عاش متتبعو الشأن العام والمهتمون بعلم الإحصاء ورصد التحولات الاجتماعية والاقتصادية فترات من التجاذبات حول تقييم السياسات العمومية وتطور الأسعار وأرقام البطالة. تسعى الحكومة إلى قراءة متسرعة للنتائج المتوقعة من تنفيذ قانون المالية، بينما تقرأ مؤسسات الحكامة، مثل المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي والمندوبية السامية للتخطيط، بعد إخضاع كل المعطيات لأصول الإحصاء والبحث الميداني. وهكذا تختلف القراءات حول سوق الشغل وسوق المواد الغذائية وأثر التضخم على تراجع القوة الشرائية للمواطنين. يخضع الخطاب الحكومي للإيقاع السياسي، بينما تتميز القراءة الاقتصادية بهدوء منهجي ومؤشرات متفق عليها عالمياً. سيغيب عن هذه المؤسسات أحمد رضا الشامي، الذي أنعش المجلس الاقتصادي وأزعج الحكومة.
تظل المندوبية السامية للتخطيط مؤسسة ذات تاريخ في التعامل مع علم الإحصاء وأساليب البحوث الميدانية حول الأسعار التي تهم مئات مكونات الطلب المحلي. يجب اعتبار هذه المؤسسة، كما تعتبرها الأمم المتحدة وصندوق النقد الدولي ومجموعة البنك الدولي، مؤسسة مهنية ذات خبرة ومصداقية. ولهذا، خسر كل مسؤول سياسي حاول اعتبار أرقام وزارته أكبر وأدق وأقرب إلى الحقيقة من المندوبية السامية للتخطيط. وينسى وزراء التجارة والصناعة والفلاحة أن مؤشرات الاقتصاد لا تخضع فقط لأرقام اتفاقيات الاستثمار أو التسجيل في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي. الأمر يتعلق بقراءة شاملة لكل مكونات الاقتصاد، خصوصاً في العالم القروي، وتنويع العلاقات المتحكمة في كافة أساليب إنتاجه والعمل في فروعه وتوزيع مردوديته. علم الإحصاء له قواعده التي لا تخضع للزمن السياسي والانتخابي. وهذا ما سيضع، حتماً، شكيب بن موسى في مواجهة منتجي الخطاب السياسي لتبرير دخوله في معترك كبير بعد حوالي سنتين.
قال سلفه في المنصب ما لم يصرح به من قبل، وهو أن أسباب التضخم أصبحت، بفعل السياسات، ذات طابع بنيوي. سيتضرر المغاربة من آثار التضخم خلال السنوات المقبلة، وستزداد قساوة هذا التضخم إذا تم المس بسعر الصرف واستمرت أحلام الحكومة وبنك المغرب في التغني بإدخال "شيء من المرونة" إلى سوق الصرف. يعتبر كل تلاعب بسعر صرف الدرهم مغامرة قد تنتج تداعيات اجتماعية خطيرة. وتعتبر السياسة المالية والاقتصادية ذلك القطاع الذي يجب أن يؤثر على الاختيارات في مجال التبادل التجاري والتعامل مع الاستثمار الخارجي.
يمكن قراءة تعيين شكيب بنموسى على رأس المندوبية السامية للتخطيط كخطوة في الرفع من مستوى تتبع تطور التعاطي مع إشكالية التنمية. ركز تقرير النموذج التنموي الجديد الذي أشرف عليه المندوب السامي الجديد على آلية تتبع تنفيذ الإصلاحات المطلوبة لتنزيل النموذج التنموي الجديد. نعم، نحتاج إلى كثير من الحرية والفصل بين مهام السلطات، ووجب كسر كل الحواجز التي تعيق تقييم السياسات العمومية. ويجب أن يتم تذكير الحكومة والبرلمان بأن الخطاب حول المنجزات يجب أن يخضع للتحليل الموضوعي لواقع الحال. لا يزال المواطن يرزح تحت نير التضخم، ومن المستحيل أن ينجو من آثار سياسات ليبرالية همجية في الأجل المنظور. قد يشكك الناطق الرسمي الحالي للحكومة أو المقبل في معطيات قد تصدر عن المندوبية السامية للتخطيط، وقد تأخذ طابعاً سياسياً بعد سنتين. ولكن شكيب بن موسى سيظل، وذلك هو المؤمل، مهنياً وموضوعياً في قراءة الواقع كما هو. وستظل المندوبية السامية للتخطيط وسيلة تستحق التقدير وتخضع للنقد المهني. وسيظل الانتظار الكبير هو أن ترتفع هذه المؤسسة إلى مستوى تقييم مسار النموذج التنموي الجديد. ولنعلم جيداً أن الناتج الداخلي الإجمالي لبلادنا لا يزال ضعيفاً، وأن القطائع السياسية مع النموذج الحالي أوجب الواجبات.