الأربعاء 27 نوفمبر 2024
كتاب الرأي

موسى مريد: احتجاجات أساتذة المغرب.. أزمة مدرسة وانتفاضة كرامة

موسى مريد: احتجاجات أساتذة المغرب.. أزمة مدرسة وانتفاضة كرامة موسى مريد
يعيش المغرب منذ أكتوبر الماضي على وقع احتجاجات وإضرابات متتالية شلت الدراسة بمختلف المدارس العمومية في البلاد، وذلك مباشرة بعد صدور النظام الأساسي الجديد لرجال ونساء التعليم من طرف وزارة السيد شكيب بنموسى. هذا النظام الجديد لم يكن في اعتقادنا، إلا الشعلة التي أوقدت نار الغضب الكامن منذ سنوات في نفوس نساء ورجال التعليم. فالمشاركة المكثفة في الإضراب، ونجاح المسيرات الضخمة التي نظمها الأساتذة ودعت لها تنسيقياتهم المختلفة التي لا تعترف بها الدولة، هو نتيجة حتمية لتراكم الخيبات وكثرة الملفات التي لم تجد أبدا طريقها للحل، وتعبير عن انفجار غضب الأساتذة ضحايا التماطل والتسويف، بسبب عدم تنفيذ الانفاقات الكثيرة السابقة من طرف الحكومات المتعاقبة، وأيضا بسبب إحساس دفين بالحكرة لدى نساء ورجال التعليم نتيجة معاناتهم التي طالت عقودا، و تعرضوا خلالها لكل أشكال الاضطهاد والظلم سواء من الحكومة أو من جزء من المجتمع، ظلم عمودي وأفقي، من طرف المسؤولين الحكوميين والإداريين، من رؤساء حكومات ومن وزراء، من بعض المدراء وبعض المسؤولين المباشرين، وأيضا من تفشي ظاهرة الاعتداء الجسدي و اللفظي والمعنوي على الأساتذة من طرف بعض الأفراد..
 
فالسياسات الحكومية المتعاقبة التي أغلقت سبل الحوار وتملصت من الاتفاقات والالتزامات الموقعة منذ عقدين من الزمن، وخططت ونفذت خطيئة العمل بالتعاقد، واقتطعت من أجور المضربين، وجعلت الأساتذة وحدهم من يدفعون فاتورة إصلاح غير مكتمل لأزمة صناديق التقاعد التي لم يتسببوا فيها أصلا، إضافة الى فشل كل الإصلاحات الفوقية التي جاء بها الوزراء المتعاقبون على القطاع، والفساد والنهب الذي مس ميزانيات ضخمة رصدت للقطاع دون أي أثر إيجابي على المدرسة العمومية وعلى المدرسين.. كل هذه العوامل مجتمعة، أدت في المجمل الى ما يمكن تسميته بانتفاضة الكرامة، حيث انفجرت أمام الحكومة كقنبلة انشطارية، وفي لحظة واحدة، عشرات الملفات والمطالب المادية والرمزية والفئوية والقانونية والبيداغوجية..
 
