Saturday 1 November 2025
Advertisement
كتاب الرأي

عبد الاله ابعيصيص: الفرح بين الحرية والإجماع.. أنا مغربي ولي حق في الضوء

عبد الاله ابعيصيص: الفرح بين الحرية والإجماع.. أنا مغربي ولي حق في الضوء عبد الاله ابعيصيص

عندما توفي الملك الراحل الحسن الثاني كنت في مخيم لجمعية الشعلة للتربية والثقافة بالهرهورة، في عز الشباب، أحلم علنا بوطن يسع الجميع، وسرا بأشياء لا يمكن الإعلان عنها لسخافتها الآن، فكرة اسقاط النظام كانت مغرية لكثيرين، كانت الشبيبة الاتحادية مدرستنا التي نفخر بالانتماء اليها، بيتنا الثاني،كنا في حدود التماس بين شعارين. الثورة والإصلاح.

 في لحظة تنكيس الاعلام دعانا مدير المخيم العزيز جناح السعيد الراشدي المراكشي الأصيل لاجتماع طارئ، وقفنا لقراءة الفاتحة على ملك كنا نحسبه  ونحن شباب ملكا متسلطا، ربما لأننا كنا ضحايا خطاب سردية الجماهير "ثوري ثوري على النظام الدكتاتوري" أعترف الآن أني لم أكن أفهم معنى النظام الديكتاتوري، إلى أن عرفت كيف تُحكم أنظمة عربية.

اليوم مغربنا ليس هو مغرب آباءنا أقولها بملء الصوت. نعم لازالت أعطابنا تحاصرنا وهشاشاتنا المتعددة تجتم على أنفاسنا، واللاعدالة والظلم وفساد الإدارة وتدهور الصحة العمومية والتعليم العمومي  أشياء كثيرة نسابق الزمن لمحاربتها نعم. لكن مغرب اليوم لمن يبصر ليس هو مغرب الستينات والسبعينات والثمانينات والتسعينات. دعونا نفرح قليلا بوطن ينبني خطوة خطوة.

بالأمس كنا مع لحظة تاريخية. تحول في موقف مجلس الامن بخصوص قضيتنا الأولى:

الصحراء. نعم الصحراء.

فلسطين، السودان، سوريا وباقي جراحنا العربية والإسلامية والإنسانية تهمنا.

 لكن لنا جرحنا الأول...الصحراء.

فرح المغاربة...ملكا وشعبا...شعبا وملكا..

لكن، في عز الفرح خرج علينا أصحاب السترة السوداء.

أتفهم كثيرًا تحفظ "عدد من الناس" من الانخراط في موجات الفرح العام التي تعم الشوارع بين الحين والآخر، سواء تعلق الأمر بإنجاز رياضي أو سياسي أو دبلوماسي. أفهم خوفهم من فكرة "الإجماع"، تلك الكلمة الثقيلة التي كثيرًا ما تتحول من لحظة تلاحم إلى أداة تطويع، نعم فكرة الاجماع فكرة قاتلة، قد تعبير عفوي إلى مشهد منظم بحسابات دقيقة. أفهم أن البعض يرى في كل موجة فرح جماعي نغمة مكرورة في سيمفونية السلطة، وأن الحذر عنده شكل من أشكال اليقظة السياسية.

لكن في المقابل، أتعجب من ذلك الحماس الزائد عن الحد لدى البعض، الذين يغتنمون كل مناسبة لطرح مبادرات بليدة عنوانها "الولاء التام"، كأنهم يسابقون الزمن لتأكيد انتماء لا يحتاج إلى إثبات. حينها يصبح الفرح استعراضا لا مشاركة وجدانية، ويُفرغ من معناه الطبيعي ليُستثمر في الحملات الدعائية أو في بناء رأسمال رمزي قبيل موسم انتخابي حارق. أستغرب من معلق رياضي مثلا ينتهز أي فرصة لذكر أسماء معينة وتمجيدها تمجيدا. كما استغرب من معارض لايعجبه شيءـ

