الثلاثاء 26 نوفمبر 2024
كتاب الرأي

الصادق العثماني: حوار ساخن مع جهادي تكفيري

الصادق العثماني: حوار ساخن مع جهادي تكفيري

برزت ظواهر غريبة عجيبة على سطح مجتمعاتنا العربية والإسلامية، وخاصة وسط الشباب “المتدينين” ومن بينها الجدال العقيم في شؤون الدين، ليس من أجل إبراز حقيقة الإسلام والتمسك بتعاليمه وأخلاقه وآدابه وتوجيهاته ومقاصده الإنسانية النبيلة والتمسك بالهدي النبوي الشريف؛ وإنما من أجل إبراز عضلات المعرفة والعلم والفقه والفهم في حلبة الصراع تجاه الخصم؛ بغية إفحامه وإسكاته وتسفيه أفكاره ومذهبه؛ لهذا إمامنا مالك رحمه الله تعالى كان يقول: "ليس العلم كثرة الرواية ولكن العلم الخشية"...

وفي هذا السياق دار حوار بيني وبين صديقي “السلفي” التكفيري الجهادي عبر الفضاء الأزرق؛ حيث طلب مني صاحبي وهو يحاورني أن أقتدي به في منهجه هذا؛ لأن منهجه هذا حسب رأيه هو المنهج السلفي الصحيح الذي كان عليه جميع السلف الصالح، وينبغي على جميع المسلمين وحكامهم في مشارق الأرض ومغاربها أن يتبعوه وإلا فهم كفار وجب قتالهم، حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا.. فقلت له يا هذا ربما اختلط عليك الأمر بين “المنهاج” و “المنهج”، فإن كنت تقصد “المنهاج” الذي هو القرآن الكريم والدين الإسلامي، فهذا صحيح ولا يجادلك أحد فيه؛ لأن منزله وواضعه هو الله جل جلاله، يقول تعالى “لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا”؛ أي جعلنا للديانات الثلاث أو الملل الثلاث: اليهود والنصارى والمسلمين، شريعة تحكمهم ويحكمونها في شؤون دينهم ودنياهم .

بالنسبة للمسلمين عن طريق القرآن، واليهود عن طريق التوراة، والإنجيل بالنسبة للنصارى، أما المنهج “السلفي” الجهادي التكفيري الذي تدعونني إليه مشكورا، هذا ليس منهج “سلفي” ولا يحزنون، وإنما هو منهج شيطاني -لا سلفي- وبهذا المنهج الشيطاني كفر الخوارج الصحابة الكرام، وبه خرجوا عن أولياء أمور المسلمين، ومنهجهم هذا بعيد كل البعد عن منهج السلف الصالح رضي الله عنهم أجمعين، علما أن المنهج السلفي المقصود به عند علماء الإسلام الكبار، هي المدارس الفقهية؛ بحيث لم يكن للسلف الصالح منهج واحد ووحيد فقط كما تزعم؛ بل كانوا على مناهج متعددة ومدارس فقهية مختلفة، ابتداءً من عصر الصحابة رضي الله عنهم، فقد ظهر منهجان مختلفان أو مدرستين مختلفتين إن صح التعبير، مدرسة الأثر أي مدرسة الحديث التي كان يُمثلها من الصحابة كل من: عبد الله بن عباس وعبد الله بن عـمر وعـائشة رضى الله عنها وغيرهم من فقهاء الصحابة الذين أقاموا بمكة والمدينة. ثم تبعهم على نفس النهج والمنهج (منهج النص والأثر) كل من: سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، والقاسم بن محمد، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، وخارجة بن زيد، وسليمان يسار، وسالم بن عبد الله بن عمر، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث، وعمرو بن حزم، ومحمد بن سيرين، ومحمد بن مسلم بن شهاب الزهرى، وعطاء بن أبى رباح، وعبد الملك بن عبد العزيز بن جريج، وعبد الرحمن بن أبى ليلى، ووكيع بن الجراح، ومالك بن أنس، والليث بن سعد، ومسلم بن خالد الزنجى، وسفيان بن عيينة، وعبد الله بن المبارك، والإمام الشافعى، وأحمد بن حنبل..