المشكلة الكبيرة التي زادت الأمر تعقيدا، تجلت في غياب مؤسسات نقابية تمثيلية قوية وعقلانية ومسموعة من طرف الأساتذة، فسنوات الحكرة والظلم الذي تعرض له الأساتذة، أنتجت نقابات ضعيفة، بدون ارتباط حقيقي بالقواعد، تبدو ككائنات معلقة في الهواء، ولا تعبر عن نبض المدرسة ولا عن تطلعات الأساتذة، وزادها ضعفا كثرة الانشقاقات والصراعات الداخلية، وفقدان الاستقلالية، وغياب الديمقراطية الداخلية وسيادة البيروقراطية.. فروعها في الغالب أصبح يسيطر عليها من لا ينتج جملة نضالية، ومن لا يفهم في النقابة غير ممارسة (السخرة) لقضاء الأغراض الإدارية وجمع الانخراطات.. ولهذا لم تستطع قيادة هذه النقابات، التي تجاوزتها الأحداث، تأطير هذا الحراك، والفعل فيه وتوجيهه الوجهة الصحيحة، بل لم تستطع حتى فهمه، ولا استغلال ميزان القوى الجديد الذي فرضه نجاح الحراك الأستاذي للتفاوص من موقع قوة وبالتالي استعادة مكانتها لدى فئات واسعة من المدرسين، عبر الضغط من أجل تحقيق مطالبهم. بل لقد زادت قطيعتها معهم، نتيجة ضعفها البين في إدارة الحوار، وغياب نتائج ملموسة تقنع الأساتذة بالعودة إلى أقسامهم، إذ كيف يعقل مثلا، أن إضراب الأساتذة، لم ينتج عنه في النهاية، سوى تحقيق مزيد من المكتسبات لفئات لا تحسب على المدرسين ولم تشاركهم احتجاجاتهم أصلا؟! وكيف لا تستطيع هذه النقابات تحقيق مطالب أستاذية ملحة لا تكلف خزينة الدولة سنتيما واحدا ؟!.
 
لا يتعلق الأمر هنا إذن في العمق والجوهر باحتجاجات أستاذية مشروعة مطالبة بتحسين الأجور و ظروف العمل، بل إن المشكلة الكبرى في اعتقادنا، تكمن في توجه الدولة نحو تطبيق إملاءات المؤسسات الأمبريالية الدائنة، ونهجت سياسة نيوليبرالية متوحشة في قطاع اجتماعي حيوي يمس مصير وحاضر ومستقبل شعب بأكمله وهو قطاع التربية والتعليم، فلقد عمدت الدولة الى تشجيع القطاع الخاص الذي صار قطاعا طفيليا ريعيا يتمدد كل يوم على حساب المدرسة العمومية، وأوجدت الوزارة الوصية للمدرسة العمومية ترسانة قانونية واعتمدت وصفات وأنتجت قاموسا يمتح من ثقافة المقاولات، بل لقد صرح مسؤولون حكوميون غير ما مرة علنا بأن التعليم العمومي أصبح عبئا على الدولة! وأن الحل يكمن في تشجيع القطاع الخاص! وأن من أراد تعليم أطفاله عليه أن يدفع، وأن المجانية انتهت عمليا بعد المصادقة على ما يسمى القانون الإطار، وأن الخوصصة الشاملة للمدرسة العمومية طبقت فعليا حين ارتكبت خطيئة تشغيل الأساتذة بموجب عقود..
 
وخلاصة القضية، فإن المدرسة المغربية تعيش أزمة وجود وأزمة فكرة وأزمة معنى، وعلى الدولة والفاعلين الانتباه الى أن الحراك الأستاذي ليس إلا تعبيرا عن هذه الأزمة الخطيرة، التي لا يمكن حلها الحل الصحيح في اعتقادنا سوى بالحوار الوطني المفتوح و الهادئ، والذي يمكن عبره للدولة و القوى الحية في المجتمع والمثقفين، من إعادة النظر والحسم في المشروع المجتمعي ككل، والذي يستطيع أن تنتقل به البلاد من نظام المخزن الى نظام ديمقراطي ومن اقتصاد الريع الى اقتصاد تضامني، مشروع مجتمعي يجعل من المدرسة العمومية مشتلا لإنتاج الثروة، وليست مجرد عبء على الميزانية، مشروعا يقطع مع مدرسة المقاولة المراد لها خدمة الباطرونا الريعية وإمدادها بما تحتاجه من يد عاملة رخيصة خانعة، وينتقل بالمغرب الى مدرسة العلم والمعرفة، مدرسة منتجة لجيل ناهض متشبع بكل القيم السامية ، مدرسة الكرامة والمساواة والعدالة الاجتماعية.
 
موسى مريد/ أستاذ وفاعل سياسي