Friday 1 August 2025
سياسة

سعيد التمسماني: خارطة الطريق الحقوقية في المغرب.. رؤية ملكية لإصلاح جذري ومستدام

 
سعيد التمسماني: خارطة الطريق الحقوقية في المغرب.. رؤية ملكية لإصلاح جذري ومستدام رؤية ملكية تؤسس لإصلاح حقوقي شامل ومستدام يعزز كرامة المواطن ويدمج الحقوق في السياسات العمومية
منذ‭ ‬اعتلاء‭ ‬جلالة‭ ‬الملك‭ ‬محمد‭ ‬السادس‭ ‬عرش‭ ‬المملكة،‭ ‬اتخذ‭ ‬المغرب‭ ‬مساراً‭ ‬إصلاحياً‭ ‬غير‭ ‬مسبوق‭ ‬في‭ ‬مقاربته‭ ‬لقضايا‭ ‬حقوق‭ ‬الإنسان‭. ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬الأمر‭ ‬مجرّد‭ ‬تحسينات‭ ‬تقنية‭ ‬أو‭ ‬استجابة‭ ‬ظرفية‭ ‬لضغوط‭ ‬دولية،‭ ‬بل‭ ‬تعبيراً‭ ‬عن‭ ‬قناعة‭ ‬استراتيجية،‭ ‬نابعة‭ ‬من‭ ‬رؤية‭ ‬ملكية‭ ‬تعتبر‭ ‬أن‭ ‬كرامة‭ ‬المواطن‭ ‬وحقوقه‭ ‬وحرياته‭ ‬هي‭ ‬ركيزة‭ ‬البناء‭ ‬الديمقراطي‭ ‬والتنمية‭ ‬المستدامة،‭ ‬وليست‭ ‬مجرّد‭ ‬شعارات‭ ‬سياسية‭.‬

رؤية‭ ‬ملكية‭ ‬تؤسس‭ ‬لمنظور‭ ‬شمولي
التحول‭ ‬الحقوقي‭ ‬في‭ ‬المغرب‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬عفوياً‭ ‬ولا‭ ‬فئوياً،‭ ‬بل‭ ‬تأسّس‭ ‬على‭ ‬مشروع‭ ‬مجتمعي‭ ‬متكامل‭ ‬صاغ‭ ‬معالمه‭ ‬جلالة‭ ‬الملك،‭ ‬وجعل‭ ‬فيه‭ ‬من‭ ‬حقوق‭ ‬الإنسان،‭ ‬بكل‭ ‬أجيالها‭ ‬(المدنية،‭ ‬والسياسية،‭ ‬والاقتصادية،‭ ‬والاجتماعية،‭ ‬والثقافية)،‭ ‬محوراً‭ ‬أساسياً‭ ‬في‭ ‬تعاقد‭ ‬الدولة‭ ‬مع‭ ‬المواطن‭. ‬هذه‭ ‬المقاربة‭ ‬اتسمت‭ ‬بثلاث‭ ‬خصائص‭ ‬جوهرية:
الشمولية‭:‬‭‬ حيث‭ ‬لم‭ ‬تقتصر‭ ‬الإصلاحات‭ ‬على‭ ‬الحقوق‭ ‬الفردية‭ ‬فقط،‭ ‬بل‭ ‬امتدت‭ ‬إلى‭ ‬تعزيز‭ ‬الحقوق‭ ‬الجماعية،‭ ‬وحقوق‭ ‬الفئات‭ ‬الهشة،‭ ‬وحقوق‭ ‬المرأة،‭ ‬والطفل،‭ ‬وذوي‭ ‬الاحتياجات‭ ‬الخاصة،‭ ‬والمهاجرين‭.‬

‭‬التدرج‭ ‬والواقعية‭:‬ إدراكاً‭ ‬لخصوصيات‭ ‬السياق‭ ‬الوطني‭ ‬والتوازنات‭ ‬المجتمعية،‭ ‬اختار‭ ‬المغرب‭ ‬نهج‭ ‬التدرج‭ ‬في‭ ‬الإصلاح،‭ ‬دون‭ ‬قفز‭ ‬على‭ ‬الواقع،‭ ‬لكن‭ ‬دون‭ ‬التفريط‭ ‬في‭ ‬المبادئ‭. ‬إصلاح‭ ‬مدونة‭ ‬الأسرة‭ ‬مثلاً‭ ‬لم‭ ‬يأتِ‭ ‬دفعة‭ ‬واحدة،‭ ‬بل‭ ‬عبر‭ ‬توافق‭ ‬مجتمعي‭ ‬ومؤسساتي‭ ‬يعكس‭ ‬التوازن‭ ‬بين‭ ‬الحداثة‭ ‬والأصالة‭.‬