أما مدرسة الرأي والقياس فقد مثلها من الصحابة: عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود الذي كان شديد التأثر بمنهجه في الأخذ بالرأي، والبحث عن علل الأحكام، وأول من وضع قواعد هذه المدرسة في العراق هو الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود الذى أقام بالعراق، كما كان لأصحاب الإمام على بن أبى طالب رضي الله عنه أجمعين دورٌ كبيرٌ في مدرسة الرأي، وكان من أبرز المدارس الفقهية في هذه الفترة بالضبط مذهب ابن مسعود، ومذهب ابن عمر، ومذهب عائشة رضي الله عنها، وهي عبارة عن فتاواهم فيما جد من حوادث. وقد أضاف فقهاء التابعين من بعد الصحابة الكرام اجتهاداتهم الخاصة أيضاً، وظهر فيهم فقهاء أعلام من منتصف القرن الأول إلى مطلع القرن الثاني للهجرة، لعل أشهرهم سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير، ولم يكد يمر القرن الهجري الثاني حتى شهدت الساحة الإسلامية بروز عدد ضخم من العلماء المتخصصين في الفقه، لهم مناهج واضحة، وتلاميذ مجدون، وقد جمعت آراء معظمهم ودونت ونقحت.

وكان من أبرزهم الأئمة الأربعة: الإمام أبو حنيفة النعمان (80 هـ ـ150هـ) وكان إمام مدرسة الرأي في العراق.والإمام مالك بن أنس (93-179هـ) والإمام محمد بن إدريس الشافعي، الذي عاش رحمه الله ما بين(150ـ204هـ).والإمام أحمد بن حنبل الشيباني رضي الله عنه، الذي عاش رحمه الله ما بين (164ـ241هـ).

ولقد قيض الله لهذه الأمة الإمام الشافعي المطلبي؛ بحيث تنبه لخطورة الجمود والتقليد وعدم فهم مقاصد النصوص القرآنية وغايات وأهداف السنة النبوية الشريفة، فألف الرسالة فجمع ما كان قد تفرق، ونسق ما كان قد تشتت واختلط، فلذلك اعتبره الأئمة–من بعده- مجدد القرن الثاني.

وشكلت رسالة الشافعي المدونة التأسيسية للاجتهاد الاستنباطي، فصححت قواعد الفهم، وسارت على طريقة البيان الجامع بين مقتضيات الألفاظ العربية والمعاني القياسية.

وجاء من بعد الشافعي أفذاذ من العلماء ساروا على النهج نفسه، وربطوا بين الألفاظ والمصالح، وجمعوا بين الاستنباط والتنزيل -وإن كان للاستنباط غلبة على التنزيل- وسلكوا طريق التوفيق، فكان على رأس هؤلاء العلماء الأجلاء أبو المعالي الجويني (ت478هـ).. وغيره ممن تبعوا أعمال الشافعي بالشرح والتوضيح والتقعيد والتفريع، فألفوا النفائس من الكتب كالبرهان والمستصقى والغياثي والإحياء... لكن بالرغم من هذه الجهود العلمية المضنية من أجل إعادة إحياء علوم الدين ومقاصده، لم تكن لتستمر بفعل آثار الانكسار التاريخي الذي أصاب في وقت مبكر مؤسسة الخلافة الحامية لبيضة الإسلام، فسرعان ما سادت روح التجزيء والتقليد، فنجد مثلا ساداتنا العلماء ومشايخنا الفضلاء، أفاضوا في الشرح وشرح الشرح والتأليف في النوافل والسنن والمندوبات والمستحبات والمكروهات والمحرمات.. بينما انتاجاتهم العلمية في مواد إسلامية أخرى كالعدل والحرية وحقوق الإنسان، وحقوق العمال والسياسة الشرعية، والاقتصاد، والعلاقات الدولية والتجارية، وغير ذلك من جواهر الإسلام وروح القرآن الذي كرم الإنسان.

كان قليل جدا، فكان الطالب المسلم مثلا في جامعة القرويين بالمغرب يقضي 40 سنة من عمره في حفظ القرآن الكريم بدون فهم ولا تدبر، ثم ألفية ابن مالك، ومختصر الشيخ خليل عن شرح الدردير.. وما أود قوله والوصول إليه في هذه الدردشة مع صديقي “السلفي” التكفيري الجهادي، هو أن كل مسلم يقول لا إله إلا الله محمد رسول الله، ويقيم الصلاة ويؤتي الزكاة، ويصوم رمضان، ويحج بيت الله الحرام، ويؤمن بأركان الإيمان والإسلام، ويطيع الله ويطيع الرسول صلى الله عليه وسلم، وأولياء أمور المسلمين، فهو سلفي على منهج السلف الصالح، وعلى هدي نبينا عليه الصلاة والسلام، الذي أمرنا بالسمع والطاعة لولي الأمر، ولو كان عبدا حبشيا، أما أمثالكم وما ترتكبونه في حق المسلمين من قتل وتفجير وتكفير وخراب ودمار، مع إعلان “الجهاد” والقتال ضد حكام المسلمين وتكفيرهم والخروج عليهم، فالسلفية بريئة منكم، وبعيدة عن منهجكم الشيطاني هذا كما بعدت السماء عن الأرض، ويا ليت قومي يعلمون.