إن العلاقة ما بين الثورة الرقمية والصحافة والاعلام تقتضى بالخصوص التوقف عند الإمكانيات التي يتيحها التطور التكنولوجي لتنمية الصحافة وكسب رهانات المستقبل، والتعامل الجدى مع انعكاساتها وتأثيراتها على الأداء المهني لوسائل الاعلام مع استحضار الاشكاليات التي تطرحها هذه " الثورة " لكن بمقاربتها بالمتغيرات المجتمعية، ومزاج الرأي العام لاستعادة ثقته المفقودة.
إلا أن سائل الإعلام، تواجه في الوقت الراهن، تحديات متعددة؛ من بينها اسهام التكنولوجيات الحديثة، في كسر احتكار الصحافيين والإعلاميين، لنشر وتعميم الأخبار والمعلومات التي كانت الى وقت قريب، اختصاصا للصحافيين خالصا منذ سنة 1605 بداية الصحافة المكتوبة بنشر أول صحيفة أسبوعية في ألمانيا، وفي سنة 1705 ظهرت أو صحيفة يومية انجليزية، هي " الديلي كورانت".
تكنولوجيا الإعلام
وإذا كان العديد من الخبراء يعتبرون، أننا أمام ثورة صناعية ثالثة مرتبطة بتنمية تكنولوجيا الإعلام والتواصل، بعد ثورة صناعية أولى ارتكزت على تطور الآلة البخارية والسكك الحديدية، وثانية اعتمدت على استغلال الكهرباء والبترول، فإنه على المستوى الإعلامي، فإن " الثورة " الرقمية، التي أجهزت على ما تبقى من الصحافة الورقية.
كما أن التكنولوجيا الجديدة، وإن مكنت معظم الشرائح الاجتماعية بدون اللجوء لوسائل الاعلام، من الحصول على المعلومات، مباشرة عبر وسائط التواصل المتعددة، فإنها بالمقابل، أسهمت بشكل كبير في فقدان الآلاف من الصحافيين لوظائفهم في مختلف بلدان العالم، وإفلاس العديد من المنابر الإعلامية، وخاصة الصحافة الورقية هذه الأخيرة وإن استمر بعضها في الصدور، فإنها تعيش “قصة موت غير معلن”، عنوان رواية الأديب الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز صاحب " مائة عام من العزلة " والفائز بجائزة نوبل للأدب سنة 1982.
تطوير القدرات
فرضت هذه التحولات العميقة على مختلف الفاعلين في الإعلام والاتصال، التكيف مع هذه المتغيرات؛ وهو ما ألزم الصحافيين والإعلاميين، بتملك المهارات الجديدة التي تقتضيها التكنولوجيات الحديثة، والعمل على تطوير قدراتهم، من أجل التلاؤم مع البيئة الرقمية والفرص التي أضحى يوفرها الحقل العالم الافتراضي، المرشح لمزيد من التطور بفضل هذه التقنيات وفرص الذكاء الاصطناعي.
هذه التحديات حتمت على وسائل الإعلام التفاعل مع التحولات المتسارعة، لكن في نفس الوقت فرضت الإجابة على الإشكاليات التي تطرحها وسائط التواصل الحديثة، ليس فقط على المستويات التشريعية والقانونية والتنظيمية والأمنية؛ بل كذلك على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، والتعاطي باحترافية واتقان مع هذه التقنيات الجديدة، وذلك بهدف ضمان البقاء، وفي نفس الوقت تجويد وتطوير الأداء الصحافي والإعلامي للاستجابة للحاجيات الجديدة الرأي العام.
اعلام وخوارزميات
غير أن التحديات التي تواجه الصحافة، في ظل هيمنة الخوارزميات عليها، تحتاج إلى "وعي أكبر"، وتأهيلا للموارد البشرية، للتفاعل مع الإكراهات التي يفرضها تغول التقنية، والخوارزميات، مع جعل البرمجية، وسيلة لمساعدة الذكاء البشري في فهم العالم وتحويله لما يمكنُ أن ينفع البشرية بدلا من تركه، يتحول إلى أداة لن تكون ضد الصحافة والاعلام فقط، ولكن ضد البشرية كذلك، حسب جايسون واتاكر في مؤلف ” عمالقة التقنية والذكاء الاصطناعي ومستقبل الصحافة " الذي يقدم فيه رؤية نقدية للطرح السائد حول العلاقة التي تجمع بين كبرى شركات التكنولوجيا بالصحافة وتوظيفها للهيمنة وتشييد تقنية للهيمنة.
