يدعي صاحبه أنه نبي و»خليفة المؤمنين»؟ لماذا لم يكن «ديمقراطيا» مع منكري خرافاته؟ لماذا عمل البورغوطي بعد الظهور، على قتل من لم يؤمن بالهرطقة البورغواطية حتى «أخلى ثمانمئة موضع من مواضع البربر، بل إنه قتل منهم سبعة آلاف ونحو سبعمئة». فهل أُنكرتْ نحلته لأسباب دينية أم عرقية؟ وهل كانت دعوته مورية أم نحلة سياسية؟ لقد استمرت البورغواطية ثلاثة قرون، فما هي المدن العامرة التي شيدتها؟ وأين المعابد التي تركتها؟ وما هي النصوص والأحاديث المروية التي خلفتها؟ وبأي اللهجات «أنزل» النص وبأي حرف كُتب؟ وإلى أين امتد الدين البوررغواطي؟ قارن الموريين البورغواطيين بما تركه صقر قريش، والمولى إدريس في بضع سنوات؟ وقارن بما فعله المرابطون والموحدون في قرن واحد فقط ليبرز الحق العربي الإسلامي جليا أمام الباطل الموري البورغواطي. انهارت خرافة بورغوطة ومعها كل الأباطيل المصاحبة لها على يد المسلمين المغاربة عربا وأمازيغ.

بأي معنى يقول امرؤ عاقل إن حركة هرطقية أو سياسية تمثله بعد قرون على انقراضها، وأنه ينتمي إليها، ويفتخر بها؟ ماذا يقدم افتخارك ببورغواطة، أو غيرها، تاريخيا؟ هل تفتخر بهم لأنهم قاوموا الأمويين، وإن استنصروهم ضد خصومهم البربر؟ ماذا ستطور في «البورغواطية»؟ تربية الديكة التي تؤذن للصلاة؟ أم إباحة تعدد الزوجات إلى ما لا نهاية؟ جنون هوية وتعظيمها يُعمي ويصم، ويُعرِّض صاحبه لتصبح «عبادته للأسلاف»، وانتشاؤه بـ»نوستالجيا الأصول»، مرضا عقليا عضالا لا شفاء له ولا فكاك منه.