المأسسة‭ ‬والاستدامة:‭  ‬من‭ ‬هيئة‭ ‬الإنصاف‭ ‬والمصالحة،‭ ‬إلى‭ ‬المجلس‭ ‬الوطني‭ ‬لحقوق‭ ‬الإنسان،‭ ‬ومن‭ ‬تعزيز‭ ‬استقلال‭ ‬القضاء‭ ‬إلى‭ ‬إدماج‭ ‬حقوق‭ ‬الإنسان‭ ‬في‭ ‬السياسات‭ ‬العمومية،‭ ‬تتجلّى‭ ‬إرادة‭ ‬سياسية‭ ‬عليا‭ ‬لتحصين‭ ‬المكتسبات‭ ‬داخل‭ ‬مؤسسات‭ ‬دائمة‭ ‬وقادرة‭ ‬على‭ ‬التفاعل‭ ‬والتطور‭.‬

من‭ ‬العدالة‭ ‬الانتقالية‭ ‬إلى‭ ‬التمكين‭ ‬الحقوقي
يُعد‭ ‬إحداث‭ ‬هيئة‭ ‬الإنصاف‭ ‬والمصالحة‭ ‬سنة‭ ‬2004‭ ‬علامة‭ ‬فارقة‭ ‬في‭ ‬المشهد‭ ‬الحقوقي‭ ‬العربي،‭ ‬حيث‭ ‬اختار‭ ‬المغرب‭ ‬الاعتراف‭ ‬بماضيه،‭ ‬وجبر‭ ‬ضرر‭ ‬الضحايا،‭ ‬وفتح‭ ‬صفحة‭ ‬جديدة‭ ‬تقوم‭ ‬على‭ ‬المصالحة‭ ‬مع‭ ‬الذات‭. ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬هذا‭ ‬مجرّد‭ ‬تصفية‭ ‬حسابات‭ ‬مع‭ ‬الماضي،‭ ‬بل‭ ‬كان‭ ‬تمهيداً‭ ‬لإصلاحات‭ ‬بنيوية‭ ‬شملت‭ ‬النظام‭ ‬القضائي،‭ ‬وحرية‭ ‬الصحافة،‭ ‬والآليات‭ ‬الرقابية،‭ ‬والتنصيص‭ ‬الدستوري‭ ‬على‭ ‬الحريات‭ ‬الأساسية‭.‬

دستور‭ ‬2011‭ ‬جاء‭ ‬ليترجم‭ ‬هذه‭ ‬الرؤية‭ ‬في‭ ‬نص‭ ‬قانوني‭ ‬أعلى،‭ ‬حيث‭ ‬أكد‭ ‬على‭ ‬سمو‭ ‬الاتفاقيات‭ ‬الدولية،‭ ‬وعلى‭ ‬استقلال‭ ‬القضاء،‭ ‬وعلى‭ ‬المساواة‭ ‬الكاملة‭ ‬بين‭ ‬المواطنين،‭ ‬وعلى‭ ‬مبدأ‭ ‬المناصفة‭ ‬بين‭ ‬الرجال‭ ‬والنساء‭. ‬كما‭ ‬تضمّن‭ ‬التزام‭ ‬الدولة‭ ‬بحماية‭ ‬الحريات،‭ ‬والحق‭ ‬في‭ ‬الوصول‭ ‬إلى‭ ‬المعلومة،‭ ‬وربط‭ ‬المسؤولية‭ ‬بالمحاسبة‭.‬
 
تجربة‭ ‬رائدة‭ ‬في‭ ‬سياق‭ ‬إقليمي‭ ‬معقد
في‭ ‬محيط‭ ‬إقليمي‭ ‬تهتز‭ ‬فيه‭ ‬الحقوق‭ ‬بفعل‭ ‬الأزمات‭ ‬السياسية‭ ‬والصراعات‭ ‬الداخلية،‭ ‬استطاع‭ ‬المغرب‭ ‬أن‭ ‬يقدّم‭ ‬نموذجاً‭ ‬مغايراً،‭ ‬يجمع‭ ‬بين‭ ‬الاستقرار‭ ‬والانفتاح،‭ ‬ويُوازن‭ ‬بين‭ ‬سيادة‭ ‬القرار‭ ‬الوطني‭ ‬والانخراط‭ ‬في‭ ‬المنظومة‭ ‬الحقوقية‭ ‬الدولية‭. ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬أكسب‭ ‬التجربة‭ ‬المغربية‭ ‬احتراماً‭ ‬متزايداً‭ ‬في‭ ‬المنتديات‭ ‬العالمية،‭ ‬باعتبارها‭ ‬مساراً‭ ‬نابعاً‭ ‬من‭ ‬الداخل،‭ ‬لا‭ ‬مفروضاً‭ ‬من‭ ‬الخارج‭.‬

