في سياق المعطيات الأخيرة التي جاءت على لسان المندوب السامي للتخطيط الأستاذ أحمد لحليمي في موضوع "بوادر الجوع والندرة"، في اعتقادي الشخصي أن الوقوف على مثل هذه الخلاصات الخطيرة، لا يتطلب جهدا كبيرا في الدراسة والتحليل وتشخيص واقع الوضعية الإقتصادية والإجتماعية والإنسانية، حيث يكفي التجوال بين مرافق أي سوق أسبوعي بالعالم القروي أو بالمناطق شبه الحضرية لاكتشاف المستوى المتدني الذي وصل إليه المواطن البسيط من قهر اجتماعي بفعل الغلاء والفقر.
من خلال جولة بين مرافق السوق الأسبوعي، تكتشف أن الفلاح البسيط الذي كان يعول على منتوجاته الزراعية والفلاحية لضمان الحد الأدنى من العيش الكريم، لم يعد قادرا في يومنا هذا على توفير قفة العيش لأفراد أسرته، في الوقت الذي يتألم ويتحسّر لسماع ثغاء رؤوس الأغنام وخوار أبقاره ـ على قلتها ـ وكأنها تستجديه وتستعطفه للظفر بوجبة من الأعلاف التي باتت حلما ومن بين سابع المستحيلات، أمام غلاء أسعارها التي تضاعفت (الشعير ونُخَّالَةْ وتِبْنْ...) بفعل الجفاف وتأخر التساقطات المطرية خلال بداية موسم الحرث.
بالعين المجردة داخل مختبر السوق الأسبوعي يستشف الإنسان أنه لم يعد لهذا الفضاء الاجتماعي والاقتصادي لا طعم، ولا رائحة، بعدما تراجعت حركته التجارية منذ الجائحة، وشحّت روافده المالية، وتقلصت معاملاته على جميع المستويات، بل أن جولة سريعة بمرافقه المتعددة تعطي الإنطباع بأنه لم يعد تلك الوجهة المحببة للمواطنين والمواطنات بالعالم القروي أو بالمناطق شبه الحضرية، في الوقت الذي لم يعد باستطاعة الفلاح البسيط الولوج لمرافقه بهمة عالية وهو يتبادل السلام والتحية مع معارفه من الكسابة والفلاحة وتجار الحبوب والأعلاف، ويشمّر على ساعديه لبيع منتوجاته الزراعية والفلاحية أو ما جادت به الْمَطْمُورَةْ والزْرِيبَةْ من خيرات توالد رؤوس الأغنام والأبقار وأنواع الطيور (دجاج بلدي وديك رومي) وبيض وسمن دون الحديث عن ما كانت تبدعه أنامل المرأة القروية من نسيج (جلابة وبطانية وزرابي..).
في اعتقادنا أن السبب الرئيسي في هذا التحول نحو "بوادر الفقر والندرة" هو الغلاء الفاحش الذي استباح جيوب البسطاء، وحرمهم عنوة من عاداتهم وتقاليدهم الجميلة التي ألفوها داخل فضاء السوق الأسبوعي الذي كان قبلة للوافدين على مرافقه لخلق الحركة الدؤوبة برحبة البهائم، وبمقاهيه الشعبية، ووسط رحبة الحبوب والقطاني، وبين خيم العطارة والخضارة والجزارة، وبائعي الحلويات مرورا بـ "رحبة لَحْلَايْقِيَةْ"...
الأخطر من ذلك وحسب شهادة أحد تجار العطرية فإن السوق الأسبوعي لم يعد وجهة محببة لتجار (حنطة العطرية)، بعدما تراكمت الديون على الزبناء من ساكنة القرى والبوادي المحيطة والقريبة من السوق: "أصبح السوق الأسبوعي نقطة سوداء بطعم الخسارة لتجار العطرية" في إشارة إلى تحمل تكاليف "محروقات الشاحنة واليد العاملة والصّنك ومصاريف أخرى". وأكد نفس المتحدث أن هناك حرف أخرى بدأت تنقرض من السوق بفعل الفقر والغلاء وظاهرة لكريدي، وقلة الرواج التجاري مع ندرة وغلاء الكثير من المواد الاستهلاكية.
ارتباطا بهذا الواقع المؤلم والمرير سجلت جريدة "أنفاس بريس" أن هناك ركوضا على مستوى حركة التبضع واقتناء مواد استهلاكية أساسية مثل اللحوم الحمراء (البقر والغنم) التي عرفت تصاعدا مضطردا في الأسعار (ما بين 90 و 100 درهم) حيث يفضل المواطن شراء "دجاجة رومية" يقسم أطرافها على أيام الأسبوع بمشقة الأنفس. أو شراء قطع من لحم "بيبي" الذي عرف بدوره ارتفاعا ملحوظا.
دليلنا في هذا المؤشر التراجعي ما صرح به أحد المواطنين حيث أكد على أن "ورقة 200 درهم لم تعد تكفي قفة الخضر بعيدا عن ذكر مادة اللحم ودون الحديث عن التوابل والزيت ومواد أخرى أضحت حلما بالنسبة للمطبخ بالعالم القروي وشبه الحضري". وتساءل نفس المواطن بقوله: "من أين لمياوم يشتغل بـ (الْمَوْقَفْ) أن يحصل على ورقة مالية من فئة 200 درهم لسد خصاص البطون الجائعة".
مؤشر آخر لا يقل خطورة عن ما سبق ذكره، وهو المتعلق بظاهرة التسول التي أخرجت أسر بكاملها للبحث عن كسرة خبز، وجوه جديدة لم تكن معروفة ضمن جحافل المتسولين أضحت تمد يدها لمن يجود عليها بحبات خضر وقطعة لحم تبعد عنها شبح الجوع. هن نساء وهم رجال وأطفال يبدعون في صيغ التسول بفعل الحاجة والندرة والفقر.