ومع ذلك، ما لا أفهمه، وأكرّر لا أفهمه، هو إصرار البعض على مصادرة حق الآخرين في الفرح، وكأن البهجة تهمة أو ضعف في الحس النقدي. ما ذنب المواطن البسيط الذي خرج إلى الشارع فرحا بفوز المنتخب المغربي للشباب في كأس العالم، أو بنجاح دبلوماسي حققه المغرب في المحافل الدولية، أو بتقدم بلاده في مجالات استراتيجية كالفلاحة، والصناعة، والطاقة المتجددة؟ هل عليه أن يبرر سعادته بموقف سياسي حتى يُسمح له بالابتسام؟

لقد كانت احتفالات المغاربة بكأس العالم للشباب مثالًا على ذلك الفرح الصادق الذي لا يصطنع ولا يُسَيس بسهولة. حين امتلأت الشوارع من الدار البيضاء إلى وجدة، ومن طنجة إلى الكويرة، كانت الأغاني الشعبية تمتزج بالأعلام، وكانت الوجوه تبتسم بصدق لا يحتاج إلى تبرير. ذلك الفرح لم يكن صناعة رسمية ولا إجماعا مفروضا، بل كان تجليا للانتماء الصادق، ولحظة نادرة يستعيد فيها المجتمع ثقته بنفسه.

وفي العمق، لا يمكن فصل تلك اللحظة عن النجاحات المتراكمة التي عرفها المغرب في السنوات الأخيرة. فالدبلوماسية المغربية،سواء الرسمية منها أو الموازية، استطاعت أن تُعيد رسم صورة البلاد في محيطها الإقليمي والدولي.
رجالات الدولة، بدعم وتوجيه من المؤسسة الملكية، عملوا على تحصين الموقف الوطني في قضية الوحدة الترابية، وبناء شراكات اقتصادية جديدة مع إفريقيا وأوروبا وآسيا. وفي الموازاة، لعبت الأحزاب السياسية والبرلمان والمجتمع المدني أدوارا مهمة في تعزيز ما يسمى الدبلوماسية الموازية فكان السياسي والمثقف والرياضي والفنان سفراء غير رسميين للمغرب في الخارج، ينقلون صورة بلد يتحرك بثقة نحو المستقبل.

ولعل ما يميز التجربة المغربية هو هذا التوازن بين الرسمي والشعبي، بين الدبلوماسية الهادئة في الكواليس والفرح العفوي في الشوارع. فحين ينجح المغرب في حدث دولي أو رياضي أو اقتصادي، يجد المواطن نفسه جزءا من القصة، لا متفرجا عليها. هذا التداخل بين الدولة والمجتمع، بين السياسة والمشاعر، هو ما يمنح الفرح المغربي طابعه الخاص:
فرح وطني لا يمكن مصادرته، لأنه نابع من شعور عميق بأن الإنجاز، أياً كانت طبيعته، يمثل الجميع.

أما أولئك الذين يرون في الفرح علامة سطحية، ويعتقدون أن "العميقين لا يفرحون" فهم يقعون في سوء فهم كبير لمعنى العمق ذاته. العمق لا يقاس بالعبوس، والنقد لا يعني بالضرورة التجهم. بل إن أعمق ما في الإنسان قدرته على أن يفرح بصدق رغم الوعي بكل ما هو ناقص، وأن يجد في الفرح شكلًا من أشكال المقاومة الهادئة ضد الإحباط والسخرية والشك.

فالفرح ليس غفلة، بل إعلان حضور.
هو لحظة تتجاوز السياسة دون أن تنكرها، وتستوعب النقد دون أن تُطفئ الحلم.

فلنترك للناس حقهم في لحظة فرح، فهي لا تلغي النقد بل تمنحه إنسانية أعمق.
فليس في الفرح خيانة، وليس في البهجة تفريط.
العميق حقًا هو من يعرف متى يفرح، ومتى يصمت، ومتى يقول:
أنا أيضًا لي حق في الضوء.