كما يعتبر جايسون واتاكر الذي يقارب في كتابه الصادر سنة 2019 البيئة الجديدة وظهور الصحافة الرقمية، والاعلام البديل واشكاليات المعلومات المضللة، وميلاد ما يصفه بحقبة " ما بعد الإنسان"، أن التحول للإعلام الجديد الذي شرع في الظهور في العصر الرقمي، هو تحول من الصحافة كمحاضرة إلى الصحافة كمحادثة، لكون سلاسة التواصل التي توفرها مواقع التواصل الاجتماعي من قبيل " فيسبوك" و"تويتر" مع الملايين من المتابعين، له فعالية كبيرة في خدمة الروبوتات المنتجة للأخبار المزيفة على أوسع نطاق ممكن.
اقبال وتوجس
ويلاحظ بأنه بقدر ما يسجل اقبال متزايد على التكنولوجيا، خاصة فئة الشباب، بقدر ما يلاحظ توجسا مبالغ فيه، بدعوى الاستخدام السيء لهذه التكنولوجيات الحديثة، في الوقت الذي بلغ عدد المشتركين في الانترنيت بالمغرب 42.1 مليون مشتركا عند متم سنة 2024 مسجلا بذلك معدل انتشار قياسي بلغ 112.7 في المائة ( حسب مديرية الدراسات والتوقعات المالية )، مع ارتفاع حظيرة المشتركين في الهاتف المحمول الذي انتقل من 55 مليون مشترك في شتنبر 2023 الى أزيد من 60 مليون، في 2024، مع تغطية 70 بالمائة من الساكنة بخدمات الاتصالات من الجيل الخامس في أفق 2030 ، وفق ما جاء في مشروع الميزانية الفرعية لوزارة الانتقال الرقمي وإصلاح الإدارة برسم السنة المالية 2025.
وعلى الرغم مما يتداول في الإنترنيت، من غياب النزاهة والاتجار الرقمي، الذي أدى إلى " زعزعة منظومة الإعلام الجماهيري وإنهاكها"، و"تهديد أسس الديمقراطية"، فإنه لا يمكن فهم الصحافة والإعلام، فهما شموليا، دون الإحاطة بمؤسسات المجتمع ونظمه المتعددة، لأن وسائل الإعلام والاتصال، تعد جزء من البناء الاجتماعي، وأن تطورهما، نتيجة لعمليات التقدم السياسي والاقتصادي والاجتماعي الحاصل في أي بلد، وهو ما يجعل الاعلام، لا يستطيع أن يظل مستقلا عن مجمل البيئة المحيطة به.
التربية على الميديا
وفي هذا الصدد، يشكل الالتزام بمعايير أخلاقيات المهنة، للخروج من هذا النفق، " ضمانة ذهبية" بالنسبة للعاملين في وسائل الإعلام وكذلك في التكنولوجيات الحديثة للاتصالات معا، وأيضا لكل من يسعى إلى الحصول على وسائل اتصال موثوقة وآمنة، مع العمل على فتح نقاش عمومي واسع حول إشكالية التخليق، لكونها من بين أسس إعادة كسب ثقة الجمهور، ولأن القيم الأساسية، كالموضوعية والدقة والاستقلالية والمعالجة الإعلامية المسؤولة، تظل قيما ثابتة وعلى نفس الأهميّة، حتى في هذا العصر الذي تطغى عليه الثورة الرقمية.
كما إعادة الاعلام الى أحضان الثقافة، وتأسيس شراكة جديدة مع جمهور وسائل الإعلام والثقافة وصناع السياسة لإقناعهم بضرورة تعزيز دور الصحافة الأخلاقية، وبإمكانية استخدام الإعلام كمصدر إلهام لوضع برامج جديدة للتربية على الميديا في المقررات والمناهج الدراسية منذ المرحلة الابتدائية.
*مداخلة في المؤتمر الدولي الأول حول " التكنولوجيا الرقمية : صون الهوية والثقافة الوطنية" المنظم من لدن كلية الحقوق بقلعة السراغنة بشراكة مع مؤسسة كش بريس الإعلامية بالمغرب ومركز عناية الثقافي والفكري مابين 21 و23 نونبر2025.