الآن برزت الأهداف الخفية من وراء فرض حكومة العثماني لضريبة 150 درهم على الموظفين الذين يعادل أو يفوق أجرهم الشهري 10.000 درهم شهريا.
فظاهريا بررت الحكومة فرض تلك الضريبة (على الموظفين والمقاولات) بالحاجة لتأمين مورد استثنائي يضخ لفائدة صندوق "التماسك الاجتماعي"، الذي سبق إحداثه عام 2012. لكن عمليا حكومة العثماني وجدت نفسها في ورطة لتأمين نفقات الانتخابات التشريعية لعام 2021 وتمويل حملة الأحزاب بحكم الضائقة المالية الكارثية التي يجتازها المغرب نتيجة تداعيات كورونا، فاهتدت إلى الحائط القصير: ألا وهو الموظف المتوسط والمقاولات التي بالكاد تتنفس أوكسيجينا قليلا لتستمر في نشاطها وتحافظ على مناصب الشغل.
فالمبلغ الخاص لتمويل حملة الأحزاب في الانتخابات التشريعية لعام 2021 يصل إلى 4.000.000.000 درهم (أي 400 مليار سنتيم)، والمبلغ المتوقع مصه من جيوب الموظفين والمقاولات بفعل الضريبة الجديدة هو 5 مليار درهم (500 مليار سنتيم)، وبالتالي ستضرب الحكومة بهذه الإجراء الضريبي الجديد، عصفورين بحجر واحد: من جهة "ستنشط الحكومة البطولة لفائدة أحزابها وبرلمانييها"، ومن جهة ستخدر الرأي العام بأن التضريب الجديد يروم التماسك الاجتماعي، والحال أنها ضريبة لضمان "تماسك الريع والغنيمة".
المفجع أن هذا الرقم الفلكي (4 ملايير درهم لتمويل الانتخابات المقبلة)، سيضاف له رقم صاروخي آخر يتمثل في 6 ملايير درهم لتمويل الولاية التشريعية القادمة (تعويضات أعضاء غرفتي البرلمان والجهات ومجالس الأقاليم وباقي الجماعات الترابية)، أي ما يمثل 10 مليار درهم في المجموع العام.
من هنا السؤال الحارق: هل فعلا تستحق ديمقراطية المغرب الفقير، صرف هذا المبلغ الباهض على الانتخابات وعلى ممتهني السياسة ومحترفي سبي الغنيمة، علما أن المغاربة لم يلمسوا تحسنا في تدبير شؤونهم عبر آلية الانتخاب ومصاصي البزولة؟
لنقلب الآية ونطرح سؤال آخر (حتى لا نتهم بالعدمية): إن كان لزاما على المغرب المعدوم والمأزوم أصلا، أن يتبنى الانتخابات وما يتبعها من آليات وطوابق مؤسساتية (برلمانية وحكومية وترابية)، فهل من الضروري أن تكون لديه حكومة مكونة من 25 وزيرا، وبرلمان يضم 515 فردا بغرفتيه، وجماعات بحوالي 32.000 منتخب محلي (جماعات ومجالس العمالات والجهات)؟
ألا يوجد عقلاء بالمغرب ليوقفوا هذا العبث: شعب يموت "بالفقصة"، بينما الخزينة تخصص 10 ملايير درهم لتسمين وتعليف نخب حزبية، أضحت عالة على المغاربة بدل أن تكون قاطرة لجر البلاد نحو الأحسن؟
ألا يوجد حكماء بالبلد ليوقفوا هذا النزيف الذي يدمي القلب؟
لنتخيل فقط (أقول لنتخيل): لو قرر عقلاء المغرب الوقوف لحظة وتقرر شفط الوحدات الترابية الزائدة وتقليص أعداد المنتخبين بالبرلمان وباقي الجماعات الترابية إلى النصف، فإن الخزينة العامة ستوفر 5 ملايير درهم لولاية تشريعية كاملة (حملة انتخابية وتعويضات للمنتخبين)، وهو مبلغ مهم يسمح بتلبية حاجيات أساسية للمواطنين (شراء طوبيسات أو مد قنوات الماء أو تعبيد المسالك أو شراء سكانير لتجهيز المستشفيات أو بناء نفق تيشكا لفك الحصار عن مغرب الجنوب الشرقي، أو شراء سفينتين حربيتين لفائدة البحرية الملكية لمراقبة 3500 كلم من السواحل، إلخ....)
ها هي الدول المتمدنة والقوية اقتصاديا والغنية بمواردها البشرية المتعلمة والمكونة أمامكم.. هل نجد لديها تضخما في المنتخبين والبرلمانيين والوزراء؟ هل نصادف فيها إسهالا في الريع والغنيمة لسياسيين مفصولين عن الشعب؟
المقام لا يسمح بسرد الحالات، ولكن حسبي الاستشهاد بنموذج دال وبليغ، استلهموا درس شيكاغو يا ساسة المغرب: فهذه المدينة الأمريكية القوية تمثل لوحدها 563 مليار دولار كناتج داخلي خام (أي ما يعادل الناتج الوطني للمغرب ككل خمس مرات!)، وتضم شيكاغو الكبرى حوالي 10 ملايين نسمة، مع ذلك لا يسير مجلسها البلدي سوى 50 منتخب. فكيف نسمح لأنفسنا بتقطيع وحدات ترابية وندك مجالسها بأعداد ضخمة من المنتخبين لتسيير مدن لا تنتج حتى 0،1 في المائة مما تنتجه شيكاغو من ثروة؟!