لقد‭ ‬عبّر‭ ‬المغرب‭ ‬في‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬مناسبة،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬خطاباته‭ ‬الرسمية‭ ‬ومواقفه‭ ‬في‭ ‬المحافل‭ ‬الدولية،‭ ‬عن‭ ‬التزامه‭ ‬الثابت‭ ‬بخيار‭ ‬الديمقراطية‭ ‬وحقوق‭ ‬الإنسان،‭ ‬كجزء‭ ‬من‭ ‬هوية‭ ‬الدولة‭ ‬الحديثة،‭ ‬وليس‭ ‬كامتياز‭ ‬ظرفي‭. ‬وتمثل‭ ‬مشاركة‭ ‬المغرب‭ ‬النشطة‭ ‬في‭ ‬آليات‭ ‬الأمم‭ ‬المتحدة،‭ ‬واستقباله‭ ‬لمقررين‭ ‬خاصين،‭ ‬وتفاعله‭ ‬مع‭ ‬الملاحظات‭ ‬الأممية،‭ ‬دليلاً‭ ‬عملياً‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬الانخراط‭ ‬المسؤول‭.‬
 
نحو‭ ‬جيل‭ ‬جديد‭ ‬من‭ ‬الحقوق
رغم‭ ‬ما‭ ‬تحقق،‭ ‬فإن‭ ‬المغرب‭ ‬لا‭ ‬يركن‭ ‬إلى‭ ‬الاكتفاء،‭ ‬بل‭ ‬يفتح‭ ‬أوراشاً‭ ‬جديدة‭ ‬تتطلب‭ ‬مزيداً‭ ‬من‭ ‬التقدم،‭ ‬مثل‭ ‬الحريات‭ ‬الفردية،‭ ‬والنهوض‭ ‬بحقوق‭ ‬النساء،‭ ‬وتجديد‭ ‬مدونة‭ ‬الأسرة،‭ ‬وتعزيز‭ ‬حقوق‭ ‬الجيل‭ ‬الثالث‭ ‬(الحق‭ ‬في‭ ‬بيئة‭ ‬سليمة،‭ ‬والتحول‭ ‬الرقمي،‭ ‬وحماية‭ ‬المعطيات‭ ‬الشخصية…).‭ ‬وهي‭ ‬تحديات‭ ‬تُطرح‭ ‬اليوم‭ ‬في‭ ‬سياق‭ ‬وطني‭ ‬يعرف‭ ‬تحولات‭ ‬مجتمعية‭ ‬عميقة،‭ ‬وتطلعات‭ ‬متزايدة‭ ‬من‭ ‬طرف‭ ‬الشباب‭ ‬والنخب‭ ‬الجديدة‭.‬

خلاصة
خارطة‭ ‬الطريق‭ ‬الحقوقية‭ ‬التي‭ ‬أسس‭ ‬لها‭ ‬جلالة‭ ‬الملك‭ ‬محمد‭ ‬السادس‭ ‬ليست‭ ‬مجرّد‭ ‬برنامج‭ ‬مرحلي،‭ ‬بل‭ ‬رؤية‭ ‬دولة،‭ ‬ومنهج‭ ‬إصلاحي‭ ‬متدرج،‭ ‬يجعل‭ ‬من‭ ‬الإنسان‭ ‬جوهر‭ ‬السياسات‭ ‬العمومية،‭ ‬ومن‭ ‬الحقوق‭ ‬والحريات‭ ‬مضموناً‭ ‬فعلياً‭ ‬لا‭ ‬رمزياً‭. ‬إنها‭ ‬تجربة‭ ‬قابلة‭ ‬للتطوير،‭ ‬لكنها‭ ‬تستند‭ ‬إلى‭ ‬أرضية‭ ‬صلبة‭ ‬من‭ ‬التراكمات‭ ‬المؤسساتية‭ ‬والثقافية‭ ‬والسياسية،‭ ‬ما‭ ‬يجعلها‭ ‬جديرة‭ ‬بالتقدير،‭ ‬وجديرة‭ ‬بأن‭ ‬تُستكمل‭ ‬بنفس‭ ‬النفس‭ ‬الإصلاحي‭ ‬والجرأة‭ ‬السياسية‭.‬
 
في‭ ‬زمن‭ ‬التراجعات‭ ‬الحقوقية‭ ‬والانغلاق،‭ ‬يقدّم‭ ‬المغرب‭ ‬نموذجاً‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬الإصلاح‭ ‬لا‭ ‬يعني‭ ‬الفوضى،‭ ‬والانفتاح‭ ‬لا‭ ‬يعني‭ ‬القطيعة‭ ‬مع‭ ‬الذات،‭ ‬بل‭ ‬هو‭ ‬فنّ‭ ‬التوفيق‭ ‬بين‭ ‬الأصالة‭ ‬والمعاصرة،‭ ‬بين‭ ‬السيادة‭ ‬والانخراط،‭ ‬وبين‭ ‬الاستقرار‭ ‬والتحول‭. ‬‮ ‬